ازياء, فساتين سهرة


العودة   ازياء - فساتين سهرة و مكياج و طبخ > أقسام عامة > المواضيع المتشابهة للاقسام العامة
تسريحات 2013 ذيل الحصان موضة و ازياءازياء فكتوريا بيكهام 2013متاجر ازياء فلانتينو في باريسمكياج العين ماكياج دخاني makeup
المواضيع المتشابهة للاقسام العامة رواية إنتِ لي كاملة يوجد هنا رواية إنتِ لي كاملة هنا توضع المواضيع المتشابهة


 
قديم   #36

نودى نينو


رد: رواية إنتِ لي كاملة


رواية إنتِ لي كاملة

الحلقةالثالثةوالعشرون
********






خرجت لإحضار بعض متطلبات المنزل في صباح اليوم التالي ، و قضاء بعض الحوائج .

نمت الليلة الماضية على مقعد في الردهة ... بعدما أعياني التفكير المتواصل .

عندما عادت دانة و أرادت الذهاب إلى سامر لتحيه منعتها ، و بنبرة حادة طلبت منها أن تلزم غرفتها حتى الصباح ...

لم أكن أريد لشجار أن ينشب تلك الليلة ، أردت ُ فرصة يتمكن فيها الجميع من ترتيب أفكارهم و استيعاب حقائق الأمور .

حين عدت ُ إلى المنزل وجدت أختي دانة جالسة في المطبخ في وضع يقلق ...

قلت :

" خيرا ؟ هل حصل شيء ؟؟ "

قالت :

" رغد المجنونة ! قررت تأجيل زفافها ! لا يفصلنا عن ليلة الزفاف غير ليال معدودة "

صمت ، و لم أعقّب .

قالت :

" ألن نفعل شيئا ؟؟ "

قلت :

" دعيها هي تفعل ما تريد "

تعجبت و استاءت في آن واحد ، و قالت :

" تعني أن الأمر لا يزعجك ؟؟ "

" ليس للحد الذي تتوقعين ... لا أريد أن يضطرها أحد لفعل مالا تريد "

" لكن الزفاف بعد أيام ! سامر مستاء جدا ... إنه مشتعل كالبركان "

شعرت بالضيق ، قلت :

" هل تحدّثت ِ معه ؟ "

" لم أكد ، تحدّثت ُ مع رغد ، ثم جاء و طلب منّي تركهما بمفردهما ... "

انزعجت من الفكرة ، قلت :

" أين ؟ "

" في غرفتها "



تركت الأكياس التي كنت أحملها تنساب من يدي و ذهبت إلى هناك .

عندما اقتربت من الباب ، سمعت صوت أخي .

كان يتحدّث بعصبية ... أصغيت فإذا بي أسمع رغد تتحدث باكية .

لم أحتمل ، طرقت الباب و قلت بحدة :

" سامر "

ثوان ٍ و إذا بالباب ينفتح و يخرج أخي .

كان مكفهر الوجه مقطب الحاجبين متورم الأوردة .

" نعم ؟ "

نظرت إلى ما ورائه فرأيت رغد ، و وجهها الكئيب المبل بالدموع .

قلت :

" أرغب في التحدث معك "

" فيما بعد يا وليد "

ألقيت نظرة أخرى على رغد فطأطأت الأخيرة برأسها بأسى و استسلام . قلت :

" الآن يا سامر "

قال بعصبية :

" ألا ترى أني مشغول بالنقاش مع خطيبتي ؟ "

و مجرد نسبها إليه يحرّض شياطين رأسي على الشر و القتال .

قلت ُ و الدماء تصعد إلى وجهي و النار تشتعل شيئا فشيئا :

" حسنا ، لكن ... بهدوء ... لا أريد لأي دمعة أن تراق "




و انصرفت .

بقيت ُ جالسا على مقربة ... أضرب أخماسا بأسداس ... و أشد قبضتي و أرخيهما بين فينة و أخرى .

بعد قرابة الساعة ، سمعت ُ الباب يفتح فنهضت مسرعا ... رأيت سامر يمشي أمامي فلما رآني قال :


" سوينا الأمور "

قلت ُ بذهول و خوف :

" ماذا تعني ؟ "

قال :

" سنتم الزواج كما خطنا له "

أدق الشعيرات الدموية في وجهي أحسست بها تتفجر فجأة .

قلت :

" و رغد ؟؟ "

قال :

" أقنعتها "

قلت :

" أقنعتها ؟؟ أم أجبرتها ؟؟ "

قال بعصبية :

" اذهب و اسألها لتأكد بنفسك "

سرت من فوري نحو غرفة رغد . طرقت الباب و قلت :

" أنا وليد "

لم أسمع جوابا . قلت :

" أ أدخل ؟ "

" نعم "

سامر كان يقف خلفي .

فتحت الباب و رأيت رغد تجلس على السرير تخفي نظرها تحت قدميها .

قلت :

" صغيرتي "

ترددت قليلا ثم رفعت رأسها و نظرت إلي . كنت ُ أرى في عينيها نظرات الخوف و الاستسلام . ربما هذا ما جعلها تت في النظر نحوي . قلت :

" هل كل شيء على ما يرام ؟ "

نظرت نحو سامر ثم نحوي و قالت :

" نعم "

لم أرتح للإجابة مطلقا ، قلت :

" و الزفاف ؟؟ نؤجله أو نقيمه ؟ "

قالت :

" نقيمه "

صمت برهة ثم قلت :

" أ واثقة من ذلك ..؟ أخبريني بما تريدينه أنت ِ لا ما يريده سامر و الجميع "

رغد نظرت نحو سامر ثم قالت :

" نعم . واثقة "

قلت :

" إذن لماذا أخبرتني بأنك لست ِ مستعدة للزواج الآن ؟؟ لماذا غيرت رأيك بهذه السرعة ؟؟ "

لم تجب . قلت :

" هل يجبرك سامر على شيء ؟ "

سامر قال بعصبية :

" و لماذا أجبرها ؟ بربّك يا وليد دع الأمور تسير كما هي "

التفت إليه و قلت :

" ابتعد أنت ، و دعني أتحدث معها بحرية "

قال :

" بل ابتعد أنت ، لاحظ أنك تتحدّث إلى خطيبتي أنا "

هيجتني الكلمة مرة أخرى و أيقظت من كان نائما من شياطيني ... قلت بانفعال :

" ابتعد يا سامر و لا تدعني أفقد أعصابي من جديد "

و التفت إلى رغد و قلت :

" اسمعي يا رغد ، لن يحدث شيء لا تريدينه أنت ِ . إياك و الخوف من شيء . فإن كنت ترغبين في تأجيل الزواج فأخبريني الآن بصراحة ... هل تريدين الزواج الآن أم أنك مضطرة إليه ؟؟ "


رغد طأطأت برأسها من جديد و أخفت وجهها خلف يديها و أجهشت بكاءً .

ثار جنوني و أنا أراها هكذا ... التفت نحو سامر الذي لا يزال يقف خلفي و قلت :

" لن يقام هذا الزفاف و أنا حي أرزق "

سامر صاح بعصبية :

" وليد لا شأن لك بهذا "

" لن أسمح لأحد بأن يرغم صغيرتي على شيء مطلقا "

" من قال أننا نرغمها ؟؟ "

و التفت نحو رغد و قال بعصبية :

" هل أنا أرغمتك ؟؟ أخبريه "

رغد وقفت و أولتنا ظهرها و صاحت :

" دعاني و شأني . سأفعل ما تريدون جميعا . دعوني وحدي "

قلت :

" أ رأيت ؟ "

سامر دخل الغرفة و اتجه نحوها و أمسك بكتفيها و أدارها باتجاهنا و هو يقول :

" واجهينا يا رغد ... قولي له أنك قررت ِ ذلك و لم يجبرك ِ أحد "

رغد قالت بعصبية :

" بل أجبرتموني "

حملقنا كلانا فيها ، و قال سامر :

" من أجبرك ؟ "

قالت :

" كلكم . و إن ليس بشكل مباشر. ليس أمامي إلا الرضوخ لقدري . لما تريدون أنتم جميعا .. لما تخطون أنتم جميعا .. كلكم "

أنا و سامر تبادلنا النظرات الحادة ...

قال :

" إذن فأنت ِ لا تريدين الزواج الآن ؟؟ "

قالت بعصبية و هي تصرخ في وجه سامر :

" لا ... لا ... لا "

كان سامر يمسك بكتفيها ، لكن يده تحركت الآن ... و فجأة سدت صفعة إلى وجهها ... أمام عيني ...


ربما لم يكن في الصفعة من القوة ما يحدث الألم الجسدي بمقدار ما كان فيها من إيلام معنوي ... صاحت صغيرتي :

" آي "

و وضعت كفها على خدها المتألم ...

أنا .. أرى صغيرتي .. مدلتي .. حبيبتي رغد .. تتلقى صفعة على وجهها من يد كائن بشري ... أي ٍ كان .. أمام عيني هاتين ؟؟

" سامر ! أيها الوغد ... كيف تجرؤ ؟؟ "

و قبل أن أدع له الفرصة حتى ليلتفت إلي قفزت ُ قفزة واحدة باندفاع إليه و انقضت عليه ، و وجهت لكمة قوية فتاكة نحو وجهه ...

تلاها سيل متواصل من القذائف التي أشبعت بها جسد أخي من رأسه حتى إخمصي قدميه ...

الرغبات التي كبتها في صدري منذ الطفولة و حتى الآن ... و لم أجرؤ على التعبير عنها خرجت كلها من داخلي دفعة واحدة ...

ضربته بوحشية و عنف لم أضرب بهما سواه ، و لم أضرب بهما مثيله منذ سنين

صرت أرفع فيه و أخفض ... و أهز و أرمي ... و ألكم و أرفس .. و ألوي و أثني .. و أمارس كل أنواع الضرب المبرح التعذيبي الذي تلقيته في السجن على أيدي العساكر ... في جسد أخي ...

جن جنوني و لم أتمالك نفسي ... لم أملك منعها أو إيقافها ... ضربت و ضربت حتى أصاب عضلاتي الإعياء و تصب العرق من جسدي كله ... و نفذ الهواء من غرفة رغد فما عدت بقادر على التنفس ...

و لم يكن أخي يقاوم أو يدافع ... بل استسلم لضرباتي.. لا أدري أمنعه من صدها الذهول أم العجز ؟؟

لم أنته من درس الضرب هذا إلا بعد أن فرغت شحناتي كلها .. و تطايرت شياطيني من رأسي واحدا بعد الآخر ...

يداي كانتا تطوّقان عنقه بينما كنت أجثو على صدره ... أكاد أخنقه ...

لا أعرف ما الذي جعلني أتوقف ...

قلت و أنا أشد الضغط على عنقه تارة و أرخي قبضتي تارة :

" ألا تعرف ما الذي أفعله بمن يتجرأ على إيذاء صغيرتي ... ؟؟ "

شدت الضغط و سامر ينظر إلي بفزع و خوف ...

قلت :

" أقتله ... "




و تراءت لي صورة عمّار و هو يبتسم ابتسامته الأخيرة للدنيا ... قبل أن أكسر جمجمته بالصخرة ...

حررت عنق أخي من قبضتي فجأة ... و نهضت كالمجنون ... أتلفت يمينا و يسارا ... كأني أبحث عن عمّار ... خيّل إلي أنه معي الآن ...

لكن عيني ّ وقعتا على أربع أعين تنظر إلي بذعر و فزع و ذهول

اثنتان منها تخصان أختي دانة ، و الأخريان المغمورتان بالدموع هما عينا صغيرتي المذعورة رغد ...

مشيت نحو رغد ، فسارت هي للوراء خوفا ... حتى اصطدمت ْ بالجدار ...

و لمّا صرت ُ أمامها مباشرة قلت :

" زواجك من هذا المخلوق منته تماما ، و إن حاول أي شخص إرغامك على أي شيء ، فويل له مني "



خرجت بعد ذلك من الغرفة و من المنزل و إلى الفناء الخارجي ... أفرغ ما تبقى من غضبي في السجائر ...


بعد قرابة الساعة و النصف حضرت السيدة أم حسام لزيارة رغد .






~ ~ ~ ~ ~ ~ ~






كنت أعلم أن الأمر لن ينتهي بسلام .

ها قد أقبلت خالتي و تعقّدت الأوضاع أكثر فأكثر ...

خالتي تحدّثت مباشرة إلى سامر و قالت له أن أقل ما يجب فعله هو تأجيل موعد الزفاف حتى تستقر الأمور .

سامر و الذي كان مثخنا بالكدمات محمر الوجه متهيج الأعصاب طلب منها بنبرة حادة ألا تتدخل ، إلا أن خالتي قالت :

" لن أدعكم تتحكمون في مصير ابنتي كيفما شئتم "

ثم نظرت إلي ّ و قالت :

" سآخذها معي إلى أن تعود أم وليد و نضع حدا لهذا الزواج "


سامر اعترض و كذلك دانة ، إلا أني تشبثت بخالتي و خرجت معها رغم ذلك .

حين كنت أعبر الفناء الخارجي وجدت وليد هناك ..

قال :

" إلى أين ؟ "

خالتي تولت الإجابة :

" سآخذها معي لبعض الوقت "

لم أر في عيني وليد أي اعتراض ، فخرجت معها ...



في غرفة نهلة ذرفت الكثير من الدموع و أنا أروي لها ما حدث و أصف الهجوم الوحشي الذي قام به وليد ... و أرعبني .


" كنت أعرف أن هذا ما سيحدث ... الآن أنا أحدثت شرخا في العائلة ... ماذا سيفعل والداي حين يعودان ؟؟ أنا نادمة على تهوري ... كان يجب أن أرضخ لقدري ... "

" يكفي يا رغد ... أنت لم ترغبي في الزواج منه ، هذه الحقيقة إذن دافعي عنها "

قلت :

" لأجل ماذا أدافع عنها ؟ ماذا سأربح إن تخلصت من سامر و جعلت الجميع يتخذ مني موقفا معاديا ؟ ثم ماذا ؟ هل تتخيلن كيف سأعيش بينهم و قد حصل ما حصل ؟ "

" ابقي معنا هنا "

" مستحيل ... عمّي هو ولي أمري ... إنه أبي و لا يمكني العيش في غير بيته "

" ستعيشين في بيت زوجك ! "

" أي زوج هذا ؟؟ "

" الذي تحبين ! "

قلت ُ بألم و يأس :

" و هل تعتقدين أنه بعد أن أنفصل عن أخيه سيكون من الطبيعي أن أرتبط به هكذا بساطة ! أم هل تظنين أن وليد يفكر بي ؟ "

" إذن لماذا ساندك في موقفك ؟ "

" لأنه يشعر بالمسؤولية تجاهي .. كما لو كنت واجبا عليه تأديته لا أكثر ... "

و هي حقيقة مرة أتجرعها لحظة بعد لحظة ... رغما عني .

