|
في ظلال سورة النبأ
وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها , وهي أمر عظيم لا خفاء فيه , ولا شبهة ; ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته:(عم يتساءلون ? عن النبأ العظيم , الذي هم فيه مختلفون . كلا سيعلمون . ثم كلا سيعلمون !). .
ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه , ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم , في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم , يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه:(ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا , وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ?).
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون , والذي هددهم به يوم يعلمون ! ليقول لهم ما هو ? وكيف يكون:(إن يوم الفصل كان ميقاتا . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا). .
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه: (إن جهنم كانت مرصادا , للطاغين مآبا , لابثين فيها أحقابا , لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا . إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا , وكذبوا بآياتنا كذابا ,وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا). .
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقا إن للمتقين مفازا:حدائق وأعنابا , وكواعب أترابا , وكأسا دهاقا , لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا . جزاء من ربك عطاء حسابا).
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه . وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل:(رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا . ذلك اليوم الحق . فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا . إنا أنذرناكم عذابا قريبا . يوم ينظر المرء ما قدمت يداه , ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا). .
ذلك هو النبأ العظيم . الذي يتساءلون عنه . وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم !
الدرس الأول:1 - 5 تهديد الكفار المنكرين للنبأ العظيم
(عم يتساءلون ? عن النبأ العظيم . الذي هم فيه مختلفون . كلا ! سيعلمون . ثم كلا ! سيعلمون). . مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين , وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل . وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة . وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل , ولا يكادون يتصورون وقوعه , وهو أولى شيء بأن يكون !
(عم يتساءلون ?). . وعن أي شيء يتحدثون ? ثم يجيب . فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم . إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم , بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته:
(عن النبأ العظيم , الذي هم فيه مختلفون). . ولم يحدد ما يتساءلون عنه بلفظه , إنما ذكره بوصفه . . النبأ العظيم . . استطرادا في أسلوب التعجيب والتضخيم . . وكان الخلاف على اليوم بين الذين آمنوا به والذين كفروا بوقوعه . أما التساؤل فكان من هؤلاء وحدهم .
ثم لا يجيب عن التساؤل , ولا يدلي بحقيقة النبأ المسؤول عنه . فيتركه بوصفه . . العظيم . . وينتقل إلى التلويح بالتهديد الملفوف , وهو أوقع من الجواب المباشر , وأعمق في التخويف:
(كلا ! سيعلمون . ثم كلا ! سيعلمون !). . ولفظ كلا , يقال في الردع والزجر فهو أنسب هنا للظل الذي يراد إلقاؤه . وتكراره وتكرار الجملة كلها فيه من التهديد ما فيه .
الدرس الثاني:6 - 16 تذكيرهم ببعض نعم الله عليهم
ثم يبعد في ظاهر الأمر عن موضوع ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون . ليلتقي به بعد قليل . يبعد في جولة قريبة في هذا الكون المنظور مع حشد من الكائنات والظواهر والحقائق والمشاهد , تهز الكيان حين يتدبرها الجنان:
(ألم نجعل الأرض مهادا ? والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا ? وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا , وجنات ألفافا ?). .
وهذه الجولة التي تتنقل في أرجاء هذا الكون الواسع العريض , مع هذا الحشد الهائل من الصور والمشاهد , تذكر في حيز ضيق مكتنز من الألفاظ والعبارات , مما يجعل إيقاعها في الحس حادا ثقيلا نفاذا , كأنه المطارق المتوالية , بلا فتور ولا انقطاع ! وصيغة الاستفهام الموجهة إلى المخاطبين - وهي في اللغة تفيد التقرير - صيغة مقصودة هنا , وكأنما هي يد قوية تهز الغافلين , وهي توجه أنظارهم وقلوبهم إلى هذا الحشد من الخلائق والظواهر التي تشي بما وراءها من التدبير والتقدير , والقدرة على الإنشاء والإعادة , والحكمة التي لا تدع أمر الخلائق سدى بلا حساب ولا جزاء . . ومن هنا تلتقي بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون !
