تفسير سورة طه
الآيات 17 ـ 21
(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى )
ثم قال له الله : ( وما تلك بيمينك يا موسى ) أى انظر هذه العصاة التى تمسك بها دائما
( قال هى عصاى أتوكأ عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مآرب أخرى ) : إنها عصا أهش بها على الأغنام لجمعها وأهز بها الشجر ليسقط الورق لترعى الغنم وكذلك أتوكأ عليها ولى فيها منافع أخرى
( قال ألقها ياموسى * فألقاها فإذا هى حية تسعى) : ألقى بالعصا يا موسى فلما ألقى بها فإذا بها تصبح حية عظيمة
وهذا بالطبع شئ رهيب خارق للطبيعة والعادة وهذا من قدرة الله الذى يقول للشئ كن فيكون
وخاف موسى ( ولى مدبرا ) ورجع هاربا ولم يلتفت
ولكن الله ناداه ( يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين )
ولما رجع قال له ( قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ) :عندما تمسك بها سنعيدها عصا مرة أخرى
ولما مسك بها تحولت ثانيا إلى عصاه
وسبحان القدير العظيم
الآيات 22 ـ 35
( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى *لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى *اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى *قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي *وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي *كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا *وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا *إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا )
ثم أمره أن يدخل يده فى جيبه ثم يخرجها فيجدها بيضاء بغير بهق ولا برص
وهذه علامات من الله على أنك مرسل من عند الله إلى الناس لتدعوهم لعبادة الله الواحد
وقد طلب موسى من ربه أن يجعل معه أخاه هارون نبيا يعاونه فى رسالته فهو أفصح كلاما ولسانا وأبلغ فى البيان ،
ويطلب موسى من الله أن يكون فى عونه ويساعده وينصره فى هذا الأمر
( احلل عقدة من لسانى * يفقهوا قولى ) : اختبر فرعون درجة ادراك موسى عندما لقيه طفلا رضيعا فقدم له تمرة وجمرة فجعله الله يقبل على الجمرة ويضعها بفمه فاطمأن فرعون وأبقى عليه فلم يقتله وأصبح من بعدها موسى لا يجيد النطق بلسانه
وهنا يطلب موسى من الله أن يعينه بأخيه هارون الذى يفصح بالكلام حتى يفهم القوم ما يريد قوله لهم وأن يشركه معه فى المشاورة وذكر الله والتسبيح الكثير
ثم يشكر الله أنه يبصر من أمرهم واصطفاه فى الرسالة فيقول ( إنك كنت بنا بصيرا)
الآيات 36 ـ 39
( قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى *وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى *إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى *أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي *إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا )
ويقول الله عز وجل لموسى لقد استجبت لمطالبك يا موسى
ويذكره بفضله سبحانه عليه منذ ولادته :
كان أخوة يوسف قد استقروا فى مصر وتكاثروا وكثروا وتعرضوا للإضطهاد فهم بنوا اسرائيل ( يعقوب)
وكان الملك ( رمسيس ) قد أكد له كهنة المعبد عبدة الأصنام بأنه سيولد ولد يقتل الملك ويستولى على الحكم
فقرر الملك قتل كل مولود ولد وترك النساء وبالطبع هذا بلاء عظيم يتسبب عنه الفواحش وضعف الدولة
وكان عناء الناس شديد إذ بعد أن كثر بنوا اسرائيل ( أخوة يوسف ) وأصبحوا شعبا كبيرا خاف فرعون مصر على ملكه ودولته فكان يستعبدهم فى أعنف الحرف وأردئها
كان بنوا اسرائيل يتدارسون فيما بينهم ما يعلمونه عن ابراهيم عليه السلام بأنه يخرج من ذريته غلام يكون على يديه نهاية ملك الفراعنة فى مصر
ولم يكن فرعون يستطيع طرد اليهود من مصر لكثرة عددهم فسخرهم فى الأعمال الشاقة ليكون هلاكهم بالإضافة لقتل الولدان وترك البنات
وكان يتابع الحوامل من النساء ليعرف موعد ولادتهم وليعرف ما وضعت منهم
وبذلك كان حذرا كل الحذر ولكن ( الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )
فإذا كان يخشى فرعون إنتهاء ملكه على يد غلام من بنى اسرائيل فقد جعل الله نهاية فرعون على يد هذا الغلام الذى رباه فرعون نفسه فى بيته ليحميه الله من خطر عدوه فى بيت عدوه
شكا القبط ( وهم أهل مصر ) إلى فرعون أن قتل ألذكور من بنو إسرائيل سيسبب أن تفنى الكبار وتقتل الصغار فمن سيقوم بأعمالهم بعد ذلك إلا القبط ... فأمر فرعون بأن تقتل الذكور عاما وتترك عاما
وولد هارون فى سنة المسامحة
ثم حملت أمه وستلد فى سنة القتل
ووضعت ولدا أسمته موسى وخافت عليه
فأوحى لها الله فكرة النجاة وهى بأن تضعه فى صندوق وتربطه بخيط وتضعه فى النيل وكانت دارها مجاورة للنيل تراقبه طوال النهار هى وابنتها مريم وترضعه ثم تضعه ثانيا فى البحر وتمسك طرف الحبل عندها فإذا بعد الجند أخذته