ساعات طويلة قضيتها في التفكير ... إلام سيؤول أمري بعد الذي حصل ؟

و كلما تخيلت الوحشية التي طغت على وليد هذا الصباح شعرت بالخوف و الفزع .. أهذا هو ابن عمي الذي كنت أعرف ؟؟

أهذا هو الرجل الذي أحبت ؟

إني حتى لا أجرؤ الآن على مجرد النطق باسمه ...


عندما عدت ُ إلى البيت في المساء لم يكن هو موجودا ، استقبلتني دانة بوجه عابس مليء باللوم و العتاب ...

قالت :

" هل أنت راضية عما فعلت ِ ؟ أي جنون هذا الذي أصابك ؟ "

كنت أريد الهروب منها إلا أنها لحقتني و تابعت كلامها بكل إصرار و قسوة :

" رغد اخبريني ماذا جرى لك ؟ إن سامر حزين جدا فهل يرضيك هذا ؟ ألا تشعرين بما يحس به ؟ ألا تعلمين أنه متلهف للزواج منك منذ زمن ؟ إنه يحبك بجنون .. أنت ِ خالية من المشاعر تماما كالجدار الذي خلفك "


قلت بعصبية :

" حلّي عنّي ! اتركوني و شأني "

" لا لن أدعك و شأنك و أنا أراك تحطمين أخي بهذا الشكل . ستزوجين منه و ينتهي الأمر كما رسمنا له "

قلت :

" و ماذا عن مشاعري أنا ؟؟ ألا يحق لي الزواج من الرجل الذي اختاره ؟ "

نظرت إلي دانة بدهشة و قالت :

" ماذا تقصدين ؟؟ أنك لا تريدين أخي ؟ "

التزمت الصمت ، قالت :

" لا تحبين أخي ؟؟ "

قلت بانفعال :

" بلى أحبه ... تماما كما تحبينه أنت ِ .. كأخي الذي تربيت معه ... فهل علي أن أتزوج من أخي ؟؟ "

دانة بدت مذهولة و قالت بتردد :

" رغد ... ما الذي تعنينه ؟؟ أتعنين أنك ... تحلمين بالزواج من شخص آخر ؟؟ "

فاجأني سؤالها و أربك تعبيرات وجهي ، ما جعل الشكوك تكبر في رأسها ...

صمت برهة ثم قالت :

" لقد فهمت ... فهمتك أيتها الخبيثة ... إذن فقد أقنعتك خالتك و عائلتها ... تبا لكم جميعا "

لم استطع قول كلمة بعد .. بقيت أحملق في دانة بذهول و تشت ، أما هي فقالت :

" سأخبر والدتي بكل شيء ... سترين "


و تركتني و انصرفت .

لازمت غرفتي لبعض الوقت ثم ذهبت إلى غرفة سامر ... حينما طرقت الباب و ذكرت اسمي لم يأذن لي بالدخول ... إلا أني فتحت الباب و تركته نصف مغلق .. و تقدّمت إلى الداخل .

سامر كان يجلس على كرسي مكتبه في شرود و حزن ... حينما وقعت عيناه علي رأيت فيهما بحرا من الآهات و الألم ...

سامر نهض و وقف ليواجهني ، كنت أعرف أني لا أستطيع مواجهته .. إلا أني لا أستطيع أيضا تركه هكذا ..

تقدم سامر نحوي و قال بصوت كئيب :

" لماذا يا رغد ؟ "

لم أقو َ على إبقاء عيني مركزتين في عينيه بل هويت بهما نحو الأرض في خجل و خذلان .. و شعور بالذنب و الإثم ...

اقترب مني أكثر و أمسك بوجهي و رفعه إليه ليجبرني على النظر إليه .. و قال :

" أخبريني .. لماذا ؟ هل فعلت ما ضايقك مني ذات يوم ؟ "

هزت رأسي نفيا ... أبدا ... مطلقا ...كلا .. إنه لم يكن هناك من يهتم بي و يحرص على مشاعري و يحسن معاملتي بمقدار ما كان سامر يفعل ..

قال :

" إذن لماذا ؟ أن .. تؤجلي الزفاف ربما بعد عسر كبير أجد له مبررا أو آخر .. أما أن .. أن .. تهدمي جسر الوصل بيننا هكذا فجأة .. فجأة و دون سابق تلميح .. و تعلني أنك أجبرت ِ على الارتباط بي .. و أنك لم ترغبي في ذلك يوما .. بعد كل هذه السنين يا رغد .. بعد كل هذه السنين .. فهذا ما لا أستطيع أن أجد له أي تفسير أو سبب مهما فتشت .. لماذا أخبريني ؟؟ "


فاضت الدموع من عيني جوابا على سؤال لم يعرف لساني له إجابة .. سامر أخذ يمسح دموعي .. و قال بعطف :

" أنا آسف لما حصل هذا الصباح .. كنت مجنونا .. سامحيني "

أغمضت عيني إشارة إلى أني قد نسيت الأمر .. و حين فتحتهما رأيت لمعان دمعة محبوسة في عين سامر المشوهة .. يخشى إطلاق سراحها ..

قال :

" لا تفعلي هذا بي يا رغد .. تعلمين كم أحبك .. "

و طوّقني بين ذراعيه بعاطفة حميمة ...
فتحت المجال أمام سامر للتعبير عن مشاعره ، و بقيت أسيرة بين ذراعيه فترة من الزمن .. لم أتحرك إلا حين سمعت صوتا قادما من ناحية الباب فالتفت كما التفت سامر .. و رأينا وليد يقف هناك .

لا أستطيع أن أصف لكم النظرات الوحشية المرعبة التي كان يرمينا بها .. لقد كنت أشعر بها تلسعني و تحرقني ..

تقدّم خطوة بعد خطوة ، تكاد خطواته تهز الأرض من قسوتها .. كان الشر يتطاير من عينيه و هو يحملق في سامر و يعض على أسنانه ..

شعرت بالخوف .. تراجعت للوراء .. اختبأت خلف سامر .. امتدت يدا وليد و أمسك بتلابيب سامر بعنف و قال :

" قلت لك لا تحاول استدرار تعاطفها ثانية .. حذّرتك من الاقتراب منها حتى يعود والدي .. ألم تفهم ؟ "

ثم سحبه و دفع به نحو الجدار ..

سامر رفع رجله و سدّد ركله بركبته إلى وليد ، فقام هذا الأخير بلكم سامر بعنف على خدّه المشوه ..

وليد قال و هو يلصق سامر بالجدار بقوة :

" لن أسمح لرغد بالزواج منك .. أفهمت ؟ لا تستحق رجلا مشوها مثلك "

قال سامر :

" نعم ، فالأفضل لها الزواج من القتلة المجرمين "

و ما إن قال سامر ذلك حتى تحوّل وليد إلى وحش .. نعم وحش .. فهو أقل وصف يمكني نعته به ..

صرخت :

" توقفا "

إلا أن الاثنين دخلا في عراك مميت ...

أسرعت أجري بحثا عن دانة .. فوجدتها في غرفتها تتحدث إلى خطيبها .. صرخت :

" أسرعي دانة .. يتقاتلان مجددا "

دانة تركت السماعة و جاءت تركض معي ..

حاولنا التدخل لفض العراك الجنوني إلا أننا فشلنا تماما .. و أخذت كل واحدة منا تصرخ من جهة دون جدوى ..

يد الغلبة كانت بطبيعة الحال لوليد الذي كان يفوق سامر بدانة وبنية و قوة ..

استمر العراك فترة من الزمن .. كنت أصرخ و أنا أبكي

" توقفا .. يكفي "

إلا أن أحدهما لم يكن ليستجب لي ...

قلت :

" أنا سأتزوج من سامر .. سأفعل ما تريدون .. هذا يكفي .. يكفي .. "

إلا أن ذلك لم يزد الحرب إلا وطيسا ..

دانة التفت نحوي و صرخت بوجهي :

" هذا كلّه بسببك أنت .. أيتها اللعينة رغد ابتعدي عن وجهي الآن .. "

و دفعت بي نحو الخارج عنوة ..

ركضت أنا نحو غرفتي و جعلت أبكي بصراخ .. و أنادي أمي و أبي ..







~ ~ ~ ~ ~ ~







لو لم يكن أخي .. ابن أمي و أبي .. شقيقي .. من تجري دماؤه في عروقي و يختزن حبه في قلبي .. لكنت قضيت على هذا الرجل المشوّه الذي كان يعانق رغد قبل قليل
و أرسلته إلى العالم الآخر ..

لقد جنّ جنوني .. و فقدت أدنى معاني الرأفة و الإنسانية .. و أوسعته ضربا أشد و أقسى و أعنف من الدرس الذي لقنته إياه صباح هذا اليوم ..

إنه جزاء من يقترب من صغيرتي أنا ..

نعم ، إنها فتاتي أنا .. و لن أسمح لأي رجل مهما كان .. بأن يقترب منها مسافة تقل عن ميل كامل .. من الآن فصاعدا

لقد كانت دانة تقف قربنا محاولة حشر نفسها بيننا و لو لم أسيطر على نفسي لدفعتها بقوة هي الأخرى ..

إني الآن في أشد لحظات عمري جنونا و ثورة .. و إن يقع في يدي أي سلاح ، فسأفتك بكل من يعترضني بدون تفكير ..

و الشيء الذي وقع في يدي كان مجرد علبة حديدية وقعت من على المكتب أثناء عراكنا ...

كنت مطبقا على سامر الواقع على الأرض ، و عائقا إياه عن الحركة .. بثقل جسمي الضخم ..

رفعت يدي بما حملت ، بالأداة الحديدية على أهبة ضرب رأسه بها ..

سامر كان يحاول التملص مني دون جدوى ، و ينظر إلى العلبة الحديدية و يصرخ

" ماذا ستفعل يا مجنون ؟ "

قلت :

" سأحطّم جمجمتك .. "

قال بذعر :

" وليد ... ستقتلني ؟ "

دانة أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي تعيقني عما كنت بجنون مقدما عليه ...

تركت ُ العلبة تسقط من يدي ...

و قلت ُ مهددا أخي :

" سأقتلك .. إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. "

و ألصقت ُ رأسي برأسه و قلت :

" أنا لم أقتل ذلك النذل .. و أضيع من عمري كل تلك السنين مرميا في السجن .. و أخسر ماضي و مستقبلي ... لأخرج و أراك تتزوج من صغيرتي رغما عنها .. و إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. فسأرسلك إليه .. لأن هذا هو جزاء من يؤذي صغيرتي بأي شكل من الأشكال .. أفهمت يا سامر ؟ سأقتلك .. و أقتلكم جميعا إن تجرأتم على إيذاء صغيرتي و لو حتى بمجرد الكلام.. أفهمت ؟؟ "

و سدت إلى وجهه اللكمة الأخيرة .. ثم نهضت ..

ترنحت في مشيتي من شدة الإعياء .. و توجهت نحو الباب سائرا على غير هدى

وقعت عيناي على دانة التي كانت تنظر إلي بذهول و فزع ...

قالت و حدقتا عينيها مفتوحتان لأقصى حد :

" وليد .. ما الذي تقوله ؟؟ "

قلت مزمجرا :

" نعم .. في السجن .. و لن يهمني العودة إليه إذا ما تعلّق الأمر برغد .. و لن أسمح لأحد بإجبارها على الزواج من شخص لا تريده .. و لن أدع أي رجل يتزوّج منها إلا إذا أخبرتني هي بأنها هي ترغب في الزواج منه و تريده ... مفهوم ؟؟ "

و خرجت من الغرفة تاركا المذهول مذهولا ... و المجروح مجروحا ... و المحطم محطما ...

ذهبت رأسا إلى غرفة رغد و التي قفزت مذعورة ما أن رأتني ... و صارت ترتجف بخوف ...

لحظتها فقط أدركت أني خرجت من طوري .. و أني لم أكن في وعي و رشدي .. و أني شوّهت أي صورة حسنة يمكن أن تكون لا تزال باقية في رأس رغد عني ..


قلت :

" رغد "

سماعها لكمتي جعلها تنتفض خوفا .. ربما كان صوتي مرعبا .. ربما كان شكلي مفزعا .. ربما كنت أشكّل بالنسبة إليها هذه اللحظة مصدر روع و وجل ..

وقفت ُ متسمرا في مكاني أراقب صغيرتي المذعورة ..

سمحت للأرض التي تلامس قدمي ّ بامتصاص الباقي من غضبي و ثورتي
و تنفست أنفاسا عميقة تطرد الشر من صدري .. و أرخيت ما كنت أشده من الأعصاب و العضلات .. و قلت بصوت حاولت جعله حنونا بقدر ما أمكني في ساعة الوحشية تلك :

" صغيرتي رغد .. لا تفزعي مني ..أنا آسف "

لكن القشعريرة و الرعشة لم تفارقا يديها و فكها الأسفل ..

قلت بألم :

" آسف لإرعابك يا رغد .. أرجوك لا تفزعي مني .. أخبريني فقط بما تودين مني القيام به و أنا رهن إشارتك "

رغد تكلمت بارتجاف قائلة :

" دعني وحدي "

وقفت لحظة في مكاني عاجزا على تحريك قدمي ، بعد كل تلك القوة التي أفرغتها في بدن شقيقي ...

قلت :

" سامحيني يا رغد .. أنا وليد كما تعرفيني "

قالت :

" أنت لست وليد .. غادر غرفتي .. دعني وحدي "

آلمني طلبها هذا فقلت بانكسار :

" كما تأمرين .. سأخرج لكني سأعود .. و سأفعل أي شيء ترغبين فيه بنفسك .. حتى و إن رغبت ِ الزواج من سامر مجددا .. لكني متى ما شعرت ُ بأن أحدا يضطرك لفعل ما لا تريدين .. فلن أبقى مكتوف اليدين مطلقا "


و غادرت غرفة رغد بل و المنزل أيضا ...

عندما عدت إلى هناك ، كان ذلك في عصر اليوم التالي و رأيت سيارة نوّار عند باب المنزل إلا أن سيارة سامر لم تكن موجودة .

حينما دخلت ، وجدته و دانة يجلسان في غرفة المعيشة ...

ألقيت التحية ، فرد نوّار بينما أشاحت دانة بوجهها عني .

سألت :

" أين سامر ؟ "

لم تجب ، فرد نوّار :

" عاد إلى شقته "

سألت :

" متى غادر ؟؟ "

قال :

" اعتقد عند الظهيرة "

قلت موجها كلامي إلى دانة :

" و أين ابنة عمّك ؟ "

لم تجب ..