واللمسة الأولى في هذه الجولة عن الأرض والجبال:
(ألم نجعل الأرض مهادا , والجبال أوتادا ?). .
والمهاد:الممهد للسير . . والمهاد اللين كالمهد . . وكلاهما متقارب . وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته . فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية . وكون الجبال أوتادا ظاهرة تراها العين كذلك حتى من الإنسان البدائي ; وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه إليها النفس .
غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدى مما يحسها الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد . وكلما ارتقت معارف الإنسان وازدادت معرفته بطبيعة هذا الكون وأطواره , كبرت هذه الحقيقة في نفسه ; وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم , والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم ; وإعداد هذه الأرض لتلقي الحياة الإنسانية وحضانتها ; وإعداد هذا الإنسان للملاءمة مع البيئة والتفاهم معها .
وجعل الأرض مهادا للحياة - وللحياة الإنسانية بوجه خاص - شاهد لا يمارى في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر . فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها . أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض . . الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهادا ; ولا يبقي هذه الحقيقة التي يشير إليها القرآن هذه الإشارة المجملة , ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه . .
وجعل الجبال أوتادا . . يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد , فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها . أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن , وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها . . وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال . . وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية , وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية . . وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد . . وكم من قوانين وحقائق مجهولة أشار إليها القرآن الكريم . ثم عرف البشر طرفا منها بعد مئات السنين !
واللمسة الثانية في ذوات النفوس , في نواحي وحقائق شتى:
(وخلقناكم أزواجا). .
وهي ظاهرة كذلك ملحوظة يدركها كل إنسان بيسر وبساطة . . فقد خلق الله الإنسان ذكرا وأنثى , وجعل حياة هذا الجنس وامتداده قائمة على اختلاف الزوجين والتقائهما . وكل إنسان يدرك هذه الظاهرة , ويحس ما وراءها من راحة ولذة ومتاع وتجدد بدون حاجة إلى علم غزير . ومن ثم يخاطب بها القرآن الإنسان في أية بيئة فيدركها ويتأثر بها حين يتوجه تأمله إليها , ويحس ما فيها من قصد ومن تنسيق وتدبير .
ووراء هذا الشعور المبهم بقيمة هذه الحقيقة وعمقها , تأملات أخرى حين يرتقي الإنسان في المعرفة وفي الشعور أيضا . . هنالك التأمل في القدرة المدبرة التي تجعل من نطفة ذكرا , وتجعل من نطفة أنثى , بدون مميز ظاهر في هذه النطفة أو تلك , يجعل هذه تسلك طريقها لتكون ذكرا , وهذه تسلك طريقها لتكون أنثى . . اللهم إلا إرادة القدرة الخالقة وتدبيرها الخفي , وتوجيهها اللطيف , وإيداعها الخصائص التي تريدها هي لهذه النطفة وتلك , لتخلق منهما زوجين تنمو بهما الحياة وترقى !
(وجعلنا نومكم سباتا . وجعلنا الليل لباسا . وجعلنا النهار معاشا). .
وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتا يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط ; ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة , تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة . .
وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها , ولا نصيب لإرادته فيها ; ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه . فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم . وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها ! وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الحي وأودعه ذلك السر ; وجعل حياته متوقفة عليه . فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة . فإذا أجبر إجبارا بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظا فإنه يهلك قطعا .
وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب . . إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف , هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته - طائعا أو غير طائع - ويستسلم لفترة من السلام الآمن , والسلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب . ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان , والروح مثقل , والأعصاب مكدودة , والنفس منزعجة , والقلب مروع . وكأنما هذا النعاس - وأحيانا لا يزيد على لحظات - انقلاب تام في كيان هذا الفرد . وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته , وكأنما هو كائن حين يصحو جديد . .
ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أحد , وامتن الله عليهم بها . وهو يقول: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه). . (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم). . كما وقعت للكثيرين في حالات مشابهة !
فهذا السبات:أي الإنقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي ; وسر من أسرار القدرة الخالقة ; ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه . وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته , وإلى اليد التي أودعتها كيانه , ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر .
وكان من تدبير الله كذلك أن جعل حركة الكون موافقة لحركة الأحياء . وكما أودع الإنسان سر النوم والسبات , بعد العمل والنشاط , فكذلك أودع الكون ظاهرة الليل ليكون لباسا ساترا يتم فيه السبات والانزواء . وظاهرة النهار ليكون معاشا تتم فيه الحركة والنشاط . . بهذا توافق خلق الله وتناسق . وكان هذا العالم بيئة مناسبة للأحياء . تلبي ما ركب فيهم من خصائص . وكان الأحياء مزودين بالتركيب المتفق في حركته وحاجاته مع ما هو مودع في الكون من خصائص وموافقات . وخرج هذا وهذا من يد القدرة المبدعة المدبرة متسقا أدق اتساق !
واللمسة الثالثة في خلق السماء متناسقة مع الأرض والأحياء:
(وبنينا فوقكم سبعا شدادا . وجعلنا سراجا وهاجا . وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا . لنخرج به حبا ونباتا , وجنات ألفافا). .
والسبع الشداد التي بناها الله فوق أهل الأرض هي السماوات السبع , وهي الطرائق السبع في موضع آخر . . والمقصود بها على وجه التحديد يعلمه الله . . فقد تكون سبع مجموعات من المجرات - وهي مجموعات من النجوم قد تبلغ الواحدة منها مائة مليون نجم - وتكون السبع المجرات هذه هي التي لها علاقة بأرضنا أو بمجموعتنا الشمسية . . وقد تكون غير هذه وتلك مما يعلمه الله من تركيب هذا الكون , الذي لا يعلم الإنسان عنه إلا القليل .
إنما تشير هذه الآية إلى أن هذه السبع الشداد متينة التكوين , قوية البناء , مشدودة بقوة تمنعها من التفكك والانثناء . وهو ما نراه ونعلمه من طبيعة الأفلاك والأجرام فيما نطلق عليه لفظ السماء فيدركه كل إنسان . . كما تشير إلى أن بناء هذه السبع الشداد متناسق مع عالم الأرض والإنسان ومن ثم يذكر في معرض تدبير الله وتقديره لحياة الأرض والإنسان .
يدل على هذا ما بعده:
(وجعلنا سراجا وهاجا). . وهو الشمس المضيئة الباعثة للحرارة التي تعيش عليها الأرض وما فيها من الأحياء . والتي تؤثر كذلك في تكوين السحائب بتبخير المياه من المحيط الواسع في الأرض ورفعها إلى طبقات الجو العليا وهي المعصرات:(وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا). . حين تعصر فتخر ويتساقط ما فيها من الماء . ومن يعصرها ? قد تكون هي الرياح . وقد يكون هو التفريغ الكهربائي في طبقات الجو . ومن وراء هذه وتلك يد القدرة التي تودع الكون هذه المؤثرات ! وفي السراج توقد وحرارة وضوء . . وهو ما يتوافر في الشمس . فاختيار كلمة(سراج)دقيق كل الدقة ومختار . .
ومن السراج الوهاج وما يكسبه من أشعة فيها ضوء وحرارة , ومن المعصرات وما يعتصر منها من ماء ثجاج , ينصب دفعة بعد دفعة كلما وقع التفريغ الكهربائي مرة بعد مرة , وهو الثجاج , من هذا الماء مع هذا الإشعاع يخرج الحب والنبات الذي يؤكل هو ذاته , والجنات الألفاف الكثيفة الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان .
وهذا التناسق في تصميم الكون , لا يكون إلا ووراءه يد تنسقه , وحكمة تقدره , وإرادة تدبره . يدرك هذا بقلبه وحسه كل إنسان حين توجه مشاعره هذا التوجيه , فإذا ارتقى في العلم والمعرفة تكشفت له من هذا التناسق آفاق ودرجات تذهل العقول وتحير الألباب . وتجعل القول بأن هذا كله مجرد مصادفة قولا تافها لا يستحق المناقشة . كما تجعل التهرب من مواجهة حقيقة القصد والتدبير في هذا الكون , مجرد تعنت لا يستحق الاحترام !
إن لهذا الكون خالقا , وإن وراء هذا الكون تدبيرا وتقديرا وتنسيقا . وتوالي هذه الحقائق والمشاهد في هذا النص القرآني على هذا النحو:من جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا . وخلق الناس أزواجا . وجعل نومهم سباتا [ بعد الحركة والوعي والنشاط ] مع جعل الليل لباسا للستر والانزواء , وجعل النهار معاشا للوعي والنشاط . ثم بناء السبع الشداد . وجعل السراج الوهاج . وإنزال الماء الثجاج من المعصرات . لإنبات الحب والنبات والجنات . .
توالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النحو يوحي بالتناسق الدقيق , ويشي بالتدبير والتقدير , ويشعر بالخالق الحكيم القدير . ويلمس القلب لمسات موقظة موحية بما وراء هذه الحياة من قصد وغاية . . ومن هنا يلتقي السياق بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون !
الدرس الثالث:17 - 20 من مشاهد يوم القيامة نفخ الصور()
ولقد كان ذلك كله للعمل والمتاع . ووراء هذا كله حساب وجزاء . ويوم الفصل هو الموعد الموقوت للفصل:
(إن يوم الفصل كان ميقاتا . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا). .
إن الناس لم يخلقوا عبثا , ولن يتركوا سدى . والذي قدر حياتهم ذلك التقدير الذي يشي به المقطع الماضي في السياق , ونسق حياتهم مع الكون الذي يعيشون فيه ذلك التنسيق , لا يمكن أن يدعهم يعيشون سدى ويموتون هملا ! ويصلحون في الأرض أو يفسدون ثم يذهبون في التراب ضياعا ! ويهتدون في الحياة أو يضلون ثم يلقون مصيرا واحدا . ويعدلون في الأرض أو يظلمون ثم يذهب العدل والظلم جميعا !
إن هنالك يوما للحكم والفرقان والفصل في كل ما كان . وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود:
(إن يوم الفصل كان ميقاتا). .
وهو يوم ينقلب فيه نظام هذا الكون وينفرط فيه عقد هذا النظام .
(يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا , وسيرت الجبال فكانت سرابا).
والصور:البوق . ونحن لا ندري عنه إلا اسمه . ولا نعلم إلا أنه سينفخ فيه . وليس لنا أن نشغل أنفسنا بكيفية ذلك . فهي لا تزيدنا إيمانا ولا تأثرا بالحادث . وقد صان الله طاقتنا عن أن تتبدد في البحث وراء هذا الغيب المكنون , وأعطانا منه القدر الذي ينفعنا فلا نزيد ! إنما نحن نتصور النفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجا . .
نتصور هذا المشهد والخلائق التي توارت شخوصها جيلا بعد جيل , وأخلت وجه الأرض لمن يأتي بعدها كي لا يضيق بهم وجه الأرض المحدود . . نتصور مشهد هذه الخلائق جميعا . . أفواجا . . مبعوثين قائمين آتين من كل فج إلى حيث يحشرون . ونتصور الأجداث المبعثرة وهذه الخلائق منها قائمة . ونتصور الجموع الحاشدة لا يعرف أولها آخرها , ونتصور هذا الهول الذي تثيره تلك الحشود التي لم تتجمع قط في وقت واحد وفي ساعة واحدة إلا في هذا اليوم . . أين ? لا ندري . . ففي هذا الكون الذي نعرفه أحداث وأهوال جسام:
(وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا). .
