ازياء, فساتين سهرة


العودة   ازياء - فساتين سهرة و مكياج و طبخ > أقسام عامة > قصص و روايات > روايات طويلة
تسريحات 2013 ذيل الحصان موضة و ازياءازياء فكتوريا بيكهام 2013متاجر ازياء فلانتينو في باريسمكياج العين ماكياج دخاني makeup
روايات طويلة رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي يوجد هنا رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي روايات سعودية افضل روايات طويله long novels رويات بنات للجوال و روايات حب رومانسية TXT

فساتين العيد


 
قديم   #1

مصممة أزياء إسلامية

:: كاتبة قديرة ::

الملف الشخصي
رقم العضوية: 106921
تاريخ التسجيـل: Mar 2010
مجموع المشاركات: 4,473 
رصيد النقاط : 0

قلب جديد رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي


رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي

الجزء الأول
الدكتور/ عبدالوهاب آل مرعي


التي أحرقت نقابها




امرأة تُوقِفُ الزَّمَن وزمن يتوقف ساعة









ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ امرأة توقف الزمن ـ




الإهداء



إلى الصوت الرهيب الحَازِمْ...
الذي يُمثِّل الحقيقـــــة...
بكل مصداقيتهـــــــا....
ولا يعرف المـكر أو الكـــذب...
أبــــــــــــداً...


إلى المـــــــوت...
صديقنا المستقبلــــي...
والأبـــــــــــدي.

ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ


عبد الوهاب




الفصل الأول

1- بيت العجوز ضاحية



صوت صَرير الباب الخشبيِ... ينبعث مُتَقَطِّعاً مخيفاً.
والسقف الطِّيني يتساقط من بين أخشابه المتراصة ترابٌ ناعم... إيذاناً بأن ضيفاً جديداً فتح الباب.
الزائر اليوم هو ذاته الزائر بالأمس وهو الزائر المعتاد في كل يوم... ولكنه اليوم يبدو أكثر سعادة ربما لأن الكيس الذي في يده الآن أثقل بكثير من الكيس الذي يحضره معه كل يوم.
ذبابة طُفَيْليَّة وقعت على أنفه... وبدأت في محاولات متكررة دخول أحد منخريه... ولكنه يتجلد قدر المستطاع لإيصال الكيس الثقيل إلى تلك الغرفة المظلمة... والملقاة هناك في شيء من اللامبالاة !.
بعد لحظات من صدور صرير الباب انبعث صوت أكثر تقطعاً وفظاعة... صوت عميق... يصدر دائماً مع ولوج ذلك الزائر... لهذا المكان الرهيب... وتصغي لأصدائه الذابلة جميع المفردات الملقاة.
لم يكن الصوت الرهيب المتقطع سوى أنفاس العجوز ضاحية... ولم يكن سبب تقطعه إلا لأنه لم يتمكن من مغادرة حنجرتها إلا بعد أن أضناه الانتظار.
العجوز ضاحية... إنها أشبه بمئة عام اجتمعت في هيئة إنسان... وعند التدقيق في ملامحها يتأكد لمن يراها أن الحياة الدنيا قد نفضت يديها من هذا المخلوق... وعما قليل ستزفها الأيام المقبلة للحياة الآخرة.
صوت ضاحية المتقطع كان موجهاً لذلك الداخل:
- " أهلاً بك يا ابنتي... تفضلي وادخلي"
قال الداخل في شيء من الدهشة:
- " ابنتي؟... غريب!... ماذا بك يا أمي ضاحية؟... أنا حسان... ولست امرأة... هـ هـ هـ"
ردت العجوز وهي تبتسم في اعتذار:
- "أهلاً... أهلاً حسان... أوه...كم تكلف نفسك في الحضور إلى هنا؟"
- " أبداً يا أمي... لا تقولي هذا الكلام... أنا هنا في الخدمة... ثم... لقد أتيت بالغداء الساخن... ويجب أن يُرضيني أكلك... الصحة معناها الغذاء الجيد"
تحركت العجوز حركة بطيئة... مد حسان يده في اهتمام... وأمسك يدها... ووضع يده الأخرى خلف ظهرها... وساعدها حتى جلست... ثم ابتسم في صفاء... وتقدم قليلا ليعيد سحب ثوبها على قدميها.
هذه العجوز تمثل قصة مؤلمة من الحرمان... إنها فيما يبدو مصابة بما يشبه الشلل النصفي... عيناها الذابلتان يُداهم أطرافَهما العمى... بدرجة كبيرة... ولولا النظارة الكثيفة... المائلة في ثقل على طرف أنفها... لكان وجود العينين... تماماً كعدمهما.