كررت سؤالي :

" أين ابنة عمك يا دانة ؟؟ "

التفت إلي دانة بغضب و قالت :

" لو سمحت .. لا تتحدّث معي بعد الآن "

نوّار بدا محرجا و قال بصوت خافت :

" دانة .. أعصابك ! "

إلا أن دانة صرخت :

" أنا بريئة من هذا الرجل و لا أريد أن يتحدّث معي من الآن فصاعدا "



تركتهما و ذهبت لأفتّش عن رغد .

لم أجدها في أي مكان ، فعدت ُ إليهما مجددا و سألت :

" أين ابنة عمك ؟ "

لم تجبني دانة ، فتدخّل نوّار قائلا :

" أظن أنها ذهبت إلى بيت أقاربها ... فقد جاء حسام قبل فترة و اصطحبها معه "

انزعجت من ذلك ، و قلت :

" وحده ؟ "

قالت دانة بحدّه :

" نعم وحده . اتصلت به و طلبت منه الحضور ليأخذها إلى بيته .. ماذا بعد ؟ "

قلت :

" لمَ لم تنتظرني ؟ "

قالت دانة بعصبية :

" و لماذا عليها أن تنتظرك ؟ لقد ذهبت مع ابن خالتها و انتهى الأمر "

قلت بغضب :

" دانة .. كيف تتركينها تخرج هكذا ؟ "

قالت بنفور :

" و هل كنت تنتظر مني أن أذهب معهما أم ماذا ؟؟ "

ثم أضافت :

" ليس عليك أن تقلق فهي في المكان الذي تحب التواجد فيه .. مع أحبابها "

قلت :

" إلام تشيرين ؟؟ "

قالت بنفاذ صبر :

" ماذا ؟؟ ألم تخبرك أيضا بأنها تخلّت عن شقيقي و سببت كل هذا من أجل ابن خالتها العزيز ؟ فلتشبع به إذن "

فوجئت .. ذهلت .. أصبت بالهول لدى سماعي ما قالته دانة .. و انفغر فوهي عن كلمات مبعثرة :

" من ؟ ماذا ؟ ما الذي تقولينه ؟ "

دانة عضت على أسنانها و شدّت على قبضتيها و قالت حانقة :

" اللعينة .. لن أسامحها على ما فعلت بأخي أبدا .. لن أسامحك أنت أيضا .. عسى الله ألا يوفّقها في الزواج ممن حطّمت قلب شقيقي من أجله ... أبدا ... أبدا يا رب "

 
قديم   #37

نودى نينو


رد: رواية إنتِ لي كاملة


رواية إنتِ لي كاملة


الحلقةالرابعةوالعشرون
*********





كلما تذكّرت الدمعة الحبيسة في عين سامر، التي كاد يطلقها لحظة عناقنا الأخير.. تفجرت عوضا عنها عشرات الدموع من محجري.

لم يكن ما فعلته شيئا يغتفر.. إنه سامر رفيق الطفولة و الصبا و المراهقة.. إنه أعز إنسان لدي.. لكنه ليس الأحب..

في صباح اليوم، عندما رأيته.. تلوّت أمعائي و أصابني مغص شديد مفاجئ للكدمات التي شوهت ما لم يكن مشوها من جسده النحيل.

حين حاولت التحدّث إليه لم يرد علي، حتى بدأت أقنع نفسي بأن اللكمات التي تلقاها فكه قد أعجزته عن النطق ، إلا أنه تحدّث مع دانة التي انفردت به مطولا في غرفتها .

بالتأكيد كان حوارهما يدور حولي و حول ما سببته من مشكلة معقدة بغبائي و تهوّري...

و كل هذا، لأني اكتشفت أني أحب وليد !

أحب رجلا وحشا مفترسا... لم يسبب لي منذ ظهوره في حياتي من جديد غير الألم و المعاناة...

و لو استهلكت كل كلمات الندم الموجودة على وجه الأرض، ما كفاني ذلك لأعبّر عما أشعره هذه اللحظة من الذنب...

الآن، أنا فتاة طائشة ناكرة للجميل و المعروف، حطّمت قلب الرجل الذي يحبها و يتلهف لإسعادها، من أجل رجل لم تعرف عن حقيقته شيئا أكيدا، غير أنها تحبه.. وتمناه.. و حينما يعود والداي، و يرحل وليد، كما رحل سامر، فإن كل شيء سينتهي.. و أفقد عائلتي.. و أعود يتيمة وحيدة كما قدمت إليهم قبل 15 عاما...

بين الفينة و قرينتها تجيء ابنة خالتي نهلة لتفقدني، فتراني كما تركتني.. أهيم في أفكار بائسة لا نهائية.. في ضياع و تشت.
كنت أحاول النوم على سريرها، إذ أني قضيت الليلة الماضية ساهرة سهر النجوم.. وحيدة وحدة القمر.. باكية بكاء المطر.. تعيسة تعاسة السواد المخيم على السماء... تتلاعب بي الأفكار تلاعب الرياح بورقة شجر صفراء جافة.. فقدت فرعها و أصلها و جذرها و تاهت في صحراء لا نهاية لا.. و لا بداية.


" أما زلت ِ مستيقظة ؟ "

سألتني نهلة و القلق الشديد يتملكها و يحوّل وجهها البشوش الصريح إلى مغارة من الغموض و الحيرة..

قلت:

" أنى لعيني النوم يا نهلة، و قد فعلت ُ ما فعلت ؟ .. غدا مساءا سيعود والداي.. ماذا أقول لهما ؟ يا إلهي لا أريد أن أريهما وجهي.. "

" هّوني عليك يا رغد، لستِ أول و لا آخر فتاة تحل ارتباطها من خطيبها بعد سنين من الخطوبة ! لا عليك يا ابنة خالتي.. هل تعتقدين أنهم سيطردونك من المنزل مثلا من جراء فعلتك هذه ؟؟ "

قلت:

" لا أستحق العيش تحت كنفهم بعد الآن... بل لا أجرؤ على العودة إليهم ! أوه لو رأيت الطريقة التي خاطبتني بها دانة هذا اليوم.. "

و تذكّرت كلماتها القاسية التي وجهتها إلي بعد مغادرة سامر، مكسور الخاطر...

قالت نهلة:

" و منذ متى كانت طيبة معك ! إنها دائما قاسية عليك، دعك ِ منها.. لكن عندما تعود أمك يا رغد، أخبريها بحقيقة الأمر.. أخبريها بأنك لم تحبي سامر يوما و أنك... تحبين وليد !"

قلت بأسى و اعتراض:

" مستحيل ! لا يمكن أبدا... و لا بشكل من الأشكال ! كيف يا نهلة كيف ؟؟ و ماذا سأجني من قول هذا ؟ أم تظنين أنها ستقول : لا بأس ، نقلك من سامر إلى وليد ، بهذه البساطة ؟؟ "


و جعلت أندب حظي الذي أوقعني في مأزق كهذا..

" ليته لم يسافر و يتركني.. ليته لم يعد ! ليتني أستطيع التوقف عن التفكير به ! ليته يحس بي... ليت معجزة سماوية تجعله يرتبط بي و تجعل سامر ينساني.. ليته يختفي من حياتي و قلبي.. ليته يظهر الآن و ينتشلني من كل هذا ! "


و حشود من الأمنيات تمنيتها في عجز عن تحقيق أي منها... أو حتى تخيّل تحقيقها.. إلا أن واحدة منها تحققت فورا !

طرق الباب هاهنا و دخلت سارة و قالت:

" قريبك الكبير أتى يا رغد "


نظرت نحو سارة بقلق مفاجىء و انعقد لساني، فتحدّثت نهلة بالنيابة و قالت :

" من تعنين سارة ؟؟ "

قالت :

" وليد الطويل ! "


أنا و نهلة تبادلنا النظرات ذات المعنى، ثم قلت:

" ماذا يريد ؟؟ "

سارة قالت وهي مبتهجة:

" سأل أولا عن والدي و أخي، و كلاهما غير موجود ! ثم قال: ( هل ابنة عمي رغد هنا ؟ ) قلت ( نعم ) قال: ( هل لا استدعيتها من فضلكِ يا آنسة ؟).. قال عنّي آنسة ! "

و بدت مسرورة بهذا الاكتشاف العظيم ! إنها آنسة ! ما أشد فراغ رأس هذه الفتاة !
يبدو أنها المرة الأولى التي تسمع فيها أحدا يطلق عليها هذا اللقب !

قلت:

" أين هو ؟"

قالت:

" في الخارج ! عند الباب "

نظرت إلى نهلة و قلت:

" لا أريد العودة إلى البيت.. لابد أنه جاء لاصطحابي إلى هناك. لن أذهب "

و سرعان ما كانت سارة على وشك الذهاب إليه و هي تقول:

" سأخبره بذلك "

نهلة صرخت:

" انتظري سارة ! ما بالك ما أن تلتقط أذناك كلمة حتى أسرع لسنك بثها ؟ اذهبي و أخبري أمي عن قدومه حتى تتصرف ! "

و انصرفت سارة مذعنة للأمر ! و بكل سرور !

بعد ثوان حضرت خالتي، و قالت:

" سأذهب للتحدث إليه، لا تقلقي "



إلا أن قلقي بدأ يتضاعف هذه اللحظة...

ذهبت خالتي ثم عادت بعد دقيقتين تقول:

" يرغب في التحدث معك، تركته واقفا في الحديقة "

هممت بالنهوض، فقالت:

" ما لم ترغبي في ذلك فسأصرفه "

قلت:

" لا داعي خالتي. سأصرفه بنفسي "

و تلوت ُ بعض الآيات في صدري لتمنحني القوة على الوقوف أمامه من جديد !

في الحديقة الصغيرة الأمامية للمنزل، وجدت وليد واقفا على مقربة من الباب. سرت إليه أجر قدميّ جرا... في خوف و اضطراب.

كنت أعلم أن خالتي و ابنتيها يراقبني من النافذة !

حينما صرت ُ أمامه، بادر هو بإلقاء التحية ، ثم سألني :

" أ أنت بخير ؟؟ "

إنه سؤال عادي جدا يتداوله الناس عشرات المرات في اليوم لعشرات الأسباب ، إلا أني احتجت وقتا قياسيا للتفكير في الإجابة !

هل أنا بخير ؟؟

لما رأى وليد ترددي و حيرتي قال:

" تبدين بحال أفضل.. "

نطقت لا إراديا بصوت خفيف:

" نعم "

قال:

" هل نعود إلى البيت إذن ؟؟ "

هنا تحدثت ُ بصوت عال مندفع:

" لا ! "

فوجىء وليد بردي فقال:

" لم ؟ إنها الثامنة.. هل تودين البقاء أكثر ؟؟ "

قلت:

" نعم "

" إلى متى ؟ تأخر الوقت ، دعينا نعود فقد تركت ُ دانة وحدها "

" لا ! "

بعد وهلة واصل وليد كلامه:

" هل تنوين المبيت هنا ؟؟ "

" نعم "

" هذه الليلة فقط ؟ "

" لا "

" كل ليلة ؟؟ "

" نعم "

" أتمزحين ؟؟ "

" لا "

" إذن فأنت جادّة ؟؟ "

" نعم "

" و هل تظنين أني سأسمح بهذا ؟ "

" لا "

لم أكن أنظر إلى وليد بل إلى الحشيش الأخضر المغطي للأرض. في تشت.. لكنه حين قال:

" لا أم نعم ؟؟ "

انتبهت ُ لسؤاله الأخير، و لجوابي الأخير... و رفعت عيني إليه بارتباك و قلت:

" نعم.. أعني بالطبع نعم "

قال:

" بالطبع لا "

كانت نظرته مليئة بالإصرار.. ، قال:

" فلنعد إلى البيت يا رغد "

قلت:

" لا "

قال :

" أليس لديك تعليق غير نعم و لا ؟ دعينا نذهب الآن لأني لا أريد ترك دانة بمفردها أطول من هذا "

" لا أريد العودة، سأبقى هنا"

" لماذا ؟ "

" أريد البقاء مع خالتي.. أريد بعض الهدوء و الطمأنينة بعيدا عنكم "

يبدو أن كلماتي قد ضايقت وليد لأن تعبيرات وجهه الآن تغيرت .. قال:

" غدا سيعود والداي و نضع حدا لكل شيء. ستسوى الأمور بالشكل الذي تريدينه أنت ِ .. لا تقلقي و لا تضطري نفسك للتضحية. "

قلت:

" لكن سامر لا يستحق.. لا يستحق ما سببتُه له، و لا ما فعلت َ أنت به.. مسكين سامر.. "

و حتى تعاطفي مع سامر أزعجه و زاد من حدّة تعبيرات وجهه الغاضبة.. قال:

" ستسوّى الأمور غدا أو بعده. لن أسافر قبل أن أتأكد من أن كل شيء يسير على خير ما يرام "

و كلمة أسافر هذه دقّت نواقيس الخوف في صدري... قلت بسرعة:

" تسافر ؟ هل ستسافر ؟ "

قال:

" سيعود والدي و تنتهي مهمّتي "

و كم قتلتني جملته هذه... ألا يكفيني ما أنا به حتّى يزيدني هما فوق هم ؟؟

قلت:

" و زفاف دانة ؟ "

تنهّد و نظر إلى السماء.. و لم يجب.

قال بعدها:

" هيا رغد "

لم أشأ العودة... فلأجل أي شيء أعود ؟ لأجل أن أذرف المزيد من الدموع.. لأجل أن أعيش المزيد من الحسرة ؟؟ ألأجل أن أراه و هو يرحل من جديد ؟؟ نعم، فهو قد جاء في مهمة محددة أنجزها و سيغادر..

كرر:

" هيا يا رغد ! "

قلت باعتراض:

" لن أذهب معك. سأبقى هنا لحين عودة أمي "

ازداد استياؤه و قال بما تبقى له من صبر:

" رجاءا يا رغد.. هيا فأنالا أحبذ أن تباتي خارج المنزل "

" لكنه بيت خالتي و قد اعتدت على هذا "

" عندما يعود أبي افعلي ما تشائين و لكن و أنت ِ تحت رعايتي أنا، لا أريد أن تباتي في مكان بعيد عني "

" لماذا ؟ "

" لن أشعر بالراحة لذلك و أنا متعب بما يكفي، و لا ينقصني المزيد من القلق. تعالي معي الآن "

شعرت بالغيظ من كلامه. من يظن نفسه ليتحكم بي هكذا ؟ إذا كان أبي لا يمانع من مبيتي في بيت خالتي من حين لآخر فما دخله هو ؟؟

" لن آتي "

قلتها بتحد ٍ، فنظر إلي بعصبية و صرخ بحدّة:

" رغد ! "

انتفضت ُ من جراء صرخته المخيفة هذه.. و حدّقت به مذعورة.. تتسابق نبضات قلبي لدفع الدماء خارجه عشوائيا..

عيناه كانتا متمركزتين على عيني و حاجباه مقطبين و وجهه غاضب عابس مرعب.. يثير الفزع في نفس من لا يهاب الوحوش !