السماء المبنية المتينة . . فتحت فكانت أبوابا . . فهي منشقة . منفرجة . كما جاء في مواضع وسور أخرى . على هيئة لا عهد لنا بها . والجبال الرواسي الأوتاد سيرت فكانت سرابا . فهي مدكوكة مبسوسة مثارة في الهواء هباء , يحركه الهواء - كما جاء في مواضع وسور أخرى . ومن ثم فلا وجود لها كالسراب الذي ليس له حقيقة . أو إنها تنعكس إليها الأشعة وهي هباء فتبدو كالسراب !
إنه الهول البادي في انقلاب الكون المنظور , كالهول البادي في الحشر بعد النفخ في الصور . وهذا هو يوم الفصل المقدر بحكمة وتدبير . .
الدرس الرابع:21 - 30 لقطات من عذاب الكفار في النار
ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر , فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة . بادئا بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم:
(إن جهنم كانت مرصادا , للطاغين مآبا , لابثين فيها أحقابا . لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا , إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا , وكذبوا بآياتنا كذابا . وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا). .
إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصادا للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم , مهيأة لاستقبالهم . وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل ! وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقابا بعد أحقاب:
(لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا). . ثم يستثني . . فإذا الاستثناء أمر وأدهى:(إلا حميما وغساقا). . إلا الماء الساخن يشوي الحلوق والبطون . فهذا هو البرد ! وإلا الغساق الذي يغسق من أجساد المحروقين ويسيل . فهذا هو الشراب !
(جزاء وفاقا). . يوافق ما أسلفوا وما قدموا . .(إنهم كانوا لا يرجون حسابا). . ولا يتوقعون مآبا . .(وكذبوا بآياتنا كذابا). . وجرس اللفظ فيه شدة توحي بشدة التكذيب وشدة الإصرار عليه .
بينما كان الله يحصي عليهم كل شيء إحصاء دقيقا لا يفلت منه حرف:(وكل شيء أحصيناه كتابا). . هنا يجيء التأنيب الميئس من كل رجاء في تغيير أو تخفيف:(فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا). .
الدرس الخامس:31 - 36 لقطات من نعيم المتقين في الجنة
ثم يعرض المشهد المقابل:مشهد التقاة في النعيم . بعد مشهد الطغاة في الحميم:
(إن للمتقين مفازا . حدائق وأعنابا . وكواعب أترابا . وكأسا دهاقا . لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا . . جزاء من ربك عطاء حسابا). .
فإذا كانت جهنم هناك مرصدا ومآبا للطاغين , لا يفلتون منها ولا يتجاوزونها , فإن المتقين ينتهون إلى مفازة ومنجاة , تتمثل(حدائق وأعنابا)ويخص الأعناب بالذكر والتعيين لأنها مما يعرفه المخاطبون . .(وكواعب)وهن الفتيات الناهدات اللواتي استدارت ثديهن(أترابا)متوافيات السن والجمال .(وكأسا دهاقا)مترعة بالشراب .
وهي مناعم ظاهرها حسي , لتقريبها للتصور البشري . أما حقيقة مذاقها والمتاع بها فلا يدركها أهل الأرض وهم مقيدون بمدارك الأرض وتصوراتها . . وإلى جوارها حالة يتذوقها الضمير ويدركها الشعور:(لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا). . فهي حياة مصونة من اللغو والتكذيب الذي يصاحبه الجدل ; فالحقيقة مكشوفة لا مجال فيها لجدل ولا تكذيب ; كما أنه لا مجال للغو الذي لا خير فيه . . وهي حالة من الرفعة والمتعة تليق بدار الخلود . .
(جزاء من ربك عطاء حسابا). . ونلمح هنا ظاهرة الأناقة في التعبير والموسيقى في التقسيم بين(جزاء)و(عطاء). . كما نلمحها في الإيقاع المشدود في الفواصل كلها على وجه التقريب . . وهي الظاهرة الواضحة في الجزء كله إجمالا .
|