هذه أمه حائرة ويتمزق قلبها مخافة أن يطلع الجند على ولادة موسى
وتأت القدرة الإلهية لتربط على قلبها وتطمئنها
أرضعيه وإن خفت عليه ألقيه فى البحر فهو فى رعاية الله ... سبحان الله
ويبشرها ( إنا رادوه إليك ) ... ( وجاعلوه من المرسلين)
ولكن وجده الجنود وأخذوه
أخذوه ليصبح لهم عدو
خافت أمه من آل فرعون ولكنهم أخذوه وهذا فرعون وهامان اللذان كانا يقتلان كل مولود أخذوه بلا بحث ولا عناء ويلقى الله محبته فى قلوبهم وقلب زوجة فرعون التى كانت لا تنجب فتتمناه لها ولدا وقالت ( قرت عين لى ولك )
وهذا ما حدث فكان لها قرة عين فى الدنيا وسكن لها فى الآخرة فى الجنة
أما لفرعون فلا فقد انتهى ملكه وظلمه على يديه وغرق فى البحر بسببه وهو فى الآخرة من أصحاب الجحيم
تبنياه وهما لا يعلمان ما يخفى الله لهما
ولكن قلب الأم يتمزق خوفا على وليدها
قال تعالى :
(وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين )
أى طار عقلها من الجزع والخوف وكادت تكشف عن أمرها بأنه وليدها لولا أن الله ثبت قلبها وأنعم عليها بالصبر فاطمأن قلبها
( وقالت لأخته قصيه ) قالت لأخته مريم تتبعيه واتبعى أخباره
وأخذه آل فرعون ليكون لهم ولدا وأغشى الله أبصارهم
ولكن عرضوا عليه المراضع لإرضاعه بدون فائدة لأن الله حرم عليه المراضع ليرجعه لأمه
قالت لهم أخته أتريدون أن أدلكم على مرضعة له ترضعه فقالوا نعم فأدخلته على أمه وهم لا يعرفون أنها أمه فرضع منها وبذلك كانوا يدخلون عليه فى كل وقت يحتاج فيه الرضاع وأعطوها أيضا أجرة إرضاعه وكسوتها وطعامها ونفقتها
ونشأ موسى وتربى فى قصر فرعون أفضل تربية
وشب وكبر موسى
ورث موسى من آبائه الذين ينتمون إلى أبو الأنبياء التقوى والإيمان بالله وفقه الدين ولم يسجد لصنم من أصنمة القصر الملكى وحباه الله حسن الخلق ومحبة الناس وحباه بسطة فى القوة والجسم ولا نعرف كيف كانت علاقته بأمه تلك السنوات وكيف مرتفقد كان الله بشر أمه برده لها وجعله من المرسلين فقال سبحانه وتعالى ( :إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) ، ولكن ما نعرفه عنه هو بعد أن كبر وبلغ سن الأربعين وهو سن التكليف واحتكام الخلق وأتاه الله العلم والحكم
قال تعالى : (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين)
قال تعالى يشرح لنا قصة لموسى بعد أن بلغ أشده
( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ) القصص 15
فى ذات يوم كان اليوم انتصف وأغلقت الأسواق والناس فى غفلة القيلولة من الحر الشديد ، وكان موسى يمشى نحو المدينة وجد رجلين يتصارعان ويقتتلان ، أحدهما من القبط والآخر من بنو إسرائيل ، فاستغاث به الذى من بنو إسرائيل يستنجد به على عدوهما القبطى
وهذا يدل على أن موسى كان قد ترك قصر فرعون وأصبح ناقم على الملك وحاشيته وأن بنو إسرائيل علموا ذلك
فوكز موسى بيده القبطى ليبعده عن الإسرائيلى وكان موسى قوى وانفعل وكان فى ضيق من فرعون ومن معه فقضت الوكزة عليه ومات القبطى
عندما وجد ذلك ندم على انفعاله وغضبه وقال هذا من فعل الشيطان لأنه لم يكن ينوى قتله وإنما وكزه ليبعده عن الرجل فقط
ثم استغفر وطلب العفو من الله فقال: ( قال رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى )
واستجاب له الله فغفر له : ( فغفر له إنه هو الغفور الرحيم )
قال موسى كما ذكرالله لنا : ( قال رب بما أنعمت علىّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) عندما تاب موسى ورجع لربه وزلزلت نفسه بشعوره أن الله استجاب له وغفر له خطأه قال لن أعود ثانيا مساندا للمجرمين
وهذه هى التوبة أن يقع الفرد فى الخطأ ويفيق ليؤنب نفسه فورا ويتراجع ويعزم على عدم الرجوع للذنب
و( فأصبح فى المدينة خائفا يترقب ) يلتفت حوله من أن يدركه الأذى بسبب جريمته الغير مقصودة ( فإذا الذى استنصره بالأمس يستصرخه قال موسى إنك لغوى مبين ) وهذا الذى كانت الجريمة بسبب تشاجره بالأمس يتشاجر ويتصارع اليوم مع آخر ويستنجد بموسى ثانية بعد الذى حدث
فقال موسى يتضح الآن إن المخطئ والمذنب هو أنت
أراد أيضاأن ينقذ الإسرائيلى من القبطى ولكن صورة القتيل التى تراوده بالأمس تتخيل له فيقاوم شدته ويصرخ القبطى ويقول: ( أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين )
وقيل فى ذلك أن ما قال ذلك هو الإسرائيلى لما رأى من تعنيف موسى له لما رأى أنه هو الذى يتشاجر مع الأقباط
وذهب القبطى إلى قصر فرعون وأخبر بالخبر واشتد غضب فرعون وأرسل فى طلب موسى لقتله والتخلص منه فهو الطفل الذى كان قد قدر له أن يقتل موسى ورباه فى قصره بدون أن يعلم فهو فى نظرهم يثور لنصرة بنى إسرائيل إذن فهو المخلص المنتظر
وجاء من بعيد رجل من آل فرعون كان مؤمنا يكتم إيمانه وقال له إنهم يأتمرون بك ويريدون قتلك فاهرب واخرج من المدينة
وخرج موسى من مصر خائفا على نفسه وهو يدعو الله أن ينجيه من قوم فرعون والأقباط المصريين الظالمين
|