تراجعت إلى الوراء خطوتين في هلع.. كنت أتمنى لو تستطيع رجلاي الركض، إلا أن الفزع صلّب عضلاتهما و جمّد حركاتهما..

وليد مد يده نحوي فارتعدت.. في خشية من أن يلطمني.. لكن يده توقفت في منتصف الطريق... قلت ُ باضطراب و ارتجاف:

" س .. أحضر.... ح .. قيبتي "

و استدرت ُ مرعوبة و جريت بضع خطوات فارة، إلا أنه ناداني مجددا:

" رغد "

تصلبت ُ في مكاني و رجلي معلقة فوق الأرض.. ثم

التفت إليه بخوف يفوق سابقه.. ماذا الآن؟ هل ينوي صفعي أو ماذا ؟؟

أراه يقترب مني أكثر و لا أقوى على الفرار.. حين صار أمامي مباشرة نظر إلي بعمق.. و قال:

" رغد.. ما بالك فزعت ِ هكذا ؟؟ "

لم أنطق و لم يخرج من فمي غير تيارات الهواء السريعة اللاهثة..

وليد حدّق بي بانزعاج و مرارة و قال:

" رغد ! هل تظنين أني سأؤذيك بشكل من الأشكال ؟؟ "

ثم تابع:

" أنت ِ مجنونة إن فكّرت ِ هكذا "

نظر إلى أصابعي المتوترة المرتعشة، ثم إلى عيني المفزوعة ثم تنهد بضيق و قال :

" حسنا، سوف أمر بك غدا قبل أن نذهب لاستقبال والدي ّ.. لكن إذا أردت الحضور قبل ذلك فأعلميني و لا تطلبي ذلك من ابن خالتك.. "

ما زلت أحدّق به نصف مستوعبة لما يقول...

قال بصوت خفيف دافىء:

" اعتني بنفسك.. صغيرتي "

ثم ختم:

" تصبحين على خير "

و استدار.. و سار مبتعدا.. و غادر المكان.

بقيت أنا أراقبه حتى غاب... و غاب معه قلبي و حسّي...

سرت بطء عائدة إلى الداخل فوجدت الثلاث في انتظاري.. سألت خالتي:

" إذن ماذا ؟ "

قلت:

" سيأتي غدا... "

و صعدت ُ أنا و نهلة إلى غرفتها من جديد...

قالت:

" بدوت ِ مضطربة رغد ! ماذا قال لك ؟؟ "

أمسكت بيديها و قلت:

" نهلة.. سأجن.. لا أعرف لم أصبح هكذا ؟ إنه مخيف ! "

" رغد ! ماذا قال ؟؟ "

" لا أذكر ما قال ! ماذا قال ؟؟ لا أدري نهلة إني أفقد تركيزي حين يكون على مقربة ! لا أعرف ما الذي يصيبني ؟؟ "

و لم أتمالك نفسي... تفجرّت عيناي بسيلين متوازين من الدموع الدافئة تسابقا على تبليل خديّ الحزينين...

" رغد.. عزيزتي تماسكي "

" إنه سيسافر.. من جديد يا نهلة سأحرم من وجوده.. من رعايته.. من أن أراه.. و أتعلّق به.. و اسمعه يناديني ( يا صغيرتي ) كما كان يفعل منذ طفولتي.. لا أحد يناديني هكذا حتى الآن.. كيف سأتحمّل عودة حياتي خالية منه و قلبي أجوف لا يسكنه أحد ؟ سأجن يا نهلة إن تركني و غادر.. لا أحتمل ذلك.. أنا أحبه كثيرا يا نهلة كثيرا.. إنه كل شيء بالنسبة لي.. ما أنا فاعلة من بعده ؟ أخبريني ماذا أفعل ؟ ماذا ؟ "

و لم أر غير الظلام و السواد الذي غلّف حياتي و بطّنها أسفا على وليد قلبي...

و رغم الآلام و التعب.. و الإعياء الذي أعانيه.. ضل النعاس طريقه إلى عينيّ حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة المشؤومة...





~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





كنت أتمنى الذهاب إلى مكان واسع.. رحيب.. تعبث تيارات الهواء في سمائه بحرية..

إلى البحر.. حيث أرمي بأثقال جسدي و هموم صدري الضائق الحزن...

إلا أني عدت إلى المنزل الكئيب و جدرانه العائقة.. لأبقى رفيقا لشقيقتي الغاضبة...

كانت في غرفتها، حمدت الله أن لم تسنح الفرصة للقائن مجددا، فبعد الذي أثارته هذا اليوم، كرهت نفسي و كرهت انتسابي لهذا البيت..

بعدما رحل نوّارعند المغرب، أتني و مزيج من الشر و الغضب و الذهول و عدم التصديق يتربع على وجهها..

" سؤال واحد، أجبني عليه.. و بعدها انس أن لك أختا.. يا وليد، قل لي.. أنت.. كنت َ في السجن ؟؟ "

و تلا السؤال ( الواحد ) عشرات الأسئلة.. أسئلة بدا أنها عرفت الإجابة عليها من سامر، و الذي بالتأكيد خضع لاستجواب مكثف من قبلها قبل رحيله..

و أسئلة أخرى تهرّبت من الإجابة عليها.. فما رأيته في عينيها من الغضب و الاحتقار كان كاف لقتل أي رغبة في الدفاع أو التبرير في نفسي..

" لا أصدّق ذلك ! أخي أنا.. قاتل خرّيج سجون ؟؟ و أنا من كنت أظنه رجل أعمال كبير درس في الخارج ! أنا من كنت ُ أتباهى بك بين رفيقاتي ..! كيف أواجه خطيبي و أهله بحقيقة خاذلة كهذه ؟ لذلك كنت تتحاشى الحديث عن نفسك ! كم أنا مصدومة بحقيقتك ! "

عندما صوّبت ُ نظري إليها، أشاحت بوجهها الباكي و ركضت إلى غرفتها تواري الألم.. و تدفن الواقع المخزي..

و هاهي الآن.. منعزلة في ذات الغرفة منذ ساعات...

و بدوري، انزويت في غرفة حسام مع حشد من الأفكار الكئيبة.. تولى قيادتها و سيادتها..صغيرتي رغد..

و كلما تذكرت الخوف الذي تملكها و هي تقف أمامي.. أكره نفسي و وجودي و كياني ...

إذا لم أكن على الأقل أمثل مصدر الطمأنينة و الأمان لصغيرتي.. فماذا يعني وجودي في هذا الكون ؟؟

ماذا تبقى لي.. ؟ هاقد خسرت أهلي أيضا.. سامر و تشاجرت معه و حطمت قلبه و علاقتي به .. و دانة و وقعت من عينيها و صارت تزدريني.. و رغد.. رغد الحبيبة.. تنفر مني و ترتجف خوفا ؟؟

كيف جعلتها تذعر مني هكذا و تفقد ثقتها بي ؟؟

ما عساها تظن بي الآن ؟؟

أي موقف ستخذ مني متى عرفت عن سجني و جريمتي ؟؟

هل ستحتقرني مثل دانة ؟؟ لا يا رغد أرجوك ..

فأنا لن أحتمل ذلك أبدا.. و أفضل الموت على العيش لحظة واحدة تنظرين فيها إلي بذرة ازدراء واحدة.. مهما كانت جريمتي و آثامي..

ليتكِ لا تعلمين..

يا رغد.. سامحيني..

ربما لم أعد وليد الذي عرفته و تعلّقت ِ به صغيرة، بفخر و معزّة و ثقة.. لكني لا أزال وليد الذي يحبك و يتوق إليك.. يهتم بكل شؤونك بهوس...

ليتك ِ تعلمين...

نمت أخيرا على خيال الذكريات الجميلة الماضية.. فهي الشيء الوحيد الجميل في حياتي.. و الذي يمكن لقلبي المنفطر الشعور بالسعادة و الراحة حين تذكره...





فجأة...

صحوت ُ من النوم مفزوعا على دوي شديد زلزل الغرفة بما فيها..

فتحت ُ عيني ّ فإذا بي أرى الليل نهارا.. و السواد نارا.. و السكون زلزالا.. و الهدوء ضجيجا عظيما...مهولا..

و أرى الأشياء من حولي تهتز و تقع أرضا و سريري يتذبذب..

للوهلة الأولى لم أستوعب شيئا، أهو كابوس أم ماذا ؟؟

و سرعان ما صدر صوت انفجار مجلجل حرك جدران المنزل...

قفزت من على سريري أترنح مع الاهتزازات، و خرجت مسرعا من الغرفة و إذا بي أرى شقيقتي تأتي مسرعة نحوي و هي تصرخ

" ما هذا ؟ قنابل ! "

و للمرة الثالثة دوي صوت انفجار ضخم و أضيئت الدنيا بشعاع النيران.. و عبقت الأجواء بالدخان و روائح الحريق..

كانت الأرض تهتز من تحتنا فأسرعت بالإمساك بشقيقتي و انبطحنا أرضا.. و شهدنا زجاج النوافذ يتحطم و تقتحم ألسنة النيران المنزل... و تتوزع حارقة كل ما تقع عليه...

اندلع الحريق من حولنا في أماكن متفرقة فجأة.. و توالت أصوات الانفجارات مرة بعد أخرى بعد أخرى .. بشكل متواصل و مندفع ..

شيء ما اخترق السقف فجأة و هوى أرضا، و انفجر...

ركضت أنا و دانة مبتعدين بسرعة عن ذلك الشيء و هي تصرخ... و بدأ السقف يهوي فوق رأسينا..

هربنا فزعين مسرعين ناجين بنفسينا متجهين نحو المدخل.. لا يعرف أحدنا أين تطأ قدماه..

و نحن نعبر الردهة.. توقفت ُ فجأة و صرخت:

" رغد ! "

قفزت قفزا نحو غرفة رغد و صرخت:

" رغد.. رغد "

و دون أن أنتظر فتحت ُ الباب بسرعة واقتحمت الغرفة و لم أر َ غير النيران تلتهم الأثاث... و تحرق السرير..

" رغد.. "

كاد قلبي يتوقف، بل إنه توقّف، و كدت أسلم نفسي للنيرا تلتهمني.. إلا أني فجأة تذكرت ُ أنها لم تبت هنا الليلة.. و لا أعرف ما الذي دفعني لنسيان أو تذكر هذه المعلومة..هذه اللحظة

صرخات دانة وصلتي رغم الدوي المجل الطاغي على أي صوت في الوجود، و وجدتها مقبلة نحوي بذعر تقول:

" تهدّم السقف.. سنموت "

ثم نظرت نحو سرير رغد المشتعل نارا و صرخت:

" رغد "

و بدت و كأنها دخلت في نوبة فزع هستيرية، أمسكت بها و قلت:

" ليست هنا، لنخرج فورا "

و عوضا عن التوجه إلى الردهة ثم المخرج، توجهت إلى غرفتي إذ أن فكري قادني تلقائيا إلى مفاتيح السيارة..

سحبتها و سحبت المحفظة التي كانت بجوارها و أطلقت ساقي للرياح، ممسكا بيد شقيقتي الصارخة بذعر..

فتحنا الباب و خرجنا إلى الفناء و خرجت معنا الأدخنة التي نفثها الحريق داخل المنزل... و رأينا السماء تسبح في الدخان، و الليل نهارا ملتهبا..أحمر.. و الحجر يتساقط من حولنا كالمطر.. بينما تعج الدنيا بأصوات انفجارات متتالية.. و تتزل الأرض مع كل انفجار..أيما زلزلة

و عندما فتحت الباب الخارجي، رأيت ما لم تره عيناي من قبل.. و لا من بعد..

رأيت النيران مندلعة في كل الأنحاء.. و المنازل تتهدّم. و الأرض تتصدع و تت. و الناس.. يركضون في كل الاتجاهات فارين صارخين مذعورين.. يصطدم بعضهم بعض و يدوس بعضهم على بعض..

و من السماء المشتعلة، كانت تتساقط صواريخ و قنابل أشبه بالشهب و النيازك، ترتطم بأي ما يعترض طريقها، و تدمّره..

لقد كانت المرة الأولى التي أشهد فيها قصفا جويا.. وجها لوجه..

كنا في موعد مع الموت...

وقفت دانة مذعورة فزعة.. ترقب شعلة نارية تهوي من السماء ثم تسقط فوق منزلنا..

شدت على يدها و سحبتها مسرعا إلى خارج المنزل، نحو السيارة.. و نحن حافي الأقدام و مجردين إلا من لباس النوم..

ما كدت أفتح باب السيارة حتى تفجّر المنزل.. و هطلت الحجارة و الشظايا و الشرار فوق رأسينا...

" اركبي بسرعة "

دفعت بشقيقتي إلى داخل السيارة و توجّهت إلى الباب الآخر، ركبت و انطلقت مسرعا مبتعدا عن المنزل.. في عكس اتجاه الطريق، أدوس على الأرصفة اصطدم بكل ما يعترض طريقي، و أحطم كل ما يصادفني..

الشوارع كانت تعج بالناس الفارين من النيران.. إلى النيران.. و القليل من السيارات التي تسير باتجاهات مختلفة عشوائية على غير هدى..

سلكت ُ أسرع طريق يؤدي إلى منزل أبي حسام، غير آبه بالشهب التي ترمي بها السماء من فوقي و من حولي، لا أرى من الأهوال الدائرة من حولي شيئا..
لا أرى إلا صورة رغد مطبوعة على زجاج النافذة أمامي..

كل ذلك كان في دقائق لا أعرف عددها و لا أمدها

وصلت أخيرا إلى منزل أبي حسام و رأيت النار تأكل رأسه...

" رغد... رغد.. لا.. لا.. "


صرخت كالمجنون.. هبطت من السيارة راكضا نحو بوابة سور الحديقة.. ضربته بعنف ٍ حطّم زجاجه ثم فتحته و اقتحمت المنزل و أنا أنادي بأعلى صوتي و بكل جنوني:

" رغد.. رغد.. "

كنت متوجها إلى باب المنزل الداخلي و الذي أراه أمامي مفتوحا... تخرج منه ألسنة النار.. و أنا أناديها بفزع.. و رهبة.. مما قد تكون الجدران تخبئه خلفها و الأقدار تخفيه على بعد خطوات..

يا رب لا تفجعني بصغيرتي و احرقني أنا قبل أن تلمس النيران شعرة منها...
يا رب إن كنت اخترتها فأنزل قنبلة فوق رأسي تفجّرني هذه اللحظة قبل أن أدخل و أراها ميتة..

" رغد.. رغد.. "

صرخت و صرخت و صرخت.. صراخا شعرت به أقوى و أفظع من دوي القنابل المتفجرة من حولي .. و أنا أركض بلا وعي نحو النيران..
نحو النهاية..
نحو الجحيم ..
نحو الموت..
نحو رغد..