2- وجبة بالملعقة

قَبّل حسانُ رأسَ ضاحيةٍ في حنان صادق... ومسح شيئاً تحت جفنها بمنديل أدخله تحت نظارتها... ثم قال مداعباً:
- " ما شاء الله... ما شاء الله... شابة أنت يا ضاحية... وغزالة أيضا... هيا هيا... تجهزي لتناول الطعام"
فتح حسان كيس الغداء... وأخرج صحن الرز... وأخرج كيسا آخر يحوي شيئا من إدام البامية... المغطى باللحم المفروم... أمسك بالملعقة الصغيرة... وبكل هدوء وإخلاص... أخذ شيئا من الرز... ووضع معه القليل من اللحم المفروم... وبدأ يفركه بظهر الملعقة من الأسفل... ثم جمعه على شكل كرة صغيرة... وحمله بالملعقة... ليقترب به من فمها.
وبيدها المرتعشة... حاولت العجوز... مساعدته في إيصال اللقمة لفمها... ولكنها كانت بذلك الفعل " تلخبط " كثيراً من موازناته لإيصال اللقمة... وكثيراً ما يمسك بيدها... وينزلها للأسفل.
استمر حسان في عمله... لقمة صغيرة... ويمتد الزمن... ثم لقمة أخرى... وفي أثناء ذلك كانت نظراته الحزينة تنتقل بهدوء في حركات فم العجوز البطيئة... وهي تحاول جاهدة مضغ الطعام... وما يلبث أن يقدم تشجعيها على التهام المزيد... والمزيد.
مر وقت صامت... وبعد انتهاء العجوز من الطعام قام حسان بترتيب المائدة الصغيرة... ثم إقصاءها إلى طرف السرير.
قال حسان:
-" يا أمي ضاحية"
-" نعم"
-" هل تريدين مني... أن... أغير لك ثيابك... وأنقل القيصرية؟"
-" ماذا تقول؟... لم أسمع"
-" أقول... هل تريدين الحمام... دورة المياه؟"
-" الله يعزك يا ولدي... ستأتي بعد قليل... جارتي الشابة... وسنقوم باللازم"
-" جارتك ؟؟ غريب!! ومن جارتك هذه ؟؟ ما أعرفه... أنه لا يجيء أي أحد إلى هنا"
-" نعم يا ولدي... لقد نسيت أن أخبرك... لم أعد أتذكر الكثير مما يحدث لي... على كل... منذ يومين فقط... زارتني امرأة طيبة... شابة... عمرها قرابة الخمس والعشرين سنة... الحقيقة أني لا أعرفها... أبداً... وهي أيضاً... تقول إنها لا تعرفني... جزاها الله كل خير... لقد بدأت تسألني عن حالتي الصحية... عرفت عني كل شيء... ثم وعدتني أن تقدم لي زيارة كل يوم... والله أنا خجلى منك يا حسان... ومنها أيضا... لكن... الله المستعان... أنا امرأة مبتلاة... وأنتم... لن يضيع أجركم".
-" يا " أمي ضاحية " أنا سأقوم بكل ما تحتاجين من الخدمة... وأيضا... سأغير لك القيصرية... اعتذري من تلك المرأة... لا نريد إحراجها... لا ندري عن ظروفها...لكل إنسان ظرفه... وأنا ظروفي مناسبة لخدمتك"
-" لا يا حسان... إنها مثلك يا بني... تماما... تريد الخير... ثم... هي امرأة مثلي ولن أجد حرجاً في أن تغير ملابسي"
- " وهل تتحرجين مني؟... اعتبريني تماماً مثل ابنك"
لم تتمالك العجوز ضاحية مشاعرها... لقد أخرجت دمعتين مؤلمتين... لتعبر بهما عن مدى قسوة أرذل العمر... الذي بدت تعايش دقائقه التعيسة... بكل ثقل... حتما... ليس لهذه القصة من نهاية... إلا الموت"
قال حسان:
-" تبكين!... وعلام البكاء؟"
-" أنت يا حسان جار طيب... كنت أتخيل نفسي... ماذا لو لم يقدر الله وجودك هنا... كيف ستكون حالتي؟"
-" لا عليك من هذا الآن... المهم... المهم أن تأكلي المزيد من الطعام... الذي أحضرته لك... لقد صنعته زوجتي ابتسام... خصيصاً من أجل صحتك"
مد حسان يده نحو الطعام... ليخرج العجوز من حالة الحزن التي باغتتها للتو... أعاده مرة أخرى إلى جوارها... في حين نظرت إليه بشرود... وقالت في حزن:
-" حفظك الله يا بني... اذهب إلى أولادك وزوجتك... أنا أعرف جيدا... هذا وقت راحتك... نعم... لتوك خرجت من العمل... ساعات طويلة قضيتها هناك... أنت في حاجة للقليل من الراحة... وأيضا... ربما لم تتناول غداءك حتى الآن... حفظك الله".
قال حسان في اهتمام:
-" هل أنت متأكدة من قدوم هذه المرأة ؟... إن لم يكن حضورها مؤكدا فاسمحي لي بتغيير القيصرية".
-" لا لا... شكراً يا حسان... أنا متأكدة من قدومها... إن شاء الله".
في تلك الأثناء... ابتسم حسان بشيء من الرضا... ثم ألقى نظرة مستعجلة على مفردات الحجرة المتواضعة... ليتأكد أن كل الأمور تسير بطريقة صحيحة... ثم قام.
كانت أفكار حسان كلها منصبة نحو هذه الجارة الجديدة... التي تقدم عروضها لمساعدة العجوز:
-" من تكون يا ترى؟"
وقف حسان قليلاً في منتصف الغرفة أدار رأسه بحيرة... كان يريد أن يسال العجوز عن معلومات أخرى عن هذه الجارة:
-" ولكن... حتما... العجوز لا تعرف عنها أكثر مما قالت"
قال في نفسه :
-" إنها بالتأكيد امرأة نادرة... بالطبع نادرة في هذا الزمان... ولكن... ما هي مصلحتها من خدمة هذه العجوز؟... وهل يا ترى ستستمر أم أنها ستستسلم قريباً؟"
حسان يسعده أن يجد من يعينه في حمل بعض أعباء العناية بهذه العجوز... ولكنه في الوقت ذاته يريد أن يكسب الأجر جميعاً من رعاية عجوز منقطعة... ليس لها ملاذ إلا الله... ولكن الله ذو فضل عظيم.
فكر حسان قليلاً... إن الله لن ينقص من أجره شيئاً... إذا ساعده في رعاية العجوز أي إنسان آخر.


