ازياء - فساتين سهرة و مكياج و طبخ

':المفكر في حياتنا:'

يعد الفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه (1844-1900) حالة فلسفية متميّزة، بل إنّ الحديث عنه لم ينقطع لما تحمله حياته من مفارقات عجيبة وغريبة، فهذا الفيلسوف الثائر والمبشر بعالم جديد (كما يقول عن نفسه) كان فكره يجسد حياته تماماً لأنّه تعبير صريح واقعي عنه، عاش حالات إنتكاسات كثيرة، بدأت بفقده والده وهو في الخامسة من عمره ليعيش بين مجموعة نساء أثرن بشخصيته كثيراً، مما يجعل نظرته للمرأة مختلفة تماماً عن الواقع الذي عاشه، ثمّ توالت عليه الأمراض إلى أن أصيب بالجنون في آخر عقد من عمره، عدا الإحباطات الشخصية وفشل بعض مؤلفاته حين صدورها.
كتب عن نيتشه كثير من المؤلفين، وإن كانت مؤلفات كل من عبدالرحمن بدوي وفؤاد زكريا وجمال مفرج الأكثر تميّزاً بين ما كتب عنه، وقد بدأ فؤاد زكريا سيرة نيتشه بقوله (شيء واحد اتفق عليه كل من كتبوا عن نيتشه وأكده هو ذاته في كتاباته، وأعني به أن فلسفته امتزجت بحياته وأصبحت تكون قطعة منها، كذلك يضيف نقطة مهمّة جدّاً، وهي أن نيتشه بالرغم من إنعزاله وحدته ومشكلاته الصحية استطاع أن يعيد الحياة في أفكار قد تكون جامدة ومهملة في حياة الآخرين.
وقد عاش حياة مضطربة قلقة جعلت منه ناقداً لاذعاً لكل شيء، رافضاً الجمود ومحطماً ليقود الفكر من قيم وفلسفات، لدرجة أنّه عد المرجع الأوّل والملهم لتيار ما بعد الحداثة في العصر الحديث، وإن كان هناك جدل كبير حول هذه النقطة، ولكن الشيء المهم في نيتشه شعوره الدائم بقيمته ونفسه وفكره، حتى أدى ذلك لظهور نوبات جنون العظمة لديه، ومن شدة إيمانه بنفسه وفكره كتب في مؤلفه هذا الإنسان يقول (أعرف قدري، سيأتي يوم سيقترن اسمي بذكرى شيء هائل رهيب، بأزمة لم يعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجة من الوعي).
وبالرغم من كل هذه القوة وتعدد المؤلفات التي فشل بعضها حين صدورها فتكبد من أجلها خسائر مادية ومعنوية، بقيت مؤلفاته مجهولة أو متجاهلة، بل عدها بعض المنظرين كتب جنون لا أكثر، إلى أن جاء من بعثها وأحياها، حيث يقول جمال مفرج في كتابه "نيتشه الفيلسوف الثائر" (وعلى الرغم من كل هذه المؤلفات، فقد ظل الناس يتجاهلون كتاباته حتى بدأ جورج براندز يلقي محاضرات عنها في كوبنهاغن عام 1888 وهي محاضرات اكتسب نيتشه شهرة بسببها، في الأعوام العشرة التالية ولكن دون أن يعلم بذلك، إذ كان قد أصيب بانهيار عقلي شامل).
ما تم ذكره مجرد خطوط عامة وبسيطة عن فيلسوف له أثره، وله مكانته بالرغم من كل موجات النقد التي وجهت له بسبب تطرفه في كل شيء ومن أهمها الهجوم على المعتقدات، مما جعل قارئوه يقفون مواقف متناقضة منفسمين بشكل كبير، وقد ذكر جمال مفرج عبارة عن لويس عوض يقول فيها (فمن الناس من يشمئز لذكره (يقصد نيتشه) أو تتحرك فيه عوامل البغض العميق، ومنهم من يمتلئ أسفا على الإنسانية الشقية التي أنجبت مثل هذا المفكر الشقي).
وفي سيرة نيتشه وحياته أفكار تجعلنا نتوقف عندها في واقعنا اليوم، منها العلاقة بين ما نقوله ونكتبه وبين ما نعيشه وهل بذلك يتطابق القول مع العمل؟ أم أنّهما منفصلان ولا رابط بينهما؟ كذلك هل نكتب من واقع حي معاش أم مجرد خيال وافتراضات زائلة وتصورات ذاتية ليس ألا؟ ولكن الأهم من هذا كله الإهتمام بالمفكر أو الكاتب ذاته وضعه في الإطار والمكان الصحيح، لا أن نتظر مجيء يوم نبحث عنه بين ركام الكلمات والتنظيرات، لأن آفتنا الآن حتى المفكر أصبح يحتاج لمن يعرفه ويقدمه ويدعمه عن طريق حزب أو قبيلة أو طائفة أو جماعة، وإن لم يحصل له ذلك يبقى بعيداً ومهمشاً وبذلك لم يأخذ حقه ومن جانب آخر تفرض آراء قد تكون باهتة وعقيمة، ولكن يبقى دائماً الفكر الجميل هو الأجمل.
المصدر: كتاب العيش في الحقيقة (مقالات في الفكر والثقافة)

:p;):p;):p;):p;)