وصلت إلى الباب و استقبلني لهيب النار الحار يلفح وجهي المذعور المفزوع ...كنت على وشك اقتحام الحريق، و فجأة حتى سمعت صوتا يناديني..
من عالم الأحياء..

" وليد "

التفت يمنة و يسرة أبحث عن مصدر الصوت كالمجنون.. أدور حول نفسي و أصرخ بقوة:

" رغد... رغد "

و عند زاوية في طرف الحديقة، رأيت رغد و عائلة خالتها جميعا مكومين قرب بعضهم البعض متشابكي الأيدي ينتظرون المصير المجهول..

مع الإضاءة التي أحدثها انفجار قنبلة خارج المنزل، استطعت أن أرى رغد جيدا و هي تقف هناك.. ثم تأتي راكضة مسرعة نحوي ............

" رغد.. أنت ِ بخير ؟؟ حقا بخير؟؟ الحمد لله.. الحمد لله "

" وليد .. أنتما حيان ؟؟ "

و التفت للخلف فرأيت شقيقتي تصرخ:

" رغد "

و تت رغد من بين ذراعي و ترتمي في حضن دانة و هي تهتف باكية:

" أنتما حيان.. أنتما حيّان "

جذبت الاثنتين و ضممتهما إلى صدري.. لا أعرف من منا نحن الثلاثة كان أكثر فزعا من الآخرين..

انفجار آخر دوي الأجواء، فانبطحنا أرضا و جعلت الأرض تهز أجسادنا كما تهز أفئدتنا المذعورة..

و أخذ الجميع يتصايح و يصرخ.. و امتزجت الأصوات و الهزات و الاصطدامات..

توقفت النوبة برهة، وقفنا و أنا ممسك بكلا الفتاتين و حثتهما على السير بسرعة نحو المخرج...

صوت حسام يصرخ:

" إلى أين ؟؟ "

قلت:

" سنغادر المدينة بسرعة "

قال:

" الزم مكانك يا مجنون ! ستقتل "

قلت للفتاين:

" هيا بنا "

صراخ حسام و عائلته:

" ابقوا مكانكم القصف لم ينته "

لكني مضيت في طريقي..

حسام يصرخ:

" رغد عودي إلى هنا.. عودي يا رغد.."

رغد تتشبث بي أكثر، و أنا أتمسك بيدها بقوة و أمضي بها و بدانة إلى السيارة

بابا السيارة الأمامين كانا مفتوحين، جعلت ُ رغد تدخل بسرعة إلى المقدمة ، و أنا أفتح الباب لدانة و أدخلها سريعا، ثم أقفز نحو باب المقود، فأجلس و أطير بالسيارة حتى قبل أن أغلق الباب..

لم تكن باللحظة التي يستطيع فيها دماغ أي بشر، غبي أو عبقري، أن يفكر..

انطلقت بالسرعة القصوى للسيارة أجتاز كل ما أعبر به، محاولا تحاشي الاصطدام بما يصادفني قدر الإمكان

أرى الناس يخرجون من كل ناحية أفواجا أفواجا ، رجالا و نساء و أطفالا.. متخبطين في سيرهم يركضون باتجاهات عشوائية.. يهيمون على الأرض على غير هدى.. يصرخون و يهيجون و يموجون باعتباط و فوضوية.. و في نواح متفرقة تتناثر مخلفات الدمار .. الحجارة و الأشلاء.. و الجثث.. تحرقها النيران.. و تفوح روائح كريهة لا تستطيع الأنوف إلا استنشاقها مرغمة..

و كلما انفجر شيء جديد، منزل أو مبنى أو شارع أو سيارة.. صرخت الفتاتان و ارتعشت يداي و انحرفت في سيري جاهلا.. أيهما سيكون الأسرع لتحديد مصيرنا .. قنبلة ما ؟ أم اصطدام ما ؟ أم أن النجاة ستكتب لنا بقدرة من لا تفوق قدرته قدرة، و لا يضاهي رحمته رحمة..

كنت أشهد أمامي تصادم السيارات المسرعة، التي فرت من الموت.. و إليه
و أرى أشياء ترتطم بزجاج سيارتي و تحدث تصدعات و كسور تحول دون وضوح الرؤية أمام عيني..

لم يكن باستطاعتي إلا الاستمرار في طريقي اللا محدد .. و كما تسير الحية سرنا ذات اليمين و ذات الشمال نعطف كلما ظهر شيء أمامنا و نسلك كل تشعب نلقاه حتى انتهى بنا الطريق إلى شارع رئيسي...
حانت مني الآن التفاتة أخيرا إلى اليمين.. فرأيت الفتاة الجالسة إلى جانبي و قد انثنت بجدعها إلى الأمام حتى لامس رأسها ركبتيها و وضعت ذراعيها على جانبي رأسها لتحاشي رؤية أو سماع شيء.. بينما أنفاسها الباكية اللاهثة تكاد تلهب قدمي ّ الحافيتين..

" رغد.. "

لم تغير من وضعها ..

التفت إلى الوراء لألقي نظرة على دانة، فوجدتها هي الأخرى مكبة على وجهها تحتضن المقعد المجاور و تنوح و تصرخ ..

" يا رب.. يا رب.. يا رب.. "

هتفت بأعلى صوتي:

" يا رب.. يا رب.. يا رب "

هتفت رغد بصوتها المبحوح المرتجف:

" يا رب.. يا رب.. يا رب "

لم يكن لدينا أمل في النجاة إلا برحمة الله..




أسير في الشارع بسرعة جنونية دون هدف.. وسط قصف جوي مباغت.. و القنابل و الصواريخ تهوي من السماء كالوابل.. و الأرض تتزل من تحتي.. و معي فتاتان مذعورتان تصرخان بفزع و هلع.. و النيران تحاصرني و تحيط بي من جميع الاتجاهات... وسط ليلة غدر عجت سماؤها بألسن النار و الشر.. مخلفا منزلا محترقا متهدما.. و مستقبِلا مصيرا مجهولا غامضا..



كم من الوقت مضى.. لا أعرف
كم من المسافة قطعت ؟ لا أعرف ..
ألا زالت الفتاتان على قيد الحياة ؟
لا أعرف
أنجونا من الموت ؟
أيضا لا أعرف...



الشيء الذي ألاحظه هو أني في وسط طريق بري.. و لم أعد أرى السماء متوهجة.. و لم أعد أحس بالأرض ترتعد كما لم أعد أسمع الدوي و لا الضجيج...


" رغد.. دانة.. "

لم تجب أي منهما...

" رغد.. دانة أتسمعاني ؟؟ "

و أيضا لم تردا..

هلعت، رفعت يدي اليمنى عن المقود و مدتها نحو رغد التي لا تزال على نفس الوضع..

" رغد صغيرتي.. ردي علي.. "

بطء تحركت رغد حتى استوت جالسة و هي تخفي وجهها خلف يديها خشية النظر .. و شيئا فشيئا فرّقت ما بين أصابعها و سمحت لنظرة منها للتسل إلى المحيط و رؤية ما يجري..

" لقد ابتعدنا.. أأنتِ بخير ؟؟ "

نظرت رعد غير مصدقة.. إلى الشارع .. إلى السماء.. إلى الطريق من أمامنا .. إلى دانة من خلفنا.. و إلي..

لم تستطع النطق بأي كلمة.. عادت تنظر إلى الوراء تريد أن تنادي دانة الدافنة وجهها في المقعد المجاور .. إلا أنها عجزت عن ذلك..

نظرت أنا إلى دانة و هتفت بصوت عال:

" دانة.. عزيزتي.. اجلسي أرجوك "

دانة لفت برأسها إلينا و جعلت تنقل بصرها بيننا ..

ثم جلست و نظرت عبر النافذة المغلقة ثم قالت:

" أين نحن ؟؟ "

قلت و أنا أنظر إليها عبر المرآة:

" الله أعلم "

قالت:

" أين نذهب ؟؟ "

قلت:

" الله أعلم.. فقط لنبتعد عن منطقة الخطر.. "

نظرت إلى الوراء ثم إلي و قالت:

" هل سنجو ؟ "

أنى لي أن أتنبّأ ؟؟

الله الأعلم..

دانة اقتربت من مسند مقعدي حتى التصقت به و مدت يدها عبر الفتحة بين المقعدين إلى ذراعي تمسك به و تصيح:

" هل هذه حقيقة ؟؟ وليد هل أنا أحلم ؟؟ ألا زلت نائمة ؟؟ هل مت ّ ؟؟ هل أنا حية ؟؟ "

رفعت يدي فأمسكت بيدها،إن لأواسها أو لأطلب منها المواساة .. و كم كانت باردة كالثلج...

" وليد "

هذه كانت رغد التي تنظر إلي ربما طالبة المواساة و الأمان هي الأخرى.. ثم ضمّت يدها إلى أيدينا و دخلتا في نوبة طويلة و قوية من البكاء و النواح..

لقد كنت أنا أيضا بحاجة للبكاء مثلهما.. فما رأيت كان من الفظاعة و الشناعة ما يجعل الجبال الصخرية تخر منهارة..

إلا أن الدموع ستحول دون الرؤية أمامي، و أنا أقود وسط الظلام بسرعة رهيبة..
تماسكت و ركزّت على الطريق..


فجأة.. قالت دانة:

" نوّار ! "

ثم أخذت تلطم على وجهها و تنوح..

" يا إلهي ماذا جرى لنوّار ؟؟ "

و نظرت إلي و هي تسأل:

" الهاتف ؟؟ "

و لكن الهاتف لم يكن معي...

إننا نفذنا بجلودنا و الله العالم بما حلّ بمن بقي في المدينة..

لم تهدأ من نوبة النواح إلا بعد زمن... أظن القنوط غلبها و استسلمت لما يخبئه لنا القدر



انتبهت الآن إلى عبوة لمشروب غازي موضوعة إلى جانبي، و كنت ُ قد اشتريتها يوم أمس أثناء تجولي بالسيارة ثم لم أشربها.. مدت يدي إليها و لمست حرارتها التي استمدتها من حرارة السيارة..

خفت ُ السرعة و أخذت العبوة و فتحتها بيدي اليمنى، ثم مدتها نحو رغد..

" اشربي "

إذ لا بد أن حلوقنا جميعا جافة متخشبة من هول ما مررنا به..

رغد أمسكت العبوة بكلتا يديها و قربتها من فمها و رشفت مقدار ما رطب جوفها و أعادتها إلي..

" دانة.. خذي اشربي "

مدت دانة يدها و تناولت العلبة و شربت منها ثم أعادتها إلي .. و جاء دوري لأشرب..

كان ساخنا غير مستساغ المذاق إلا أن العطش اضطرنا لازدراده عن آخره دون تذوق.

 
قديم   #38

نودى نينو


رد: رواية إنتِ لي كاملة


رواية إنتِ لي كاملة

تمه

ساعة السيارة كانت تشير إلى الثالثة و الأربعين دقيقة فجرا.. عندما رأيت أضواء أمامي... و طابور من السيارات الواقفة خلف بعضها البعض.. ظهر لي أنها نقطة تفتيش أو ما شابه..

خفت السرعة تدريجيا حتى انضممت إلى طابور السيارات.. و بدأ القلق يزداد بسرعة في نفسي و نفسي الفتاتين..

بدأ الطابور يتحرك بطء.. لا يتناسب و تسارع نبض قلبي و أنفاسي..

و أخيرا حان دوري..

فتحت نافذة بابي فقرّب الشرطي رأسه منها و طلب البطاقة و الاستمارة و رخصة القيادة

بعدها بدأ بطرح الأسئلة.. عن مكان قدومي و وجهتي..

" لقد فرت بعائلتي من المدينة الصناعية... حيث القصف المباغت.. سأنزل أقرب مكان آمن.. "

و يبدو أنها كانت إجابة معظم من في السيارات السائرة قبلي..

" من معك ؟ "

" شقيقتي و ابنة عمّي "

" ألديك بطاقتيهما ؟ "

" لا، لم أفكر في إحضار شيء كهذا فقد نفذنا بجلودنا فقط "

الشرطي أطل برأسه من النافذة ناظرا نحو من يركب السيارة معي.. ثم طلب مني إيقاف السيارة جانبا و النزول.

ركنت ُ السيارة جانبا، و هممت بالنزول.. الفتاتان هتفتا في وقت واحد:

" وليد "

بخوف و وجل..

إن نسيتم فسأذكركم بأني أرتعد خوفا من الشرطة و العساكر.. بعد الذي لاقيته في السجن تلك السنين.. و إن كنت سأطمئن الفتاتين فإن على أحدهم طمأنتي بادىء ذي بدء..

قلت بصوت مضطرب :

" لا تقلقا.. سأرى ما يريدون "

نزلت من السيارة و وطأت قدماي الحافيتين الشارع.. و ذهبت إلى حيث كان رجال الشرطة يقفون مع مجموعة من سائقي السيارات المركونة إلى جانب سيارتي..

الجو كان باردا و كذلك الأرض.. لكن رعدة جسدي الحقيقية كانت من أثر القصف و منظر رجال الشرطة المهاب..

هناك، استجوبني الرجال و دونوا المعلومات ثم طلبوا مني فتح السيارة لتفتيشها

عدت إلى السيارة و معي اثنان منهم بعد قرابة العشرين دقيقة.. و فتحت الباب المجاور لرغد أولا و قلت:

" يريدون تفتيش السيارة، اهبطا "

لم تتحرك الفتاتان مباشرة، تلفت رغد من حولها فرأت شماغا لي ملقى على مقعدي يظهر أني نسيته في السيارة يوم أمس ، فأخذته و تلثّمت به.. ثم هبطت حافية القدمين أيضا و وقفت إلى جواري مباشرة و حين فتحت الباب الخلفي لدانة أبت الخروج.. و أشارت إلى شعرها..

لم تكن دانة ترتدي حجابا

نظرت من حولي فلم أجد شيئا أغطي به رأس شقيقتي.. فضلا عن قدميها.. فيما الشرطيان يقفان على مقربة و الناس من حولي كثر..

نزعت قميص نومي و قدّمته لها لتختمر به.. و بعدما نزلت التصقت بي من جهة بينما رغد من الجهة الأخرى..

أمسكت بيدي الفتاتين و سرت مبتعدا عن السيارة بعض الشيء لأفسح المجال لرجلي الشرطة للتفيش.

بعد فراغهما من المهمة سألتهما:

" أيمكننا الذهاب ؟؟ "

قال أحدهما:

" ليس بعد. فمغادرة هذه المنطقة محظورة لحين إشعار آخر "

ثم أشار إلى الناحية الأخرى من الشارع و قال :

" ابقوا هناك.."

نظرت إلى تلك الناحية فرأيت مجموعة من الناس الذين أوقفهم رجال الشرطة مثلنا يقف بعضهم و يجلس البعض الآخر على حافة الشارع، متفرقين..