3- البطانية... الأولى

قام حسان لينصرف... سار متجها نحو الباب... كان الفضول يدفعه للبحث من أجل معرفة المزيد عن تلك الجارة الطيبة:
-" من تكون يا ترى هذه الجارة؟... ما هي صفاتها؟... ومن هو والدها؟"
أسئلة كثيرة... قد يكون لجوابها معانٍ أخرى عند حسان.
آن لحسان أن يخرج... وآن له أن يترك العجوز الوحيدة... في رعاية الله... وقبل أن يخرج... تذكر الكيس الكبير... الذي أحضره معه... إن تفكيره في الجارة الطيبة... أنساه كل شيء من حوله.
عاد حسان وحمل الكيس... وفتحه بهدوء... وأخرج منه بطانية جديدة... من أجود أنواع البطانيات... لقد اشتراها اليوم... وهو عائد من عمله... كي يدفئ بها جسم العجوز الضامر... حمل حسان البطانية... واقترب من العجوز... وابتسم ابتسامة صادقة صامتة... لم يعلم بها أحد... ولكنها تحمل معاني كبيرة في أعماقه... وعندما بسط البطانية على جسم العجوز... قال:
-" هذه بطانية دافئة... يا خالة... ستقيك البرد... حتماً"
ردت العجوز وهي تدير رأسها بتثاقل نحوه:
-" لماذا يا حسان؟... أنت تكلف نفسك بهذه الطريقة "
-" هذا واجب... والواجب لا مفر منه"
-" بل أنت تريد الجنة... أبشر يا بني... أبشر... أنت نسيج وحدك... أنت ملاك في صورة إنسان... وجارتي أيضاً... هي كذلك.... إنها نسيجة وحدها... وهي ملاك في صورة إنسان"
مع سماع حسان لهذه الكلمات... أحس بإحساس غريب... يداعب مشاعره... أغمض عينيه في تأمل... في حين أكملت العجوز كلا مها:
-"كلما رأيتك يا حسان... أو رأيتها... أحس أنكما من تربة واحدة... ومن معدن واحد... الله... شيء عظيم يجمعكما... ويجذبكما لبعضكما... الله يا حسان... كم سأكون سعيدة... لو..."
قال حسان مقاطعا:
-" نعم نعم... أعرف... لو اجتمعنا في الجنة... جميعاً... يا خالة"
كانت العجوز مستعدة لتقول كلمة ما... ولكن حسان قاطعها... ليخفي خلجات في نفسه... قد تكون هي ذاتها... الخلجات التي تدور في ذهن تلك العجوز.
ابتسمت العجوز ابتسامة رضا... لا يدري حسان على أي شيء كان ذلك الرضا... ثم أتبعت العجوز ابتسامتها بزفرة طويلة... تشعر بخروج كل الهموم والآلام... من قلبٍ نابض بشيء من حياة... قام حسان... وأودع جبين العجوز قبلة حانية صادقة... واتجه للباب.


4- حسان... ينتظر شخصا ما

خطوات قصيرة متسارعة... وصل بعدها حسان إلى الباب الخشبي المفضي للخارج... ولكنه توقف قليلا... شيء ما جال في ذهنه حول الجارة الجديدة... أدار عينيه مجددا حوله... ثم... شيء ما يجعله يؤثر البقاء لوقت أطول... ربما كان بقاءه من أجل أن يشاهد شخصا ما... بالطبع!.
أراد حسان أن يقضي وقت الانتظار بالنظر في شيء ما... لم يكن في البيت برمته شيء يلفت النظر... سوي ذلك الباب الصغير... الموجود في جانب من جوانب غرفة ضاحية... فكر حسان قليلا... سيقضي قليلا من الوقت... هناك... عاد حسان نحو ضاحية بتوتر... وسألها وهو يحك رأسه:
- " يا خاله... هذا الباب... هذا الباب الصغير... إلى أين يفضى؟"
- " نعم... ماذا قلت؟"
وضع حسان يده على جبينه في خيبة... ثم أعاد السؤال:
- " ماذا يوجد هنا؟"
قالت وهي تحرك يدها:
-" أدخل... ادخل... وشاهد"
دخل حسان... ليس ثمة ما يدعو للتأمل... غرفة طينية متهالكة... سقفها من الخشب المهترئ... ويوجد في جدارها نافذة صغيرة مغلقة بلوح خشبي... اقترب حسان من النافذة... وضع يده على اللوح الخشبي... يبدو مهترئا تماما... بدفعة واحدة ربما يتحطم... أدار حسان رأسه في شرود... في منتصف الغرفة توجد دعامة خشبية... يبدو أنها تمسك السقف... كي لا يسقط... وضع حسان يده على الدعامة... حاول دَفْعَها بهدوء... بدت الدعامة تتحرك... شعر بشيء من الخوف... لو دفعت الدعامة بدرجة أقوى... لسقط السقف.
قرر حسان أن يخرج من تلك الغرفة المخيفة... يجب أن لا يدخلها أحد بعد اليوم... سار بسرعة... خرج من الغرفة... ثم واصل السير حتى وصل للباب الخارجي... مد يده ليفتحه... ولكنه سمع بصوتِ قادمٍ نحو الباب... من الخارج... لم يلبث صاحب الصوت القادم... أن أصبح مقابلاً للباب... وحينها... سمع حسان صوت الزفير والشهيق الذي يخرج من فم الزائر... يبدو أن المسافة التي قطعها الزائر على قدميه طويلة جدا.


5- البطانية... الثانية

طُرق الباب طرقات وادعة خافتة... فتح حسان على أثرها الباب... ولكن... كم كانت المفاجئة كبيرة... عندما عرف أن الزائر... هو في الحقيقة امرأة.
تواري حسان قليلاً للخلف... أما المرأة... فقد وضعت يدها على صدرها في ذعر... كادت تهرب... لمح حسان معها كيسا كبيرا ينوء بحمله رجل قوي... تجاهل حسان كل مشاعره... علم أنها لن تدخل وهو موجود هنا... لذا خرج... سار من أمام المرأة... ألقى السلام عليها...لم يسمع منها رداً للسلام... ولم ير من ملامحها شيئا... لشدة احتجابها عن الأنظار... بما ترتديه من ثياب محتشمة... ابتعد حسان عن المنزل وكأن شيئا لا يهمه.
وفي الوقت ذاته... دخلت المرأة... وسارت بهدوء حتى دخلت للحجرة التي تكتنف سرير العجوز... ألقت نظرة سريعة... ثم قالت:
-" باسم الله"
وتقدمت أكثر... وعندما وقفت عند رأس العجوز... قالت:
-" السلام عليكم"
نظرت لها العجوز بصفاء... ثم ردت:
-" عليكم السلام يا بنيتي... لقد جئت؟... كنت أعلم ذلك... جزاك الله كل خير"
-" كيف أنت يا أمي ضاحية ؟ "
-" بخير يا بنيتي "
-" ماذا أرى... هل تناولت غداءك؟ "
-" نعم... لقد أطعمني حسان "
عبثت مشاعر متضاربة بقلب الجارة الشابة... أرادت أن تخرج منها بسرعة... لذا قالت:
-" ما شاء الله... بطانية جديدة... ولكن... من أين لك هذه البطانية؟"
-" أوه يا ابنتي... لقد أحضرها حسان"
-" آه... خسارة... لقد أحضرت لك بطانية جديدة... إنها هنا... معي... ولكن... غريب... البطانية التي أحضرتها... تشبه هذه البطانية... تماما"
-" صحيح يا بنيتي!... سبحان الله... أرجو الله أن يجمع..."
لم تكمل العجوز كلماتها... لقد قاطعتها الفتاة قائلة:
- " نعم نعم... يجمعنا جميعاً في الجنة... ومعنا جميع المسلمين"
تنهدت العجوز... وأخرجت عيناها دمعتين معبرتين... تفيض بمعانٍ كثيرة... تعجز الكتب عن التعبير بمثلها... ثم ابتسمت... وابتسمت الجارة الطيبة... وقالت:
-" يا أمي ضاحية... قولي لي... لا شك أنك تريدين الحمّام"
-" يا ابنتي... جزاك الله خيراً... إيه... كم سيأجرك الله... على كل هذا!"


6- الطيبون... للطيبات



مر الوقت بهدوء... مضت نصف ساعة... خلالها قامت الجارة بأعمال كثيرة في منزل العجوز... إنها ترتب وتنظف... وتدور كالنحلة... وبعد أن أكملت عملها ذاك... وقفت عند رأس العجوز بانشغال... إنها تحمل جهاز الجوال الجديد... الذي أحضرته معها... أمالت رأسها نحو ضاحية وقالت:
-" أستأذنك الآن... يا أمي... ولكن... عندما تريدين مني أي شيء... ما عليك إلا أن تضعي إصبعك على هذا الرقم في الهاتف... ثم تضغطينه... لقد برمجته على رقم الجوال لدي... وستجديني عندك بكل سرعة... ومن اليوم إن شاء الله... سأكون عندك مرتين في اليوم... سأحضر هنا قبل العصر... وأيضا... بعد العشاء"
اقتربت الجارة أكثر من العجوز... ثم قالت وهي تبتسم:
-" لن تحتاجي القيصرية بعد اليوم... أنا أعرف... صحتك ممتازة... أنت فقط تتوهمين أنك مريضة... أليس كذلك؟... على كل... سأساعدك للقيام... والذهاب لدورة المياه... بنفسك"
كانت نظرات العجوز الذاهلة مسددة بدهشة إلى وجه تلك الجارة الملائكي... وهي تعرض كل هذه الخدمات... أحست أن رحمات السماء ستغشى الأرض قاطبة... كلما وجد فيها مثل هذه المرأة... كان حسان يقوم باللازم... من ناحية قضاء خصوصيات هذه العجوز... إنه يضع لها القيصرية... ويذهب قليلا... ثم يعود... ليقوم بتنظيفها... وهو يأتي إليها مرة كل يوم... حسان يطعمها خلال قدومه... ثم يضع طعام العشاء قريباً منها... بحيث لا تجد صعوبة في تناوله... ويرتب منزلها الذي ركد فيه كل شيء... ويعود إليها في اليوم التالي بعد خروجه من عمله... لقد أصبح حسان بالنسبة لتلك العجوز كل شيء... إنها تشعر أنه معجزة الحياة... التي قدرها الله لها... ولكن... هذه الجارة... لقد بدأت تفرض نفسها كمعجزة جديدة في حياة العجوز... بالفعل... الحياة لم تزل بخير.
قبل أن تنصرف الجارة... ألقت نظرة على وجه العجوز... ولكن العجوز ابتسمت وهي تقول:
- "" الطيبات للطيبين "... " الطيبون للطيبات""
بدأت ملامح القلق ترتسم مجددا على وجه الجارة الطيبة... ربما أدركت شيئا مما ترمي إليه ضاحية... ولكنها صمتت.


