سأَعيشُ ولَو باَحلامي
ألقت بِجَسدها الصّغير على السرير واستلقت على ظَهرها , وضَعت يدها خَلفَ رأسها .
رَفعت بَصرها إلى الأعلى . وتَنفست بِعمقٍ شَديد , لِتنسكِبَ على وَجنتيها دمعتينِ يملؤهما الشَوقُ والحنين. كانت تُتمتِمُ مع نفسِها , وبَراءةُ الطفولة ما زالتْ تَملأ تمتماتها . أَمسكت بهاتفها المَحمول , أرسَلت إليها بِضعَ كلماتٍ تُعبر فيها عن شَوقها لها , وعَن فقدانها لحَنانٍ ينبعثُ منها . تَحولت إِلى جانبها الأَيمن , وانسَلت بهدوِء تَحتَ الغِطاء, وهِيَ تحلُمُ بأنّ ماما تنامُ الآنَ بقربِها . *** أَقبَل الصّباح لتَستَيقِظ أَحلام على هَديلِ حمامةٍ تَقفُ بالقُربِ منَ النافذة . فَنهضت مِن فراشها لتفتَح النافِذة , وَتكِئ على حَافَتها تتَأمل الحَمامة . أَخذت أحلام تتساءل : ما بال الحمامة يا ترى ..! هَل تَفتَقدُ أُمها مثلي ..! تَنفس أحلام بِعمق وَهزت كَتفيها وقالت : رُبما من يَدري .! تَركَتِ النافذة واتَجهت إلى الحَمام لِتغتَسل وَ تستَعد للذَهابِ إلى المَدرسة . ارتَدت زيها المَدرسي , ثُم وقَفت أَمامَ المرآة تُعيدُ تَصفيفَ وتَرتيب شعرها . وبَعدَ أَنِ انتَهت مِنه , حَدقت في المرآةِ لتمعنَ النظرَ في ملامِح وَجهِها . أَحقا أشبهُ ماما كَما يَقولُ الناس ؟ لقَد بدأت ملامِحُ أمي تَختفي عَن ناظري مِن طَولِ الغياب . أُمي لقد طالَ غيابكِ عنا . قالتها بَعدَ أن تَنهدت بِشدةٍ وهِيَ تبتَعدُ عن المرآة . انَحنت قليلاً بالقربِ من مَكتَبها لِتأخُذَ حَقيبَتها , وَتسرع في النُزول , فَجدتها بانتِظارها في الأسفل . *** جَلس أحلام على مائدةِ الإفطار وَهيَ شارِدةُ الذهن . أَحستِ الجَدةُ بشرودِ ذهنها فأخذة تُسائلها : ما بالُكِ يا أحلام هَكذا على غَيرِ عادتِك ,أّهناكّ ما يُشغلُ بالك أو يُقلقكِ ؟ - جَدتي , مَتى سَتعودُ أمي ! هل سَيطُول غيابُها عنّا ؟ - حَبيبَتي أنت (قالتها وَهي تَحتضنها ) سَتعودُ عما قَريبٍ بإذنِ الله . - أَشعُر بأنَكِ تُخفينَ عني شَيئًا أَليسَ كذلك ؟ بَدأت أماراتُ التَوترِ تَظهرُ على الجَدّة فأَسرَعت لتُخفي الأمرَ وتقول : هيا حبيبتي , الحافلةُ عندَ البابِ بانتِظارك نَهضت أحلام لِتَرتديَ عباءتها , وَودعت جدتها , لتَخرجَ من البابِ بخُطواتٍ متَثاقلة , وبعَينينِ تَرقُبُ عودةَ " ماما " . *** دَخَلت أَحلام إلى المَدرسة . تَلفت حَولها لِتحاكيَ نفسها : ها أنا ذا أَكبرُ يوماً بعدَ يوم ولم ترني ماما منذُ مُدةٍ طويلة . عَادَ إليها شَريطُ الذكرياتِ الذي عايشته معَ والدتها , حِينما كانت تَركُض هنا وهناك , وتأتي مُسرعةً لتلقي بِجَسدها الصَغير في أحضانها . ويَومَ أَن كانت مُتعبة , فَتسهَرُ أمّها اللّيالي من أَجلِ راحَتها . أحلام .. أحلام .. قَطعَ على تَفكيرها يَد صديقتها وهي تَربتُ على كَتفها . أَدارت أَحلام برأسها وقالت : سارة ! أهلا وَسهلا . - صَباحُ الخير يا أَحلام , ما بالك ..! يَبدو بأنك لم تَسمعي ندائي , نَاديتُكِ مرارا دُونَ أن أجَدَ ردةَ فعلٍ منك . مآ بالُكِ عَزيزَتي ؟ - آآآآه آسفة (قالتها وهي تَضعُ يدها على فَمها ) ثم أخذت نَفساً عميقا , لِتعاودَ الحديث : كُنتُ أفَكرُ بأمي , اشتَقتُ لها كَثيراً , لا أدري إلى مَتى سَيطولُ غيابها عَنا . - لا تَقلقي سَتعودُ قريباً بإذنِ الله , لكن ... ما سَبُ غيابِ أمكِ طَوالَ هذهِ الفترة . قَطعَ تَساؤلها صَوتُ الجَرس , يُعلنُ عن بدئ الحصّةِ الأولى . أَسرعتا في الدُخولِ إلى الفَصل , فالدَرسُ سيبدأُ بعدَ قليل . كانَت أحلام تَغوصُ في أحلامها , وَسارة تُوقظها بَينَ الفينةِ والأخرى , لِتعاودَ الانتباهَ للدرس . انتَهتِ الحصّة وتَوالت بَعدها الحِص , إلى أَن حانَ موعد الراحة . *** جَلست أحلام وسارة على أَحدِ المقاعدِ في فِناء المدرسةِ الواسع . وّأخذتا تَتَحدثان مع بعضهما البَعض إلى أن قالت سارة : أحلام ! لَم تُغبريني عَن سَبِ غيابِ أُمك , فجَرسُ الحِصةِ لم يترك لنا وَقتاً للحديث ! تَنهدتْ أحلام بشدة , وأغمضت عينيها , وتَنفست بِعمقٍ شَديد وَقالت : الحِكايةُ طويلةٌ يا سارة . بدأت عندما كنتُ في العاشرةِ من عُمري بَعدَ وفاتِ أبي بسنةٍ واحدة . في أَحدِ أيام الخَريف , طَرقَ رجل بابَ بيتنا طالباً يدَ أمي , قائلاً لنا بأنهُ سيوفّي لنا شيئاً من كَرمِ أبي عَليه , بأَن يرعانا وَيوفرَ لنا السّعادة ويُحققَ مَطالبنا . وافَقت أمي لِطلبه بَعدَ أن انخَدعنا جَميعا بكَلامه . كانتِ السنةَ الأولى لنا معهُ كالجنّة , يُغدقُ علينا ممّا أعطاهُ الله من الخَيراتِ والنعم . لكن .... صمت أحلام هُنيهَةً من الزمن , لتستأنفَ الحديث : لكن شيئاً فشيئاً بداَ يتغَيرُ علينا , حتى أَخذ أمي بَعيداً عنا ومَنعها من رُؤيتنا . رَغمَ انهُ لا يزالُ ينفقُ على أمي ويُغدقُ عَلينَا من نَعيمه . لكن ما فائدة ذلك , بَعد أَن حرمَها من رؤية فلذتِ كبدها . وحَرمنا نَحنُ من حنانها . أَتعلمين يا سارة ! أربع سنينَ مضت دُونَ أن أرى فيها وَجهَ أمي . وها أنا ذا قاربتُ أن أدخل ربيعي السادس عشر دونَ أن أَراها . حتى محادثتها لنا بالهاتف لا تَكونُ إلا بينَ فتراتٍ متباعدة . حاولت أمي الطلاقَ منه مِراراً لكن دونَ جدوى لكني اليَوم رأيتُ شيئاً غريباً في وَجهِ جدتي , وكأنها تُخفي عني شيئاً . ماذا تَتَوقعينَ أن يَكون يا سَارة ! بظنك هل َتعودُ ماما إلينا ؟! *** أَغلقت أُمُ أمل صَفحات الكتاب , بعدَ أن انتهَت من سَردِ الحكايةِ على ابنَتها . أَلقَت أمل بجَسدها في حضنِ أمها , ورَفعت بَصرها إلى السّماء تُتمتمُ بِدعواتٍ ترجُو فيها من الإلهِ أن يَحفظَ لها والدتها , وتَحمدهُ على نِعمهِ التي لا تُحصى . إذ أنها تَستَطيعُ ضمها وَتقبيلها وأَخذ دفء الحَنانِ منها . صَحيحٌ أنّ أمل لم تَرَ وجهَ أمها , لكنّ عيشها في هذا النَعيم يُهونُ عليها ذلكَ الفقد . فَرغمَ العمى , سَيبقى للحَياةِ طعمها الخاص . فلا شَيءَ مستَحيل . يُمكنها أن تَحلم , تَتَخَيل , أن تَرى ضِياءَ الحقِ , وَتسمعَ صوتَ تَغاريدِ العصافِير في كُلّ صباح . أن تَعملَ وتصنعَ ما تَشاء ! فلن يَكونَ العمى عائقاً لها عنِ المَسير . سَتنطَلق في هَذهِ الأرض , ولن تدعَ لليأسِ طَريقاً لهُ إلى قلبها . سَتثبتُ للعالم , أنها لا تَختلفُ عنهم بِشيء . فَبرغمَ العمى , تستَطيعُ العيشَ ولو بأحلامها . __________________ * غمِض عَنِ الدُّنيا عينَيْكَ وَ وَلِّ عنهَا قلبَك ، وَ إيَّاكَ أنْ تُهلِكَكَ كَمَا أهلكتْ مَنْ كَانَ قبلَك ! ؛ فقَدْ رَأيتُ مَصَارِعَهَا ، وَ عَايَنتُ سُوءَ آثَارِهَا عَلى أهلهَا .. وَ كَيفَ عَرِيَ مَنْ كَسَت ، وَ جَاعَ مَنْ أطعَمَت ، وَ مَاتَ مَنْ أحيَت ! - عُمر بن الخطَّاب رضيَ اللهُ عنه |
رد: سأَعيشُ ولَو باَحلامي
سبحان الله وبحمدةه عدد خلقة ورضا نفس ه وزنه عرشة ومداد كلماتة
|
رد: سأَعيشُ ولَو باَحلامي
|
رد: سأَعيشُ ولَو باَحلامي
منورة ياغالية
|
الساعة الآن توقيت السعودية الرياض و الدمام و القصيم و جدة 08:47 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024,
vBulletin Optimisation provided by
vB Optimise (Pro) -
vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.