رد: أمهات المؤمنين رضي الله عنهم ..
أمهات المؤمنين رضي الله عنهم ..
قال أبو بكر الصِّدِّيق - وكان يُنفق على مسطح بن أُثاثة لقرابته منه وفقره -: واللهِ لا أُنفِق على مسطح شيئًا أبدًا بعدَ الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} إلى قوله: {وَالَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكر الصِّدِّيق: بلى والله، إني لأحبُّ أن يغفرَ الله لي، فرجع إلى مِسْطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزِعها منه أبدًا.
قالت عائشة: وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سأل زينبَ بنت جحش عن أمْري فقال لزينب: ماذا علمتِ أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله، أحْمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فعَصَمها الله بالورع، قالت: وطفقتْ أختُها حَمْنة تحارِب لها، فهلكتْ فيمَن هلَك.»
قال ابن شِهاب: "فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرَّهْط، ثم قال عروة: قالت عائشة: والله، إنَّ الرجل الذي قِيل له ما قيل ليقولُ: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفتُ من كنف أنثى قط، قالت: ثم قُتِل بعدَ ذلك في سبيل الله[11] ".
وهكذا فقدِ انتصرت عائشة في حديث الإفك، وبرَّأها الله -تعالى- مما قالوا بالقرآن الكريم، وقدرت عائشة هذا الانتصارَ حقَّ قدره، وآبتْ إلى بيتها أوبةَ الظافر المتين، وظلَّت أعوامًا مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في نِعمة وسعادة وسرور، يتنزل الوحي من الله في بيتها، ويُقرئها جبريل السلام[12]، ويحبُّها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويُعظِّمها المسلمون[13].
المبحث الخامس: بعض مناقبها:
تميَّزت عائشة -رضي الله عنها- بفضائل عالية، وأخلاق سامية، فكانت -رضي الله عنها- شديدةَ الحياء، فمَن لا حياءَ له لا دِين له، مِن هذا المنطلق أعطتْ عائشة مثالاً رائعًا يُحتذَى به، كانت تحتجب مِن حَسَن وحسين لفرْط حيائها، حتى قال ابن عباس: "إنَّ دخولهما عليها لَحِلٌّ" [14].
ويُعدُّ تواضعها -رضي الله عنها- من مكارم الأخلاق التي تتمتَّع بها، وممَّا يدلُّ على ذلك: أنَّ داخلاً دخل على عائشة، وهي تخيط نقبة لها، فقال: يا أمَّ المؤمنين، أليس قد أكثر الله الخير؟! قالت: دعْنا منك، لا جديدَ لِمَن خَلَق له[15].
وقد أوصتْ -رضي الله عنها- عند وفاتها: "أن لا تتبعوا سريري بنار، ولا تجعلوا تحتي قطيفة حمراء"[16].
عُرِفت -رضي الله عنها- بزهدها وكرمها وجرْأتها في الحق وجهادها، وأعطتِ القدوة في كل ذلك -رضي الله عنها- والشواهد كثيرة، لكنَّ المجال لا يسعفني هنا لإيراد المزيد منها، ولذلك سأنتقل إلى المبحث التالي.
المبحث السادس: ثقافتها - رضي الله عنها - ومكانتها العلمية:
لقد أهَّلتْها نشأتُها في بيت أول مَن آمن بالدعوة المحمدية، وانتقالها فيما بعدُ إلى بيت صاحب الرِّسالة -صلَّى الله عليه وسلَّم- حيث اكتمل نضجُها، وتفتَّحت آفاقها المعرفية، واستوى تكوينها، كلُّ ذلك أهَّلها لتكونَ عالِمةً بأحكام الدِّين، وقمَّة سامقة فيما يتعلَّق بالسُّنة، ورواية الحديث، ويدلُّ على ذلك مروياتها في الكتب السِّتَّة، وغيرها من مصنفات الحديث.
تُعدُّ -رضي الله عنها- من المكثرين، ويبلغ مسندُها ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، اتَّفق لها البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستِّين[17].
ومن مزاياها: أنَّها كانت تجتهد في بعض المسائل، وتستدرك بها على علماء الصحابة، وفي ذلك ألَّف الإمام الزركشي كتابًا خاصًّا، سمَّاه "الإجابة لإيراد ما استدركتْه عائشة على الصحابة".
كانتْ غزيرةَ العلم، موسوعية المعارف، عن أبي موسى الأشعري قال: "ما أَشْكَل علينا -أصحابَ رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم- حديثٌ قطُّ، فسألنا عائشة عنه إلاَّ وجدْنا عندها منه علمًا"[18].