الفصل الثاني

1- ضاحية... قبل عشرين سنة

العجوز ضاحية بقيَّة باقية من الجيل الماضي... لقد آن وقت رحيلها لتلحق بجيلها الذي رحل عن بكرة أبيه... ربما!.
قصة حياتها غامضة... لا أحد يعرف عنها إلا القليل... ولكن يبدو أن السنوات العجاف التي عاشتها هذه العجوز كانت كفيلة برسم صور حقيرة للحياة... في تصوراتها.
منذ عشرين سنة دخلت ضاحية إلى هذا الحي... وكانت صورتها حين دخلت تحمل كل معاني الفظاعة... إنها بحق أشبه بعود محروق... دخلت إلى الحي وبدأت تسير بين البيوت بكل حذر وتوتر... أضناها المسير... ولكن ليس ثمة خيار... جلست بكل استسلام... عند باب أحد المنازل.
مر الوقت بطيئا عليها وهي تعد أوراق همومها... وعندما خرج رب المنزل للصلاة... أدهشة جلوسها عند باب منزله... سألها في حيرة عن قصتها... وعن مسلسل حياتها... طأطأت برأسها للأرض ولم تجب عن شيء من أسئلته... طلب منها الدخول لمقابلة زوجته... لكنها رفضت... سألها عمَّا تريد... قالت في خجل:
-" أنا أجيد صناعة التَّنُور... تنور الخبز... وأنا لا أسأل أحدا صَدَقَةً... هل تعرف أحداً يُريد مني صناعة تنورٍ بأجره؟ "
فكر الرجل قليلا... ثم قال في استغراب:
-" في الحقيقة... أيَّتها السيدة... ولكن... أنا في حاجةٍ إلى تنور... ولم لا!... قولي لي إذن... من يضمن لي صناعتك؟"
-" الأمر سهل جدا... لا تدفع الأجر...حتى تجرب التنور"


2- أول تنور

المرأة النشيطة... بدأت في جمع الطين الأحمر... وفي جمع الخشب... كي تحرق به الطين... وتنضجه... قبل أن تبنيه.
وداخل الفناء... في بيت ذلك الرجل... تجلس المرأة... وقد ثنت ركبتيها... إنها تعجن وتبني... عرقها يتفصد... وهي مصرة على النجاح... أسبوع كامل... قضته في عمل فني رائع... بعدها... أوقدت النار... في التنور...لقد نجحت المرأة... في صناعتها الجديدة... وأخذت أجرها بسعادة.
وكانت تلك اللحظة... هي خطوة البداية... في رحلتها الطويلة... على طريقها الجديد لكسب الرزق... بدأت المرأة في صناعة التنور... ومع مرور الوقت... اشتهرت صناعتها بدرجة جيدة... وبدأ زبائنها في الازدياد... وازداد كذلك دَخْلُها... مما جعلها تستأجر منزلاً طينيا صغيراً.
ومع مرور الأيام... وعلى مدار تسعة عشر عاما... كانت صانعة التنور... تعيش استقرارا كبيرا بين أهل الحي... إنها تعيش مستورة الحال... وجميع السكان يمنحونها التقدير والحب.


3- منذ عام

ضاحية... العجوز الوحيدة... صانعة التنور الماهرة... ومنذ عام واحد فقط... كانت على موعد مع النهاية المؤلمة... التي قلبت حياتها رأسا على عقب.
غربت شمس ذلك اليوم الكئيب... وهجعت العجوز لوحدتها... إلا أن شيئا آخر قاسمها تلك الوحدة... الصداع... الصداع الذي يسري بوميض خافت... وما يلبث أن يلتمع كالبرق... في جوانب رأسها.
مرت ساعات الليل ثقيلة قاتلة... وفي الصباح... أشرقت شمس الدنيا ببهجة وحيوية... حسان في منزله... لقد استيقظ نشيطا منذ ساعة... إنه كعادته... ينطلق لعمله قرابة الساعة السابعة والربع... خرج حسان من المنزل... وركب سيارته... بقي قليلا من الوقت ينتظر احتماء المحرك... ثم انطلق.
مر وقت قصير... والسارة تمر الآن بجوار منزل ضاحية... بدأ حسان يطالع يمنة ويسرة دون اهتمام... ولكن شيئا ما لفت نظره... لقد شاهد مصباح النيون فوق باب منزل ضاحية مشتعلاً... حدث نفسه:
-" ما هذا... أمر غريب... مصباح ضاحية يعمل أثناء النهار؟... مستحيل"
شعر حسان بالقلق يتسور عليه ذهنه:
-" هل أصاب العجوز أي مكروه... ليس من عادتها أن تترك المصباح يعمل إلى هذا الوقت"
أوقف حسان سيارته... ونزل باهتمام... ووقف بجوار الباب... وبدأ يطرقه... ولكن لا مجيب... دفع الباب بقوة... وعندما دخل... وجد العجوز هناك... بدأ يتحسس نبضها... إنها لا زالت داخل إطار الحياة الدنيا... لم ترحل بعد... ولكنها على وشك الرحيل... نظر إلى عينيها الواهنتين... ثم أمسك بيدها... وقال:
-" أنت بخير... لا تقلقي... هيا معي... سنذهب للمستشفى... هيا"
أغمضت العجوز عينيها باستسلام... ولكنها سرعان ما فتحتهما في توتر... ثم هزت رأسها يمينا وشمالا... في رفض شديد لاقتراح الذهاب للمستشفى... تفاجأ حسان لرفضها هذا... حاول رفعها وحملها... ولكنها تشبثث بطرف السرير... لم يشأ حسان أن يدخلها في دوامة جديدة من الصراع ... ولم يكن أمامه سوى حل وحيد... لقد خرج مسرعا.
لم يطل الوقت... هاهو حسان... إنه يدخل للمنزل ومعه الطبيب... بدأ الطبيب في إجراء الفحوصات الأولية للعجوز... أغمض عينيه... ثم هز رأسه في أسف بعدها قال في أسى:
-" الجلطة... هذه أعراض جلطة في الدماغ... يجب أن تذهب حالا للمستشفى"
عرفت ضاحية ما يدور في ذهن الطبيب... ولكنها رفضت الخروج من منزلها رفضا باتا... لم يكن أمام رفضها من حل... هز الطبيب رأسه وهو يقول:
-" لا حل... يجب أن لا نمارس تجاهها أي ضغط... من أجل صحتها... سنتابع حالتها هنا"
استمر الطبيب يتابع حالة ضاحية... داخل بيتها الطيني... بأجهزته البسيطة... مر أسبوع... وذات يوم... قال الطبيب لحسان:
-" شيء مدهش... حالتها الصحية مستقرة... إلى حد كبير... لحسن الحظ... كانت الجلطة خفيفة... بدرجة ساعدت على رفع مستوى صحتها... أو هو فضل الله ورحمته... نعم ... هو فضل الله... على كل... أنا أقدر حالتها... واختيارها البقاء في المنزل... ورفض المستشفى... هكذا كبار السن... يكرهون المستشفيات... نعم"
- " الجميع لا يحب المستشفيات يا دكتور"
ابتسم الطبيب وخرج.
مرت أسابيع... صحة ضاحية مستقرة... ولكن... بقى إصرارها على عدم الذهاب للمستشفى سراً يُحيِّر حسان... إنها تعيش حياتها المحزنة... وتجعل حسان يعيش تفاصيل تلك الحياة بكل جزئياتها.


