شكرا أبي
شكرا أبي
شكراً أبي ..
دخل علي الغرفة مرة قبل الفجر ليوقظني للصلاة ، فوجدني ساجداً ، فما كان منه إلا أن نزل على ركبتيه وقبل رأسي وأنا ساجد ثم خرج من غرفتي
أنتهيت من صلاتي وأنا مندهش مما حصل ،
مازلت على سجادتي أحاول القيام من عليها لكن قدماي لا تحملاني ، شعرت كأن يداي تنتفضان من هول ما جرى
هنا ارتفع صوت المؤذن يعلن للدنيا عن صلاة الفجر ، قمت من على سجادتي ، لبست غترتي ، خرجت إلى المسجد وأنا أتساءل؟ لماذا فعل ذلك ؟
طوال عمري وأنا الذي أقبله على رأسه ، وعلى يده ، أما اليوم فالصورة أرعبتني
هل رأى رؤيا أفزعته ، أم رأى شيئاً أسره ؟
مازالت الحوارات بداخلي حتى دخلت المسجد
ومن عادتي أن أدخل وأصلي في ميامن الصفوف ولكن هذه المرة توجهت للجهة الأخرى حتى لا أراه أو يراني قبل الصلاة
إنتهينا من الصلاة ، وانتظرت متى يخرج الناس من المسجد ، وأنا أسترق النظر كل دقيقة لأرى إن كان الناس قد تناقصوا ، ولأني أعلم أنه لا يخرج قبل الشروق ، أريد أن أذهب وأجلس معه وأسأله عما فعله اليوم
قبلت رأسه وجلست بجواره ، تبسم لما شعر بي ، أغلق مصحفه ، والتفت إلي بابتسامته الرائعة المثقلة بعناء السنين ودفئ الطاعة
أبي يا حبة قلبي ونور بصري ونبضة روحي : لماذا فعلت ذلك ؟ لماذا نزلت على ركبتيك على الأرض لتحملني عناء الألم بنزولك ، ولماذا قبلتني على رأسي لترهقني بواجبات السداد التي لا يمكنني أن أوفيها ؟
هنا وجدت أن ابتسامته اختلطت بعبرات ودمعات كادت تخنقني قبل أن تخرج منه نظر إلى عيني وقال : والله لولا عاطفة الأبوة لقلت : حرام أن تعيش في دنيانا
لم أتمالك نفسي ، بكيت ، قبلت رأسه ويده ، وقلت له : إنما أنا نبت سقيته أنت ، وارتوى من معينك ، ومازال يتعلم من مدرستك ، ولولا أن يقال كل إنسان بوالده معجب ، لقلت : هنيئاً للأرض والدنيا بوجود أمثالك
أيها الأحباب :
هذه ليست قصة من نسج خيالي ، إنما هي صورة حية لأخ أعرفه وأعرف والده
قد يقول قائل : إنها مبالغات الأبوة وانبهار البنوة
وحق لكل واحد منهما ذاك ، ولكني عندما جلست أتأمل قوليهما وجدت فيه الكثير من الصواب
فالأب يرى أحوال شبابنا اليوم مابين سهر ولعب وسينما وسفر وغناء وتدخين ومباريات وأفلام ومسرحيات وتأخر عن الصلوات ، ثم هو في وسط هذا الزحام المنتشر من الملهيات يرى ولداً لا يفتر عن طاعة ، صوام قوام ، عابد زاهد ، يقبل بالقليل ولا تفتنه شهوات الزمان ، قلبه معلق بالشوق للجنان والخوف من النيران
وولد يرى والده الشيخ الكبير لا ينقطع عن مصلاه ولا يفتر عن الصدقة ، ولا يقطع مصحفه ، مع ما آتاه الله من خير الدنيا إلا أنه متواضع إلى آخر درجة
عندما أخبرني بالقصة ، قلت له : هنيئاً لك به وهنيئاً له بك فنعم الوالد والولد
أخيرا :
جميل يا أحباب أن نربي أبناءنا هكذا ثم نفرح بجني الثمار بصلاحهم ، وجميل أن يكون الآباء قدوة لأبنائهم فيمثلون لهم الصورة الرائعة للدين
اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا واغفر لنا تقصيرنا تجاههم
وبارك في ذرياتنا واجعلهم من الصالحين المصلحين
✏د. احمد المنصوري )
|