شدت الضغط على يدي الفتاتين و عبرت الشارع معهما تطأ أقدامنا الحافية العارية الأرض الجرداء و تستقبل أجسادنا تيارات الهواء البارد فتقشعر.. و يزداد اقترابنا من بعض و تشبثنا بعض والناس في شغل عن النظر إلينا.. بأنفسهم و ذويهم .. و إلى السماء يرتفع البكاء و العويل و الصراخ و النواح.. من كل جانب.. و إليها أرفع بصري فأرى بدر الليلة السادسة عشر من شهر الحج يشهد فاجعة شعب غدر به عدّوه و انتهك حرمته في غفلة من أعين الناس.. و عين الله فوق كل عين ٍ شاهدة ٍ.. شاهدة.

 
قديم   #39

نودى نينو


رد: رواية إنتِ لي كاملة


رواية إنتِ لي كاملة


الحلقةالخامسةوالعشرون
********






على الرمال الناعمة بمحاذاة الشارع جلست بين الفتاتين بعدما أعيانا طول الوقوف و الانتظار..

و من حولنا أناس كثر متفرقون .. نسمع بكاء النساء و الأطفال ..

أرى رغد تفرك يديها بعضهما البعض بقوة و باستمرار و تهف عليهما طالبة شيئا من الدفء . لقد كانت ترتجف بردا.. أكاد أسمع اصطكاك أسنانها بعضها بعض..

أما دانة فكان وجهها مغمورا تحت ثنايا القميص و مستسلمة لصمت موحش..

لم تكن الشمس قد أشرقت بعد.. و كان التعب قد أخذ منا ما أخذ و نرى رجال الشرطة يجولون ذهابا و جيئة و أعيننا متشبثة بهم..

التفت ناحية رغد و سألتها:

" أتشعرين بالبرد؟"

الصغيرة أجابت بقشعريرة سرت في جسدها..

أنا أيضا كنت أشعر بالبرد لا يدفئ جدعي سوى سترتي الداخلية الخفيفة..

لكن إن تحمّلت أنا ذلك ، فأنّى لفتاة صغيرة تحمّله ؟؟

ألقيت ُ نظرة على مجموعة من رجال الشرطة المتمركزين قرب السيارات ثم قلت:

" دعانا نذهب إلى السيارة "

و وقفت فوقفت الفتاتان من بعدي و سرت فسارتا خلفي تمسك كل منهما بالأخرى حتى صرت قرب رجال الشرطة..

نظروا إلى بتشك.. و سألني أحدهم عما أريد

" أود البقاء في سيارتي فقد قرصنا البرد"

" عد من حيث أتيت يا هذا "

" لكن الجو بارد ٌ جدا لا تتحمل قسوته الفتاتان "

الشرطي نظر إلى الفتاتين و لم يعلّق.

فقال آخر :

" ابقوا حيث الآخرين"

قلت بإصرار:

" ستموتان بردا! "

ثم أضفت :

" هل تعتقدون أننا سنهرب ؟ سأعطيك مفتاح السيارة لتأكد"

و أدخلت يدي في جيبي و استخرجت ُ مفاتيحي و مدتها إليه...

الشرطي تبادل النظرة مع زملائه ثم همّ بأخذ المفاتيح بما احتواها.

لقد كانت المفاتيح مضمومة في ميدالية أهدتني إياها رغد ليلة العيد.. انتزعت مفتاح السيارة من بينها و قدّمته إلى الشرطي و احتفظت بالميدالية و بقية المفاتيح.

حين أعطيته المفتاح ، سمح لنا بالتوجه إلى السيارة.

عندما فتحت الباب الأمامي الأيمن وقفت الفتاتان عنده تنظران إلى بعضهما البعض، ثم تنحت رغد جانبا سامحة لدانة بالدخول .. و فتحت هي الباب الخلفي .

حينما جلسنا في السيارة ، أخذنا الصمت فترة طويلة.. و بدأت أجسادنا تسترد شيئا من دفئها المفقود...

لم يكن أحدنا يعرف كيف يفكر ، كنا فقط في حالة ذهول و عدم تصديق .. منتظرين ما يخبئه لنا القدر خلف ظلام الليل..

أسندنا رؤوسنا إلى المقاعد علّها تمتص شيئا من الشحنات المتعاركة في داخلها..

و من حين لآخر ، ألقي نظرة على الفتاتين أطمئن عليهما..
رغد اضطجعت على المقاعد الخلفية و ربما غلبها النوم...

أطل من خلال النافذة على السماء فأرى خيوط الفجر تتسل خلسة.. فيلقي الله في نفسي ذكره..

" الصلاة "

قلت ُ ذلك و التفت إلى دانة التي تجلس إلى جواري ملقية بثقل رأسها على مسند المقعد. نظرت إلي، ثم أغمضت عينيها.

أما رغد فلم تتحرك.

نظرت إلى الناس فوجدت بعضهم يركعون و يسجدون..على الرمال

قلت :

" سأذهب لأصلي "

فتحت عينيها مجددا ثم أغمضتهما.

" توخيا الحذر ، دقائق و أعود"

و مدت ُ يدي إلى مقبض الباب فتحته و خرجت.. أغلقت الباب و مشيت بضع خطى مبتعدا قبل أن أسمع صوب باب ينفتح بسرعة و أسمع من يناديني..

" وليد "

التفت إليها فرأيتها تخرج من السيارة مسرعة، تقصدني

أتيت إليها فأبصرت في وجهها الفزع المهول

" إلى أين تذهب ؟ "

قالت لاهثة ، فأجبت مطمئنا :

" سأصلّي مع الناس "

و أشرت إلى الطرف الآخر من الشارع حيث المصلين..

رغد هتفت بسرعة :

" لا تذهب "

قلت :

" سأصلي و أعود مباشرة "

" لا تذهب ! لا تتركني وحدي "

قلت مطمئنا :

" دانة معك ، لحظة فقط "

رغد حركت رأسها اعتراضا و إصرارا و هي تقول :

" لا تذهب .. ألا يكفي ما نحن فيه ؟ لا تبتعد وليد أرجوك "

لم أستطع إلا أن أعود أدراجي ، و أتيمم و أؤدي الصلاة ملتصقا بالسيارة.

ما إن فرغت ُ من ذلك ، حتى سمعنا ضجيجا يقتحم السماء..

نظرنا جميعنا إلى الأعلى فأبصرنا طائرة تخترق سكون الفجر...

صرخ بعض الموجودين :

" قنابل ! "

و هنا .. بدأ الناس يتصايحون و يصرخون و يركضون فارين .. محدثين ضجة و جلبة شديدين..

رأيتهم جميعا يجرون على الشارع مبتعدين.. فتحت ُ بابي السيارة بسرعة و هتفت

" هيا بنا "

و أمسكت بيدي الفتاتين و جرتهما ليركضا معي بأسرع ما أوتينا من قوّة..

" أركضا.. أركضا بسرعة "



اقتحمنا أفواج الهاربين الصارخين المستصرخين .. هذا يدفع هذا و هذا يسحب هذا و ذاك يصطدم بالآخر .. و آخر يدوس على غيره.. و الحابل مختلط بالنابل..

نحن نركض و نركض دون التعقيب.. دون أي التفات إلي الوراء.. و دوي الطائرة يعلو سماءنا.. و يجلجل أرضنا المهتزة تحت أقدامنا الراكضة..الحافية.. أسمع صراخا من كل ناحية.. أسمع صراخ دانة و رغد.. و صراخي أنا أيضا.. و أشد قبضي عليهما و أطلق ساقي ّ للريح.

يتعثر من يتعثر.. ينزلق من ينزلق.. يتدحرج من يتدحرج.. يقع من يقع و ينكسر ما ينكسر و يداس ما يداس.. لا شيء يستدعيني لأوقف انجراف رجليّ .. أسابق الزمن.. و أكاد أسبقه ..

كان ذلك من أشد الأوقات هولا و فظاعة.. لن يفوقهما شدة إلا هول يوم الحشر...

سيارات الشرطة و سيارات أخرى رأيناها تشق الطريق فرارا سابقة إيانا.. و سمعنا أصوات رشق ناري زادنا رعبا على رعب و صراخا فوق صراخ..

قطعت مسافة لا علم لي بطولها، أسحب الفتاتين خلفي و هما عاجزتان عن مجاراة خطواتي الواسعة ، تقفزان قفزا بل تطيران طيرانا..



فجأة وقعت رغد أرضا فصرت أسحبها سحبا إلى أن تمكنت ُ من إيقاف اندفاعي الشديد في الركض..

و أقبل الناس من خلفنا يرتطمون بنا و داسها أحدهم في طريقه..

صرخت :

" قومي رغد "

إلا أنها كانت تمسك بقدمها و تتلوى ألما و تصرخ :

" قدمي .. قدمي .. "

جثوت نحوها و أمسكت بقدمها الحافية فإذا بقطعة من الزجاج مغروسة فيها و الدماء تتدفق من الجرح..

لابد أنها داست عنوة على كسرة الزجاج هذه أثناء جرينا المبهم..

أمسكت بقطعة الزجاج بين إصبعي و انتزعتها بعنف و رغد تصرخ بشدة.. بعد ذلك سحبتها من يدها لنستوي واقفين و طرت راكضا ممسكا بالفتاتين.. عنوة..

رغد كانت تصرخ ألما و تركض على أطراف أصابع قدمها المصابة فيما الدماء تقطر منها و تهتف :

" لا أستطيع .. آي .. لا أستطيع "

مما أبطأ سرعة انطلاقنا ..

ثم عادت و هوت أرضا من جديد.. و ضغطت على قدمها المصابة بيدها الحرة ..

" انهضي رغد بسرعة "

" لا أستطيع .. قدمي تؤلمي .. آي.. تؤلمني بشدة .. لا أستطيع "

" هيا يا رغد لنج ُ بأنفسنا "

" لا أستطيع .. كلا "

لأن أفكر، لا مجال .. ، لأن أتردد .. لا مجال ..، لكي أنجو بحياتي و حياة شقيقتي و حبيبتي .. سأقدم على أي شيء..

انتشلت صغيرتي من على الأرض بذراعي و حملتها على كتفي.. وجهها إلى ظهري و قدماها إلى أمامي .. منكبة على رأسها..

هتفت :

" تشبثي بي جيدا "

و أنا أطبق عليها بقوة بإحدى يدي ّ خشية أن تنزلق، فيما أمسك بشقيقتي باليد الأخرى ، ثم أسابق الريح...



تارة أزيد و تارة أخف السرعة.. ألتقط بعض الأنفاس و أسمح لشقيقتي بتنفس الصعداء..

كان الإعياء قد أصابنا و نال منا ما نال حين رفعت بصري إلى السماء فلم أبصر أية طائرة و أصغيت أذني فلم أسمع أي ضجيج... و تفلت من حولي فوجدت الناس متهالكين على الشارع و معظمهم مضطجعين هنا أو هناك.. من فرط التعب و نفاذ الطاقة..

انحرفت يسارا و خرجت عن الشارع إلى الرمال على حافته.. و هويت جاثيا على الأرض..

حررت رغد و دانة من بين يدي و ارتميت على الرمال منكبا على وجهي و أخذت أتنفس بقوّة .. تجعل ذرات الرمل و الغبار المتطايرة من حولي تقتحم فمي مع تيارات الهواء...

أخذت أسعل و أتحشرج.. و قد أغلقت عيني لأحميهما من الغبار..

لزمت وضعي هذا لدقيقتين دون حراك.. فجسدي كان منهكا جدا و بحاجة إلى كمية أكبر من الأوكسجين ليطرد غازاته الضارة خارجا..

عندما فتحت عيني ّ و نظرت يمنة و يسرة رأيت الفتاتين مرتميتين على الرمال مثلي.. دانة متمدة على ظهرتها تتنفس بسرعة ، و رغد جالسة تمسّد قدمها المصابة و تئن ألما..

لم أجد في جسدي من الطاقة ما يمكني الآن من النهوض..

الشمس كانت قد أرسلت أول جيوش أشعتها الذهبية الباهتة لتغزو السماء و تطرد الظلام .. و شيئا فشيئا بدأت تحتل السماء.. وتنير الكون.. وتكشف ما كان خافيا و تفضح ما كان مستورا..

جلست بعدما استرددت بعض قواي.. وأنا أراقب رغد المتألمة.. المكشوفة الرأس.. يتدلى خمارها ( شماغي ) على كتفيها ...
كان الجرح لا يزال ينزف.. و الدماء سقت الرمال.. كما لطخت ملابس رغد بل و وجدت بقعا منها على ملابسي أنا أيضا..

فقد كانت تقطر و أنا أحملها..

" دعيني أرى "

قلت ذلك و قرّبت وجهي من قدمها أتأمل الجرح العميق.. و ما علق به من الرمال و الشظايا و الأتربة..

مسحت ما حولي بنظرة سريعة فلم أجد ما أغطي به هذا الجرح النازف..

نفس القميص الذي كانت دانة تختمر به ، نزعت أحد كمّيه و لفته حول قدم رغد ..

كما لفت خمارها حول رأسها بنفسي...


دانة قالت بعد ذلك بانهيار:

" ماذا يحدث برب السماء ؟؟ فليخبرني أحد.. هل هذه حقيقة؟؟ لماذا فعلوا هذا بنا؟؟ ما حلّ بنوّار؟؟ و سامر ؟؟ "

و أجهشت بكاء و نواحا.. فضممتها إلى صدري أحاول تهدئتها .. و أبقيتها بين ذراعي مقدارا من الزمن.. بينما رغد تراقبنا..

بعد ذلك رأينا الناس ينهضون و يسيرون في نفس الاتجاه.. فوجا بعد فوج.. و جماعة بعد أخرى..

قلت :

" هيا بنا "

قالت دانة :

" إلى أين ؟؟ "

" لا أعرف.. سنسير مع الآخرين"

قالت :

" سنموت في الطريق.. "

قلت :

" لو لم توقفنا الشرطة و تخرجنا من سياراتنا لربما كنا الآن قد بلغنا مكانا آمنا.. لا أريد العودة للوراء و لا التخلف عن الآخرين.. كما أنهم أخذوا مفتاح سيارتي.. أظننا على مقربة من إحدى المدن "

فقد كانت اللافتة على جانب الطريق تشير إلى ذلك..

نهضت معهما و سرنا على مهل، و رغد تعرج و تستند إلى دانة... و تتوقف من حين لآخر..

قطعنا مسافة طويلة بلا هدف ... نسير زمنا و نرتاح فترة .. و تعامدت الشمس فوق رؤوسنا و نحن تائهون في البر..

كنا نشعر بتعب شديد.. و مهما نسير نجد الطريق طويلا .. و لا تعبره أية سيارات..