4- ابن بار

حسان كُلَّما جلس أمام ضاحية تثور أسئلة الشك في ذهنه... ولكن سرعان ما يتجاهل تلك الشكوك... كي لا يؤثر شيء ما على مدى شفقته عليها... أحيانا يتساءل في حيرة:
-" ما سر مجيئها المفاجئ... منذ عشرين سنة... من أين جاءت؟... وأين كانت؟... ولماذا هي وحيدة هكذا؟... أشبه بالمقطوع من الشجرة... أين أهلها وأبناؤها؟... والأغرب من ذلك... سرها المدفون في صدرها... عن مسقط رأسها... ما هو بلدها وما أصلها؟... ثم... حفيظة النفوس... الخاصة بها... حفيظة النفوس لم تعطني إياها... عندما أخبرتها أني سأقدمها لدى الضمان الاجتماعي... لقد رفضت... غريب... وأخيراً... رفضها الذهاب إلى المستشفى بعد تدهور صحتها... ورفضها أيضاً الذهاب لدار الرعاية للمسنين... ماذا؟!... هل هي إنسان خطير؟... هل لها تاريخ بشع مخيف؟... وهل سيكون سرها هذا خَطِرٌ عليّ؟"
كلِّ هذه الأسئلة المُلِحَّة تثور في ذهن حسان... ولكن... سرعان ما يتجاهلها... لقد قرر السير في طريقه... حتى النهاية... إنه يقوم بشؤون العجوز... منذ عام تقريباً... ويحسن إليها كما يحسن الابن البار لوالديه... وأحيانا يجلس بجوارها ليتحدث لها عن قصص أو مواقف... كي يدخل شيئا من الأنس على خاطرها... وهي ترد بهدوء ... وتتحدث باقتضاب.
دهش حسان حين علم أنها لم تركب السيارة... منذ جاءت لهذا الحي... وأنَّها تطفئ قاطع الكهرباء في منزلها مباشرة بعد صلاة العشاء... ولم تفارق الحي منذ عشرين سنة... ولو لساعة واحدة... التلفاز لم تُدخله منزلَها... ولا تملك ثلاجة ولا غسالة... كل ما تعرفه غرفتها مصباح كهربائي يتيم... يضيء الجوانب الداكنة... وكلما تحدث حسان عن للحياة... أيام زمان... وما فيها من الصعاب... تخرج ضاحية من الحديث في الموضوع... مباشرة... بعكس جميع كبار السن... الذين يتلذذون بالحديث عن أيام زمان.
وذات يوم... كاد حسان يسألها:
- " هل ضاحية هو اسمك الحقيقي... أم أنه اسم مستعار؟"
ولكنه لم يفعل كي لا يوقعها في حرج.
هذه المرأة سر غامض مدفون... ولكن... هل يا ترى سيُقدَّر له أن يفشو... ويعرفه الناس... أم أنه سيموت بموت صاحبته.


