|
#1
|
|
أحوال القلوب وأقسامها
أحوال القلوب وأقسامها
لما كان القلب للأعضاء كالملك المتصرف في الجنود التي
تصدر كلها عن أمره ويستعملها فيما يحب ، فكلها تحت
عبوديته وقهره ، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ ، وتتبعه
فيما يعقده من العزم أو يحله ، قال النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ : ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت
صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا
وهي القلب))(رواه البخاري ومسلم) .
فهو ملكها وهي المنفذة لما يأمرها به القابلة لما يأتيها من
هديه ، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن
قصده ونيته ، وهو المسؤول عنها كلها ، فكل راعٍ
مسؤول عن رعيته ، لذا كان الاهتمام بتصحيح القلب
وتسديده أول ما اعتمد عليه السالكون والنظر في أمراض
القلب وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون .
ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد
عليه ؛ أجلب عليه بالوساوس ، وأقبل بوجوه الشهوات
إليه ، وزين له من الأحوال والأعمال ما يصده عن
الطريق ، وأمده من أسباب الغي ما يقطعه به عن أسباب
التوفيق ، ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من
الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق ، فلا
نجاة من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى
والتعرض لأسباب مرضاته والتجاء القلب إليه وإقباله
عليه في حركاته وسكناته ، والتحقيق بذل العبودية الذي
هو أول ما تلبس به الإنسان ليحصل له الدخول في
ضمان : (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)(الحجر/42).
أقسام القلوب :
لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها انقسم بحسب ذلك
إلى أقسام ثلاثة : قلب سليم ـ وقلب ميت ـ قلب
مريض .
القلب السليم :
وهو القلب الذي لا ينجو يوم القامة إلا من أتى الله به كما قال تعالى : (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم)(الشعراء/88) .
والسليم هو السالم الذي صارت السلامة صفةً ثابتةً له
كالعليم والقدير ، وأيضـًا فإنه ضد المريض والسقيم
والعليل ، فهو الذي قد سَلِمَ مَن كل شهوة تخالف أمر الله
ونهيه ، ومن كل شبهة تعارض خبره ، فسلم من عبودية
ما سواه ، وسلم من تحكيم غير رسوله ، فخلصت
عبوديته لله تعالى إرادةً ومحبةً وتوكلاً ، وإنابة وإخباتـًا
وخشية ورجاء ، وخلص عمله لله ، فإن أحبَّ أحب في
الله ، وإن أبغض أبغض في الله ، وإن أعطى أعطى لله ،
وإن منع منع لله ، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد
والتحكيم لكل من عدا رسوله ـ صلى الله عليه وسلم
ـ فيعقد قلبه معه عقدًا محكمـًا على الائتمام والاقتداء
به وحده دون كل أحد في الأقوال والأفعال .
القلب الميت :
هو القلب الذي لا حياة فيه ، فهو لا يعرف ربه ولا
يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه ، بل هو واقفٌ مع شهواته
ولذاته ، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه فهو لا يبالي إذا
فاز بشهوته رضى ربه أم سخط ، فهو متعبد لغير الله
حبـًا وخوفـًا ورجاءً ورضـًا وسخطـًا وتعظيمـًا
وذلاً ، إن أحب أحب لهواه ، وإن أبغض أبغض لهواه ،
وإن منع منع لهواه ، وإن أعطى أعطى لهواه ، فهواه آثر
عنده من رضا مولاه ، فالهوى إمامه ، والشهوة قائده ،
والجهل سائقه ، والغفلة مركبه ، فهو بالفكر في تحصيل
أغراضه الدنيوية مغمور ، وبسكرة الهوى وحب العاجلة
مخمور ، ينادى إلى الله والدار الآخرة من مكان بعيد فلا
يستجيب للناصح ويتبع كل شيطان مريد ، الدنيا
تسخطه وترضيه ، والهوى يصمُّه عما سوى الباطل
ويعميه ، فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ، ومعاشرته
سم ، ومجالسته هلاك .
القلب المريض :
قلب له حياة وبه علة ، فله مادتان تمده هذه مرة وهذه
أخرى ، وهو لما غلب عليه منهما ، ففيه من محبة الله تعالى
والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه ما هو مادة حياته
، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها
والحسد والعجب والكبر وحب العلو والفساد في الأرض
والرياسة ما هو مادة هلاكِهِ وعطبه ، وهو ممتحن بين
داعيين : داعٍ يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة ،
وداعٍ يدعوه إلى العاجلة ، وهو إنما يجيب أقربهما منه
وأدناهما إليه جوارًا .
فالقلب الأول حيٌ مخبتٌ ، والثاني يابسٌ ميتٌ ، والثالث
مريض فإما إلى السلامة أدنى ، وإما إلى العطب أدنى .
|
|
|