توقفنا بعد مدة لنيل قسطا من الراحة.. و أي راحة ؟؟

قالت رغد :

" أنا عطشى..."

و نظرت إلي باستغاثة..

ماذا بيدي يا رغد ؟؟ لو كانت عيني عينا لسقيتك منها و إن شربتها كلها و أبقيتني جافا .. أو أعمى.. لكني مثلك ، يكاد العطش يقتلني و ما تبقى من طاقتي لا يكفي لقطع المزيد من الطريق..

إننا سنموت حتما إذا بقينا هنا.. أنا أرى الناس ينهارون من حولي من التعب و العطش و الجوع.. و يتخلّف من يتخلّف منهم بعد مسيرتنا..

يجب أن نسرع و إلا هلكنا..


" هيا بنا "

قالت دانة :

" أنا متعبة ، دعنا نرتاح قليلا بعد "

قلت بإصرار :

" كلا .. يجب أن نسرع بالفرار قبل أن يدركنا حتفنا "

و أجبرت الفتاتين على النهوض و السير مجددا و بأسرع ما أمكنهما ..

قوى رغد يبدو أنها انتهت.. إنها تترنح في السير.. تمشي بطء.. تجر قدميها جرا.. تئن و تلهث.. تسير مغمضة العينين متدلية الذراعين.. ثم أخيرا تقع أرضا..

أسرعت إليها و أمسكت بكتفيها و هزتها و أنا أقول :

" رغد .. رغد تماسكي .."

رغد تدور بعينيها الغائرتين النصف مغلقتين و تنطلق حروف من فيها الفاغر مع أنفاسها الضعيفة السطحية :

" ماء.. عطشى.. سأموت.. وليد.. لا تتركني "


ثم تغيب عن الوعي..

أخذت أهزها بقوة أكبر و أصرخ :

" رغد .. أفيقي.. أفيقي .. هيا يا رغد تشجعي.. "

فتفتح عينيها لثوان ، ثم تغمضهما باستسلام...


ثم أسمع صوت ارتطام فالتفت ، فأرى شقيقتي تهوي أرضا هي الأخرى..

أسرع إليها و أوقظها :

" دانة انهضي... هيا قومي سنصل قريبا "

" متعبة.. دعني أرتاح.. قليلا "


و انظر إلى الشمس فأراها تقترب من الأفق.. و تنذر بقرب الرحيل..و ختم النهار..

تركتهما ترتاحان فترة بسيطة ، ثم جعلتهما تنهضان .. دانة تسحب قدميها سحبا .. و رغد مستندة إلي.. أجرها معي ..

وصلنا بعد ذلك إلى محطة وقود .. و صار من بقي من الناس يركضون باتجاهها و يقتحمون البقالة الصغيرة التابعة لها كالمجانين بحثا عن الماء..

أسرعت أنا أيضا بدوري إلى هناك .. أسحب الفتاتين و حين اقتربت من الباب و رأيت الناس تتعارك يرصّ بعضهم بعضا قلت للفتاين :

" انتظراني هنا "

و حررتهما من يدي وأنا أقول :

" لا تتحركا خطوة واحدة "

و هممت بالذهاب لمزاحمة الآخرين..

رغد صرخت صرخة حنجرة ميتة :

" لا تذهب "

قلت :

" سأجلب الماء .. انتظريني "

و حين سرت خطوة مدت هي يدها و أمسكت بذراعي تسحبني تجاهها و تقول في ذعر :

" لا تذهب وليد .. كلا ..كلا .. "

حررت ذراعي من يدها و زمجرت :

" دعيني أدرك الماء قبل أن يدركنا الموت.. ستموتين إن لم ألحق "

" سأموت إن ذهبت "

لا أعرف كيف أصف الشعور الذي انتابني لحظتها..

في قعر الضعف و اليأس و الاستسلام.. أرى صغيرتي متشبثة بي في خشية من أن الوحدة.. بينما الموت أولى بأن تخشاه و تهرب منه..

قلت موجها كلامي لدانة :

" أمسكي بها "

و دفعت بيدها بعيدا عني و أسرعت إلى البقالة..تلاحقني صيحاتها..

غصت وسط الزحام و لم استطع نيل أكثر من قارورتي ماء صغيرتين و علبة عصير انتشلتها انتشالا و ركلت من حاول سلبها مني..

خرجت بغنيمتي من المعركة و جريت نحو الموضع الذي تركت الفتاتين فيه فلم أجدهما..

تلفت يمنة و يسرة فلم أجدهما ...

جن جنوني و رحت أهتف مناديا :

" رغد... دانة ... أين أنتما ؟؟ "

ثم سمعت صوت دانة تهتف :

" وليد .. هنا "

و وجدتها تجلس عند خازنات الوقود و رغد ملقاة أرضا إلى جوارها..

ركضت نحوها فزعا..

" ماذا حدث ؟؟ "

" ربما مات ؟ لا أعرف إنها لا تستفيق "

مسكت رغد و هزتها بقوة و أنا أصرخ :

" رغد .. أفيقي.. لقد جلبت الماء.. أفيقي هيا .."

بالكاد ترمش بعينيها.. فتحت علبة العصير و أدخلت طرف الماصة بداخلها و الطرف الآخر في فم رغد و ضغطت على العلبة حتى يتدفق العصير إلى فم رغد.. رغد حركت شفتيها قليلا.. ثم أخذت تبلع العصير.. ثم تشربه..

" اشربي.. اشربي .."


أما دانة فأخذت إحدى قارورتي الماء و شربتها كاملة دفعة واحدة.. و تقاسمت أنا و رغد القارورة الأخرى..

" اشربي المزيد.. اشربيه كله.. "

الناس كانوا يدخلون و يخرجون من البقالة كل يحمل الطعام و الشراب.. دون مراعاة لأي حقوق.. و أي لياقة.. في وضع كالذي كنا عليه.. ينسى المرء نفسه..

استردت رغد وعيها الكامل .. و شيئا من قوتها..

" أأنت بخير الآن رغد ؟؟ أيمكنك النهوض ؟"

أومأت برأسها إيجابا فنهضنا نحن الثلاثة و أنا مسندا إياها..

قلت :

" سأجلب طعاما يمنحنا القوة لمتابعة السير"

رغد قالت :

" أنا متعبة.. لا أستطيع السير بعد.. لا أستطيع "

و نظرت إلى دانة ، فقالت هي الأخرى :

" و لا أنا.. دعنا نرتاح ساعة "

و في الواقع ، جميع من كانوا يسيرون جلسوا للراحة و تناول ما امتدت إليه أيدهم من الطعام..

اخترنا نحن بدورنا موضعا لنجلس فيه .. بعيدا بعض الشيء عن الآخرين .. ذاك أني لم أشأ جعل الفتاتين عرضة لأعين الغير..

بعدما استقرنا هناك، أردت العودة إلى البقالة و إحضار أي طعام.. إلا أن رغد منعتني .. فالتزمت مكاني ..

كنت أراها تضغط على جرحها من حين لآخر.. و تعبيرات وجهها تتألم و أسمعها تئن..

قلت :

" أهو مؤلم جدا ؟ تحمّلي صغيرتي.. قليلا بعد"

و لا يزيدها ذلك إلا أنينا..

" أنا متعبة "

قالت و هي بالكاد قادرة على حمل رأسها و تكاد تسقطه .. و تدور بعينيها في المكان .. و تفرك يديها من البرد ..

تفطّر قلبي لرؤيتها بهذا الشكل.. و لم أعرف ما أفعل؟؟ إن صغيرتي تتألم و على حافة الموت.. ماذا أفعل ؟

هي رأتني أراقب تحركاتها و تململها .. قالت :

" أريد أن أنام "

قلت :

" اضطجعي و نامي صغيرتي.. "

حركت رأسها اعتراضا.. بينما عيناها تكادان تنغلقان رغما عنها..

رأفت بحالها البائس.. و قلت بعطف :

" اضطجعي رغد.. أنت متعبة جدا .. استرخي هيا.."

رغد نظرت إلى دانة.. ثم إلى الناس ، ثم إلي بتردد..

قلت مشجعا :

" هيا صغيرتي .. لا تخشي شيئا "

و بادرت دانة بالاضطجاع .. بدورها.. فتشجعت رغد.. و همت بالانبطاح.. لكنها قالت قبل ذلك :

" لا تذهب إلى أي مكان وليد أرجوك "

قلت مطمئنا :

" لا تقلقي، أنا باق ٍ هاهنا "

ثم تمدت على الرمال.. و أغمضت عينيها ..

أنا أيضا استلقيت على الرمال المجردة.. طالبا بعض الراحة .. و سرعان ما رأيت رغد تجلس و هي تنظر إلي و تقول :

" هل ستنام ؟ "

قلت :

" كلا.. سأسترخي قليلا "

و بدت مترددة ..

قلت :

" عودي للنوم رغد .. اطمئني "

فعادت و استلقت على الأرض .. و سكنت قليلا .. قم عادت فجلست و ألقت نظرة علي !

قلت :

" ماذا ؟؟ "

قالت :

" لا تنم وليد أرجوك "

جلست مستويا ، و قلت :

" لن أنام صغيرتي .. نامي أنت و أنا سأبقى أراقب ما حولنا .. اطمئني "

و أخيرا اطمأن قلبها أو ربما تغلّب عليها النعاس و التعب ، فاستسلمت للنوم بسرعة..




في العراء.. ننام مفترشين الأرض الجرداء... ملتحفين السماء .. تهب علينا التيارات الباردة تجمّد أطرافنا .. فنرتجف .. و تقشعر أجسادنا و قلوبنا .. ثم لا تجد ما يدفئها و يهدئ روعها..


كان الليل يمر ساعة بعد أخرى.. دون أن نحسب الزمن..

عاد البدر يراقبنا و يشهد تشردنا .. و حال لم يخلق الله مثلها حالا ..

أراقب الفتاتين فأجدهما مستغرقتين في النوم .. و أنا شديد الإعياء .. و السكون و الظلام مخيم على الأجواء.. و معظم الناس رقود..


النعاس غلبني أنا أيضا.. فقد نلت ما نلته من الإجهاد.. لكني كنت أقاومه بتحد ٍ .. كيف لعيني أن تغفوا و فتاتاي نائمتان في العراء.. عرضة لكل شيء .. و أي شيء ؟؟

وقفت كي أطرد سلطان النوم ، و جعلت أحوم حول الفتاتين و أذرع المكان ذهابا و جيئة.. و أقترب منهما كل حين أراقب أنفاسهما.. و أطمئن إلى أنهما نائمتان و على قيد الحياة..

أنا متعب.. متعب.. أكاد أنهار.. رأسي دائخ و الكون يدور من حولي.. و عيناي تزيغان ..
يا رب.. إن عينك لا تغيب و لا تغفل.. و لطفك و رحمتك وسعا كل شيء.. فاشملنا تحت حفظك..

أ اغمض عينيّ لحظة واحدة؟ فقط لحظة.. أهدئ من تهيجهما و حرارتهما.. لحظة واحدة يا رب..

و لم تطعني عيناي كما أبى قلبي أن يغفل عنهما طرفة عين...

فيما أنا بهذه الحال.. بعد مضي فترة من الزمن.. أبصرت نورا يقترب منا قادما من آخر الشارع..

إنها سيارة ! السيارة الأولى التي تعبر هذا الشارع مذ تشرّدنا فيه ..

لم تكن سوى سيارة حوض.. ما أن رآها بعض الناس حتى أسرعوا راكضين إليها طالبين النجدة..

أسرعت إلى الفتاتين و أيقظتهما :

" رغد.. دانة .. هيا بنا بسرعة "

فتحتا أعينهما مذعورتين ، و مدت يدي و أمسكت بيديهما و سحبتهما لتنهضا جالستين ثم واقفتين في فزع..

قلت :

" لنلحق بالسيارة "

و ركضت ساحبا إياهما حتى أدركنا السيارة و انضممنا إلى أفواج الناس الذين ركبوا حوضها

سائق السيارة كان يهتف :

" انتظروا لأعبئ خزانها وقودا "

إلا أن الناس تشبثوا بها بجنون ..

بعد ذلك انطلقت السيارة بمن حملت تسير بسرعة لا بأس بها.. كان بعضنا جالسا و البعض واقفا ، و كنا نحن الثلاثة ضمن الوقوف .

كنا واقفين عند مقدمة الحوض، الفتاتان ملتصقتان برأس السيارة و أنا أكاد ألتصق بهما، فاتحا ذراعيّ حولهما أصد الناس عن ملامستهما..

بعد مسيرة ساعة أو أكثر .. لا أعلم تحديدا.. بلغنا مشارف إحدى المدن.. و أوقف السائق السيارة و قال :

" امضوا في سبلكم"

هبطنا جميعا و تفرقنا .. هذا هنا و هذا هناك .. باحثين عن ملاجئ لهم..

وقفت أنا حائرا.. إلى أين أذهب في هذا الليل الكئيب.. و معي هاتان الفتاتان المنكوبتان ؟؟

و تلفت من حولي فرأيت لا فتة تدل إلى طريق المدينة الشمالية الزراعية ، و الكائنة على مقربة..

نجحت بعد جهد في إقناع السائق بإيصالنا إلى هناك ، و تحديدا إلى مزرعة نديم ،
فهي الفكرة التي طرأت على رأسي المرهق هذه اللحظة ،.. بمقابل..
و شكرت الله أن جعلني أحمل محفظتي في جيبي مع المفاتيح..


ولم تكن المسافة طويلة ، وصلنا بعد فترة قصيرة إلى هناك..


هبطنا من السيارة و شكرت السائق .. و حثت الفتاتين على السير معي..

قالت دانة :

" إلى أين ؟ "

قلت :

" تقطن عائلة صديقي هنا، سأسألهم استضافتنا لهذه الليلة.. فنحن متعبون جدا "

لقد كان كل ما سبق أشبه بالكابوس .. إلا أنه كان الواقع..

بوابة المزرعة كانت مفتوحة كالعادة ، مشينا متجهين نحو المنزل.. دانة تمسك بقميصي الموضوع حول رأسها، و رغد تجر قدمها المصابة.. و كلاهما تمسكان بيدي من الجانبين..

عند عتبات باب المنزل.. تركتاني لأصعد العتبات ، ثم أقرع الجرس، ثم ينفتح أسمع صوتا يسأل عن الطارق ، فأجيب :

" وليد شاكر "

ثم أرى الباب ينفتح ، و تظهر من خلفه ... أروى نديم .