5- خطورة ضاحية

الظلام يبثُّ رهبته في الخارج... ولكن الرهبة داخل جدران منزل ضاحية... تكاد تَقْتُل أي نبضةٍ من أُنس... ضاحية على حالها... ولا يُتوقع أبداً أن يتغير الحال إلى حال أفضل.
ومع صمت الظلام... في قلق وخفية... تحركت العجوز في سريرها... ثم جلست... دون مساعدة أي إنسان... مدت يدها بتثاقل... وأشعلت مفتاح المصباح اليتيم... المجاور لسريرها... ونظرت من حولها يمنة ويسرة... وبدا أنها تراقب شيئاً... نظراتها أشبه بنظرات سارق... وقلبها يرتجف... وكأن جريمة ما ستقع في منزلها المحروم.
حرَّكت ضاحية قدميها بهدوء... وضعتهما على الأرض... وبدأت تجاهد نفسها لتقف... إنها تبدو كإنسان آخر... يختلف عن ضاحية... التي يخدمها حسان... صحيح أنها ليست في كامل صحتها... ولكنها أفضل بكثير من الحال التي يراها عليه حسان... لم تقف ضاحية... ولكنها نزلت من السرير على الأرض... وبدأت تحبو بكل هدوء... وأحيانا تمد يدها... لتعتمد على الجدار... وعيناها لم تزل تسترقان النظر يمنة ويسرة.
وصلت إلى السرداب الصغير... بجوار غرفتها... دخلت مع الباب الصغير... الذي لا يجاوز ارتفاعه المتر.
الظلام دامس أشبه بظلام قبر... وأكثر شبهاً ببطن تمساح... بقيت ضاحية تتحسس قليلاً... لم يطل الوقت... لقد خرجت... كانت تحمل صندوقاً عتيقاً... مصنوعا من الحديد... ليس الصندوق كبيراً... ولكنَّ ما بداخله يبدو ثميناً.
حملت الصندوق بصعوبة وبدأت تحبو متجهة نحو سريرها... وبعد أن جلست استرقت النظر هنا وهناك... وبدأت تفتح الصندوق.
فُتح الصندوق... وبدت أوراق العملة النقدية القديمة... متكدِّسةً مُتراصّةً... وبدت أوراق أخرى... هامة جداً في طرف الصندوق... وبدت بعض القطع الذهبية.
سحبت ضاحية أرواقاً نقدية... ربما خمسمئة ريال... وأخذت الأوراق الهامة... فتحت بعضها... وطالعتها بألم... وأمسكت بالخاتم الفضي القديم... الموضوع في مخبأ صغير في الصندوق... رفعته... وبدأت تدقق النظر فيه... أخرجت دمعةً حارة وهي تقبله... ثم أعادته لمكانه الأمين... وأعادت الأوراق الهامة... وأبقت على تلك النقود معها.
أغلقت ضاحية الصندوق... وعادت لتحبو... متجهة نحو السرداب مرةً أخرى... ثم تغَّيبت بداخله دقائق... وعادت حتى جلست على السرير.
غموض هذا المخلوق يوحي بأن سراً نادراً وعتيقاً... يسكن طيات نفسه... ثم ما معنى النقود العتيقة المتكدسة؟... وما معنى الخمسمئة ريال؟.
مرَّت خمس دقائق... ضاحية تنتظر في قلق... وأخيراً... طُرق الباب... بدأت ضاحية تحبو من جديد... وصلت للباب... فتحته في قلق... بدا الوجه الشاحب... الذي تنتظره.
وبدا أن الوجوه الشاحبة... تضحك لبعضها... وتنسجم لما ينبعث من حزن على قسماتها... قالت ضاحية :
- " ادخل ... "
دخل الفتى... يبدو أنه في السابعة عشرة... ولكنَّ الفقر والبؤس... حَرماه من التمتع بالشباب... كما يتمتع به بقية البشر.
جلسا متقابلين... قالت له ضاحية:
- " ما هي آخر الأخبار ؟... "
أسرَّ الفتى لها بأخبار كثيرة... ناولته النقود... وابتسمت له... وانصرف... عادت ضاحية لوضعها السابق... ونامت في سريرها.




الفصل الثالث

1- نظرة فابتسامة... من طرف واحد

أراد حسان أن يتعرف بدرجة أكبر على تلك الجارة الطيبة... الطيبون في هذا الزمان قلة... وهم أقرب لواحد من ألف... ولكن كيف يتعرف عليها... وهي في الأصل ليست محرماً له؟... الفضول هو عدو الإنسان... في كثير من الأحيان... وهو الذي يورده كثيراً من الموارد... ولكن... ماذا في الأمر... لو عرف الكثير عنها؟... ألا يمكن أن تكون محتاجة لخدماته... ألا يمكن أن تكون وحيدة؟... ألا يُحتمل أن يكون لديها أي مشكلة؟... كل ذلك محتمل.
تحايل حسان على نفسه الطيبة جداً... ليصْنع مكراً ما... هو في الحقيقة نابع من نفسٍ أقل طيبة.
لقد احتال... ليكوِّن علاقة بسيطة مع تلك الجارة... وهو على كل حال... لا يطمح من تلك العلاقة إلا معرفة حقيقة الجارة... والأبعاد الحقيقية لحياتها.
لقد كان مكر حسان يتلخَّص في العمل التالي... لقد قرر أن يَحْضُرَ لزيارة العجوز... وتكون الزيارة في الوقت الذي تكون الجارة موجودة فيه... عند العجوز... ومن ثمَّ... يقابل حسان تلك الجارة الطيبة.
وبالفعل... نفَّذ حسان فكرته ذات يوم... وطَرَقَ الباب... كانت الجارة الطيبة بالداخل... وهو يعرف أنها بالداخل... إنها جالسة إلى جوار العجوز... تحدثها... وتسرد عليها أقاصيص دينية... أو دنيوية... وبمجرد سماع الجارة للطرق... لبست ملابسها... وقالت بصوت مرتفع:
- "من بالباب؟"
رد حسان في ثقة:
- " أنا حسان... أريد السلام على الأم ضاحية "
كان حسان يقول هذا الكلام وهو يتلذذ بشيء خفي في نفسه... لكن... أدهشه أن سمع من الجارة قولها وهي تخاطب نفسها:
- " إلى متى وهذا الوقح يطاردني؟... "
مرت لحظات... فتحت الجارة الباب... وعندما سلم حسان... لم ترد السلام... انصرفت والغضب الشديد يبدو على كل حركاتها... عند ذلك... أصيب حسان بأشنع خيبة أمل في حياته... لقد أدرك أن هذه المرأة ليست امرأة طبيعية... على أية حال.
- " أعوذ بالله من هذه المرأة العدوانية... ما هذه التصرفات؟... ثم... ماذا جنيت لها؟... ومتى طاردتها؟"
بدأ حسان يشك في نفسه... وطوى خجلاً بالغاً في جوانحه... وأقبل مسلماً على العجوز.
2- الطيبون... لمن؟