وعن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: "ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بسُن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ولا أفقهَ في رأي إن احتُيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزلتْ، ولا فريضة- مِن عائشة"[19].
وغيرُ هذه الشواهد كثيرة، وهي لا تؤكِّد إلا حقيقةً واحدة، وهي أنَّ أم المؤمنين عائشة هي -بحقٍّ- أفقهُ نساء الأمَّة على الإطلاق، وأغزرهنَّ علمًا.
المبحث السابع: الحب والغَيْرة في حياة عائشة:
لقد كانت -رضي الله عنها- متميِّزة بعِطر الحبِّ الذي يغمرها في بيته -صلَّى الله عليه وسلَّم- حتى إنَّها ما كانت تحدِّث عنه إلاَّ بذلك التعبير الشفَّاف "حِبِّي رسول الله قال كذا"، وكانت عائشة واثقةً من مكانتها في قلْب النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأنَّها هي الأثيرة عنده.
ولكنَّها في كلِّ الأحوال أنثى، كانت تتملَّكها الغَيْرة من أن ينبض هذا القلْب الكبير بحب آخَرَ، فقد كانتْ في بيت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- تنصت إليه بإمعان، وتَعقِل ما يقول، وترفع إليه حوائجَ ذوي الحاجات، وتردُّ عليهم بما يُريد، وتنام مبكِّرة بليل، ويَبيت يصلِّي قريبًا منها، وإذا ما أراد السجود غمزَها لتنحَّى قليلاً؛ كي ما يجد موضعًا يضع فيه جبهته السمحة[20]، وربَّما استيقظتْ من نومها، فتبحث عنه ولا تجده مكانَه، فتغلي سَوْرة الغَيْرة في نفسها، ثم لا تلبث أن تهدأَ حين تسمعه يصلِّي قريبًا منها، وأحيانًا تغاضبه، وتحاول مع بعض صديقاتها من نسائه أن تحتالَ عليه[21].
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «كان النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عند بعض نسائه، فأرسلتْ إحدى أمَّهات المؤمنين بصَحْفة فيها طعام، فضَربتِ التي النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في بيتها يدَ الخادم، فسقطتِ الصحفة فانفلقتْ، فجمع النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فِلقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصَّحْفة، ويقول: غارت أمُّكم، ثم حبس الخادِم حتى أتى بصحفة مِن عند التي هو في بيتها، فدَفَع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسِرتْ صحفتُها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت»[22].
وكانت -رضي الله عنها وأرضاها- تُبدي بين الفَيْنة والأخرى شوقًا إلى معرفة مكانتها عندَ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وسرعان ما يتحوَّل هذا الشوق إلى نوع من الزهو والاستمتاع باعتراف الرسول بهذا الحبّ، ومقداره.
فلا معنى للزوجيَّة إلا بهذا الحبّ، ولا قيمة للحبِّ إلا في الإحساس به، والتعبير عنه بهذه اللغة الرقيقة، والألفاظ الشفافة[23].
المبحث الثامن: مرضها وفاتها رضي الله عنها:
مرضتْ أُمُّ المؤمنين عائشة في آخِرِ حياتها مرضًا ألْزمها الفراشَ، وأحاطها الصحابةُ بعنايتهم واهتمامهم بصحَّتِها، فكان يدخل عليها بعضُ الصحابة الذين هم مِن قرابتها، مثل عبدالله بن عباس، فيُثني عليها؛ لتخفيفِ وطأة المرض عنها، ولم تكن تحبُّ أن تسمع مَن يُثني عليها، قالت -رضي الله عنها-: "أثنَى عليَّ عبدالله بن عباس، ولم أكن أُحبُّ أن أسمع أحدًا اليوم يُثني علي، لودتُ أنِّي كنت نسيًا منسيًّا"[24].
تُوفِّيت -رضي الله عنها- سنة 57ه؛ وهذا ما قاله هشام بن عروة، وأحمد بن حنبل وغيرهم.
وقد قيل: إنها مدفونة بغربي جامع دمشق، وهذا غلط فاحش، لم تَقدَم -رضي الله عنها- إلى دمشق أصلاً، وإنما هي مدفونة بالبقيع[25]، وقد صلَّى عليها أبو هريرة بعدَ الوتر في شهر رمضان، ودُفِنت بالبقيع.
وهكذا نهي هذا المقتبس اليسير من أنْضرِ صفحة، وأطْهرِ صحيفة في صحائفِ النِّساء المسلمات الخالدات- رضي الله عنها وأرضاها.
|