~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~






اتسعت حدقتا الفتاة التي أطلت من فتحة الباب ... و ألقت علينا جميعا نظرة مذهولة و قالت :


" سيد وليد ! "

وليد قال :

" مساء الخير.. هل العم إلياس موجود ؟؟ "

ردت الفتاة :

" خالي في طريقه إلى هنا .. "

ثم عاودت النظر إلينا أنا و دانة ، ثم قالت :

" ما الأمر ؟؟ "

قال وليد :

" فرنا من القصف الجوي... نجونا بأعجوبة "

الفتاة وضعت يدها على صدرها و شهقت .. ثم قالت :

" أ ... أنت ... تقيم في المدينة الصناعية ؟؟ "

أجاب وليد :

" نعم ، مع عائلتي .. "

و أشار إلينا..

ثم قال :

" تدمرت مدينتا.. و الآن.. أصبحنا بلا مأوى.. "

سرعان ما فتحت الفتاة الباب على مصراعيه و قالت :

" هلموا بالدخول "


وليد قال :

" سنتظر العم إلياس.. "

إلا أن الفتاة أصرت :

" تفضلوا رجاء ... "

ثم التفت إلى الداخل و أخذت تنادي :

" أمي ... "


وليد الآن التفت إلينا و قال :

" تعالا"

ترددنا قليلا إلا أننا سرنا معه إلى الداخل ...

و في النور استطعت أن أرى وجه الفتاة الذي لم يكن جليا قبل قليل...

فتاة شديدة البياض و الشقرة... زرقاء العينين حمراء الخدّين.. أجنبية الملامح..

أقبلت سيدة أخرى نحونا و حين رأت وليد تهلت و رحبت به بحرارة..

السيدة كانت شديدة الشبة بالفتاة..

قالت الفتاة :

" هربوا من المدينة الصناعية يا أمي ! "

امتقع وجه السيدة ثم قالت :

" أوه ربّاه ! حمدا لله على سلامتكم "

و أخذت الفتاة تكرر ذلك أيضا ..

قال وليد :

" سلمكما الله ، شكرا لكما و أعتذر على حضوري إلى هنا ..لكننا بحاجة لمكان آمن نبات فيه ليلتنا هذه "

السيدة الكبرى أشارت إلى وليد بالتوقف عن الحديث و عادت ترحب من جديد .. و التفت إلينا أنا و دانة ..

وليد قال :

" شقيقتي و ابنة عمّي "

قالت السيدة :

" و أين أبواك ؟ "

قلت :

" لم يعودا من الحج بعد .. أو .. لا أعرف ما حصل معهما ! "

قالت السيدة و هي تشير بيدها نحو المقاعد :

" تفضلوا رجاء .. تفضلوا "


أنا و دانة كنا ممسكتين بيد بعضنا البعض .. واقفتين بحذر و تردد..

وليد تحدّث إلينا قائلا :

" تعالا .. لنجلس هناك "

و سرنا معه إلى المقاعد..

و جلست دانة ملتصقة به و أنا ملتصقة بها..

وليد ألقى نظرة علينا ثم قال مخاطبا الفتاة :

" هل لنا بعض الماء من فضلك ؟؟ "

" فورا "

و ذهبت الفتاة و عادت تحمل قارورة كبيرة من الماء المعدني و كأسين اثنين..

ملأتهما ماءا و قدّمت الأول إلي و الثاني إلى دانة.. فشربنا بنهم شديد... المزيد و المزيد و المزيد... و وليد و الفتاة و السيدة يراقبوننا بشفقة !

ذهبت الفتاة و أحضرت قارورة أخرى و كأسا ثالثا و دفعتهما نحو وليد ...

" تفضّل "

وليد تناولهما و بدأ يشرب الكأس بعد الآخر حتى أفرغ معظم محتويات القارورة في جوفه..

أيّكم جرّب عطشا كهذا العطش ؟؟

ألا لعنة الله على الظالمين ...





قالت السيدة مخاطبة الفتاة :

" اذهبي و حضّري بعض الطعام.. حضّري الحساء و الشطائر "

و أسرعت الفتاة منصرفة إلى حيث أمرت ..

وليد قال :

" نحن آسفون يا سيدة ليندا .. إننا"

فقاطعته السيدة و قالت :

" لا .. لا داعي لقول شيء يا بني .. ألف حمد لله على نجاتكم .. "

ثم سمعنا صوت الباب ينفتح ، و يدخل منه رجل عجوز ...

ما إن دخل حتى وقف وليد فوقفنا أن و دانة تباعا ..

الرجل ذهل ، و قال بتعجب :

" وليد ؟؟ "

و أقبل وليد نحوه فصافحه ثم أخبره عما حصل معنا و ما دعانا للحضور إلى هنا..

و العجوز لم يقل كرما عن السيدة و الفتاة .. بل رحب بوليد و عانقه و حمد الله كثيرا على سلامته..

حتى هذه الساعة لازلت بين الإدراك و إلا إدراك .. بين الحقيقة و الحلم ، و التصديق و التكذيب...

و لازلت أشعر بتعب لا يسمح لي بالوقوف أكثر من ذلك.. خصوصا على قدم جريحة متألمة.. لذا فإني هويت على المقعد و ألقيت برأسي على مسنده..

دانة جلست إلى جواري و ربت على كتفي و قالت :

" رغد.. أأنت بخير ؟؟ "

أنا تنهّدت و أنت .. وليد أقبل هو الآخر نحوي قلقا .. و قال :

" أأنت على ما يرام ؟؟ "

أشرت إلى قدمي .. أنا أتألم..

وليد قال مخاطبا الرجل العجوز :

" أيوجد لديكم مطهرا و ضمادا للجروح ؟؟"

السيدة غابت ثوان ثم عادت تحمل ما يلزم .. وليد قال :

" يجب غسلها أولا .. "

السيدة قالت :

" دورة المياه من هنا "

إلا أني هزت رأسي ممانعة.. و لزمت مكاني..

دانة قالت بصوت هامس تكلم وليد :

" أنا أريد استخدام دورة المياه "

وليد أستأذن أصحاب المنزل ، ثم نهضت دانة واقفة ، تغطي معظم وجهها بالقميص الموضوع على رأسها...

اعتقد أن الرجل العجوز انصرف هذه اللحظة .. أما السيدة الأخرى فعادت تشير إلى ناحية الحمام :

" من هنا .. "

ذهبت دانة إلى دورة المياه ، و السيدة استأذنت و غادرت لدقائق.. و بقيت أنا متهالكة على المقعد و وليد واقف إلى جواري..

قال :

" أأنت بخير صغيرتي ؟؟"

لا ! كيف لي أن أكون بخير ؟؟ إني في حال من أسوأ الأحوال التي مرت علي ّ ... بدأت بالبكاء إلا أن دموعا لم تخرج من عيني ...

وليد جلس بقربي و قال :

" ستكونين بخير.. نجونا من الموت .. الحمد لله "

شعرت لحظتها برغبة في الارتماء في حضنه.. و البكاء على صدره.. و الاسترخاء بين ذراعيه.. أنا متعبة و أتألم.. أريد من يواسيني و يشجعني.. أريد حضنا يشملني و يدا تربت علي.. أريد أمي.. أريد أبي.. أريد وليد.. و لم أنل منه غير نظرات مشجعة..


أقبلت السيدة تحمل معها وشاحين.. قدّمتهما إلي..

نزعت ُ عن رأسي ما كنت أتحجّب به، و لفت أحد الوشاحين حول رأسي ، على مرأى من وليد ... !


و عندما عادت دانة ، و قد غسلت وجهها و قدميها الحافيتين أعطيتها الوشاح الآخر...

قالت :

" تعالي لأغسل جرحك رغد..."

و أيضا لم أتحرّك .. فوق تعبي و إعيائي و الدوار الذي أشعر به.. أنا خائفة..
نعم خائفة..

السيدة قامت بنفسها بإحضار وعاء يحوي ماء .. و وضعته عند قدمي ّ و قالت :

" هل أساعدك ؟ "

دانة قالت :

" شكرا لك ، سأفعل ذلك "

ثم أخذت تحل الضماد و الذي هو عبارة عن كم قميص وليد من حول قدمي .. و غمرتها بعد ذلك في الماء النظيف الدافئ..

بدأت الأوجاع تتفاقم و تتزايد. و أخذت أئن و أصيح .. لكني لم أقاوم.. و استسلمت لما فعلته دانة بقدمي.. و أنا مغمضة العينين..

عندما فتحتهما كانت قد انتهت من لف قدمي بالضماد ... كما أن السيدة أحضرت ماءا نظيفا لأغسل قدمي الأخرى...

كل هذا و أنا ملتزمة الصمت و السكون إلا عن أنات و صياح ألم..

و الآن، جاءت الفتاة تحمل صينية ملآى بالشطائر بينما يتبعها العجوز حاملا صينية أخرى رُصّت علب العصير الورقية فوقها...

و وضعا الطعام و الشراب أمامنا و الفتاة تقول :

" تفضلوا هذا لحين نضج الحساء "

لم يمد أحدنا يده.. ما الذي يجعلنا نفكّر بالطعام في وقت كهذا ؟؟ فراح أصحاب المنزل يحثوننا على الطعام..

وليد تناول اثنتين من علب العصير و قدمهما لي و لدانة، فأخذت علبتي و شربت ما بها بطء...

أصحاب المنزل الثلاثة استأذنوا منصرفين عنا، ربما لنتصرف بحرية أكبر..


وليد أيضا وزع الشطائر علينا إلا أني رفضت تناولها..

" خذي يا رغد.. لابد أنك جائعة جدا.. كلي واحدة على الأقل"

" لا أريد "

" هيا أرجوك .. ستموتين إن بقيت بلا طعام ساعة بعد "

و لم يفلح في إقناعي.. لكنه و دانة تناولا شيئا من الطعام بصمت..


لحظات و إذا بالفتاة تقبل بأقداح الحساء الساخن.. و تقدمها إلينا ثم تنصرف..


أجبرت نفسي على رشف ملعقتين من الحساء.. ثم أسندت رأسي إلى المقعد و أغمضت عيني..

 
قديم   #40

نودى نينو


رد: رواية إنتِ لي كاملة


رواية إنتِ لي كاملة

تمه

كنت أسمع أصوات الملاعق .. و حركة الأواني .. و ربما حتى صوت بلعهما للطعام و هضم معدتيهما له ! و أسمع كذلك صوت نبضي يطن في أذني.. و أنفاسي تنحشر في أنفي.. و الآن .. صوت وليد يناديني ..

" رغد "

فتحت عيني فوجدته ينظر إلي بقلق.. و يعيد السؤال :

" أأنت بخير ؟؟ "

قلت :

" أنا متعبة "

قال :

" سأتحدّث معهم .. "

ثم نهض و نادى :

" أيها العم الطيب .. "

ظهر الثلاثة من حيث كانوا يختبئون عنا ..

قال وليد :

" اعذرونا رجاء ً.. إننا في غاية التعب فقد قضينا ساعات طويلة نسير في الخلاء.. أين يمكننا المبيت بعد إذنكم ؟؟ "

قالت السيدة :

" ستنام ابنتي معي في غرفتي و يمكن للفتاين المبيت في غرفتها.. سنعد فراشا أرضيا إضافيا "

و قال العجوز مخاطبا وليد :

" و أنت غرفتك كما هي "

قال وليد :

" هذا جيّد ... "

ثم أضاف :

" أشكركم جميعا جزيل الشكر.. إني ... "

و مرة أخرى قاطعته السيدة و قالت :

" لا داعي لكل ذلك يا سيد وليد، ألم نكن كالعائلة؟ جميعكم أبنائي.. "

ثم أضافت مخاطبة الفتاة :

" خذي الفتاتين إلى غرفتك "

الفتاة أقبلت نحونا و هي تبتسم و تقول :

" تفضلا معي .. "

كلانا نظرت إلى وليد بتردد.. فقال الأخير :

" هيا عزيزتاي "

و هز رأسه مطمئنا.. يبدو أنه على علاقة وطيدة بهم.. و يثق بهم كثيرا..

وقفت دانة و وقفت معها .. ثم قلت لوليد :

" و أنت ؟ "

قال :

" سأبات في غرفة في الخارج تابعة للمنزل "

هزت رأسي اعتراضا شديدا ... مستحيل ! و عوضا عن مرافقة الفتاة اقتربت منه هو ، و قلت :

" لن تذهب و تتركنا "

قال :

" إنها غرفة خارجية اعتدت المبيت فيها.. ملاصقة للمنزل تماما "

هزت رأسي بإصرار أشد :

" لا .. لا "

وليد نظر إلي بضيق و تعب و أسى .. كأنه يرجوني أن أطلق سراحه و أدعه يرتاح قليلا..

قال :

" ستكونين بخير.. هذه عائلتي "

إلا أني ازدت إصرارا و رفضا و قلت :

" سأذهب معك "

وليد و دانة تبادلا النظرات .. و لم يعرف أي منهما ما يقول..

مدت يدي فأمسكت بيده مؤكدة أكثر و أكثر بأني لن أسمح له بالابتعاد عني..

أخيرا تكلّم وليد مخاطبا أصحاب المنزل :

" إن لم يكن في ذلك ما يزعجكم .. فسنبيت في الغرفة الخارجية نحن الثلاثة.. و نحن آسفون لكل ما سببناه لكم من إزعاج .. "

العجوز تكلّم و قال :

" كما تشاءون يا بني.. سأجلب المزيد من الفرش و البطانيات لكم "

و تحرك الثلاثة ، و أحضروا البطانيات و حملوها سائرين نحو الباب، و سرنا معهم إلى خارج المنزل ..

كانت الغرفة المقصودة هي غرفة تابعة للمنزل مفصولة عنه بجدار مشترك.. و كانت صغيرة نسبيا و بداخلها سرير صغير و أثاث بسيط ، و تتبعها دورة مياه صغيرة قريبة من الباب..

الثلاثة و معهم وليد تعاونوا في تحضير فراشين أرضين على المساحة الحرة من الغرفة.. و حالما انتهوا ، قال العجوز ..

" أتمنى لكم نوما هانئا "

و عقّبت السيدة :

" تصبحون على خير"

أما الفتاة فقد أسرعت بالذهاب ثم العودة بصينية الشطائر و بعض العصائر .. و وضعتها على المنضدة الصغيرة التابعة لأثاث الغرفة و هي تقول :

" فيم لو احتجتم أي شيء فلا تتوا في طلبه ! "

وليد قال :

" شكرا جزيلا..هل نستطيع استخدام الهاتف ؟ "

قال العجوز :

" بكل تأكيد.. "

فشكرهم كثيرا و كذلك فعلت دانة ، ثم انصرفوا ...

و فور خروجهم أقفل وليد الباب و أقبل إلى الهاتف .. و اتصل بأحد الأرقام .. و كان أول ما نطق به بعدها و بلهفة شديدة :

" سامر يا عزيزي .. أأنت بخير ؟؟ "

 




الساعة الآن توقيت السعودية الرياض و الدمام و القصيم و جدة 06:00 AM.


 
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024,
vBulletin Optimisation provided by vB Optimise (Pro) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.

Search Engine Optimization by vBSEO 3.6.0