لم أشأْ أن أجعل عنوان مقالتي هذه " دعوة للمصالحة " خشية أن يُفهم من هذا إلغاء جوانب الاختلاف ، لأنه قد يوجد ما يدعو للاختلاف في أمور الشريعة أو في مصالح الدنيا ، فالاختلاف سنة إلهية ولا حيلة في دفعها ، بل لو لم يوجد الاختلاف لكان ذلك تفويتاً لكثير من المصالح والخيرات ، وقد امتنّ البارئ جل وعز بتنوّع ألسنتنا وألواننا وسائر أشيائنا . التصافي يعني استثمار الاختلاف إيجابياً ، عوضاً عن أن يتحول إلى تحضير للصراع واستعداد للنزاع . التصافي يعني أن تجتمع القلوب وإن لم تجتمع العقول . التصافي يعني تفعيل " الأخلاق " على أكمل الوجوه ، وليس تفعيل "المعرفة" فحسب . قد تقتضي المعارف والاجتهادات أن نتفاوت في مواقعنا ورؤيتنا ومواقفنا وتحالفاتنا ولكن الأخلاق تقتضي أن لا تتحول نتائج المعرفة والاجتهاد إلى قسوة على النفس ، بالقسوة على أحبتنا ، وقد قال ربنا سبحانه : " (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)(النور: من الآية61). التصافي يعني الاهتمام الكبير بدوائر المتفق عليه ، والعناية بالمشتركات الإنسانية وهي ضخمة ، والمشتركات الإيمانية وهي ضخمة أيضاً ، ولهذه المشتركات من الحقوق الشيء العظيم الذي قرّره القرآن ، وأكدته السنة ، وعززته التجارب الإيجابية والسلبية معاً . التجارب تصيح بنا أن نتحالف ونجتمع على القواعد الكلية والمشتركات الشرعية والمصالح الحياتية . وألا نتجاهل الخلافات سواء كانت جوهرية أساسية ، أو كانت جزئية فرعية ، لكن لا نجعل الإحساس بهذه الخلافات هو الذي يتحكم في عقولنا ، ويسيطر على عواطفنا وقلوبنا ، ويؤسس لعلاقاتنا البَيْنيّة لئلا تتحول العلاقات إلى حروب ومكايدات وتقارير سلبية يرفعها القلب للعقل ، ثم يفيض بها العقل للسان واليد والقلم . الحياة ليست معركة . التصافي هو الاختلاف الهادئ ، والاتفاق الأصيل . التصافي هو الخلق الكريم ، والمعرفة المحققة . التصافي هو الفصل بين حق العلم وبين غرور النفس ونزقها وشيطنتها وكبريائها وأنانيتها . التصافي هو الانتصار في معركة الصراع الأولى ، الصراع مع أهواء النفس الخفية ، ودوافعها الباطنة ، وشرورها المترسخة ، والتي تظهر أحياناً بهيئة الخير والإيمان والغيرة والصفاء ويصعب على صاحبها ملاحقتها وكشف ملابساتها وتمشيط جيوبها الخفية المتغلغلة في " العقل الباطن " ، (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:7،6) . وسبحان العليم بمداخل النفوس ومساربها والمطلع على خفاياها وأسرارها (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19) . الصفاء مكاشفة مع النفس ، وتمرد على أحكامها الجائرة ، وأمراضها المسيطرة ، وإيحاءاتها المدمرة . التصافي كشف لعيوب الذات ، وتواضع لرب الأرض والسماوات ، وطلب للمغفرة بحفظ مقامات الآخرين وحسن الظن بهم ، وتسامح مع زلاتهم حتى حين تكون زلاتهم إجحافاً في حقك أو عدواناً عليك أو قسوة مفرطة أو ظلماً طويلاً ممتداً لا عدل معه ، ولا تراجع . التصافي إدراك جيد بأن الكلام سهل والفعل ليس كذلك ، فلِكي نتجاوز المرحلة المتخلفة في واقع أفرادنا وجماعتنا وتياراتنا ومجتمعاتنا ودولنا نحتاج إلى الرقِيّ الفردي ، والتفوق على الـ " أنا " ، وتجاوز الحظوظ الذاتية ، نحتاج إلى مبادرات نبيلة من هذا النوع هنا وهناك ، تتجاوز الأتباع والمريدين ، والمصالح الخاصة لتكون تأسيساً حقيقاً لمستوى من التجرد والصدق يسعى إليه الجميع . دعونا جميعاً نردد (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(الحشر: من الآية10) ، ودعونا نردد مع الشاعر قوله :
إنني أدعو جميع المخلصين لكلمة سواء ، بعيداً عن صخب الجماهير وضجيجها وضوضائها وإسقاطاتها . دعونا نتناول عبارات الاعتذار عمن أخطئوا علينا وأساءوا الظن بنا ، وليس أن نطلب منهم أن يعتذروا .. (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)(النور: من الآية22)