العجوز ضاحية... تبدو وكأنها لم تَدْرِ شيئاً عما حصل... إنها تسير بإرادة الله... على أكف هؤلاء الطيبين... لها أملها البريء في أن تجمع حسان وجارتها هذه... بين جدران سقف واحد... تريد أن تسعى في تزويجها منه... أو تزويجه منها... لا فرق... هي تنظر للحياة بكل هذه البساطة... واقتناعها بأن الطيبين دائماً للطيبات... جعلها تجعل من الجارة الطيبة... زوجة تلقائية لحسان... ولكن... يبدو أن الأمور ستتمخض عن شيء جديد... يُطيح الجدران والسقف... التي أرادت العجوز أن تُسكن الطيبين والطيبات بينها... على رؤوسهم... ومن يدري؟.
هذه الجارة تحمل شيئاً كبيراً في نفسها... يبدو وكأنه كره عميق لحسان... فهل يا ترى سيكون لهذه الجارة... سرٌ آخر؟.
أما حسان فإنه يحمل إعجاباً بتفاني هذه الجارة... وحبها للخير... لقد رقص قلبه طرباً عند سماع التلميحات التي نثرتها العجوز على عواطفه المتدفقة بحب الطيبين... ولكن... يبدو الأمر مختلفاً تماماً... بالنسبة للجارة... فهي دائماً تضيق بتلك التلميحات... وهي إن مثَّلت دور الحمل الوديع... مع العجوز... إلا أنها تمثل دور اللبؤة المتوحشة... مع حسان.
هكذا بدت الأمور لحسان... وهكذا بدأ الصراع الجديد... مع نفسه ومع جارته غريبة الأطوار.
أصبح هناك سِرَّان تحترق أوراقهما في قلب حسان... سران لم يعثر على جواب لهما... سر المرأة العجوز... وحياتها الغامضة... والآن... سر المرأة الشابة... وتصرفاتها الغامضة... من هي يا ترى؟... ومن تكون؟.


الفصل الرابع

1- حي الوصائل الراكد

حي الوصائل... حي وادع جميل... وكل معطياته تسير بكل هُدوء واستقرار... أُناسُه طيبون... ونساؤه طيبات... وهو ذاته... الحي الذي يسكن فيه حسان والجارة والعجوز.
هذا الحي يقع على مرتفعات السروات... وفي منطقة ما... المرتفعات الشامخة غالباً يتَّسم سكانها بالأنفة والشموخ... وكثيراً ما ينظرون للطقوس الاجتماعية نظرة إجلال وإكبار... يستخدمونها لتحقيق ذواتهم... يسعى الآباء جاهدين لغرسها في أنفس أبنائهم... بنفس الاهتمام الذي غرسها به آباؤهم من قبل في أنفسهم.
الجو هناك يميل للبرودة... مع أنه لم يصل إلى درجتها القصوى... والأمطار تنزل هنا وهناك... تارة بغزارة... وتارة أخرى بتقتير.
الترابط في هذه البيئة بين أفراد المجتمع قد يصل إلى حد التمازج... سكان القرى في الهِجَرِ... وسكان الأحياء في المدن... يتقابلون كل أسبوع تقريباً... والجو المتقلب يبث الطمأنينة في أوقات هدوئه واعتداله... وينشر الرعب في كل موطئ قَدَمٍ... عندما يُكشِّر البرد القارص عن أنيابه الباردة.
حيُّ الوصائل يسكنه في الغالب أصحاب الدخل المحدود... أولئك الذين لا يكاد ينتهي الشهر إلا وقد انتهت معه رواتب أرباب الأسر... وقد يضطرون للاستدانة... حتى تنفك عنهم تلك الضوائق المحكمة... غالب سكان الحي من الموظفين في القطاع الحكومي... وفي الغالب... لا تكاد تجد سيارة جديدة ولا فارهة تقف أمام باب أي منهم.
المنازل في هذا الحي أُعِدَّت للإيجار... ويملكها أناس يسكنون في أحياء أكثر رقياً... ويتقاضون كل ستة أشهر أحد قسطي الإيجار... الذي يتراوح في الغالب بين خمسة وسبعة آلاف... وكل عمارة تتكون غالباً من دورين... وكل دور يحوي شقتين... وكل شقة تحوي أربع غرف ودَوْرَتي مياه ومطبخ... وهكذا دواليك.
الغريب في الأمر... أن السعادة مرتسمة دائماً على وجوه أولئك النفر...من سكان الحي... ولا تفارقهم إلا في حالة نزول نكبات ما... من مرض أو موت.
والرجال يجتمعون كل فريضة في المَسجد... ويجتمعون كل يوم أحد... في منزل أحدهم.
أما اجتماع النسوة فهو كل يوم تقريباً... وقد يكون في الصباح وقد يكون في السماء... وقد يكون في الصباح والمساء أيضاً... وتدار القهوة والشاي والكيكات... والألسن أيضاً... وغالباً ما يكون الحديث عن فلانة وعلانة... ومدح في الحاضرات وقدح في الغائبات... وانتقاد من الزوجات لأزواجهن... أو لأزواج غيرهن... وقد تذكر إحداهن أدلة قاطعة تدعم بها دعواها بأنها المسيطرة الأولى والأخيرة على زوجها... وأنه عندها أشبه بابن الكنغر... الذي تضعه أمه في جيب بطنها.
2- أسرة رائعة

عندما تحضر ابتسام... إلى مجالس نساء الحي... وهي نادراً ما تحضر... تنقلب تلك المجالس رأساً لعقب... ويحل الهدوء والسكينة... وتنقطع الغيبة والنميمة... وتُذكر محاسن الغائبات ومحاسن الأزواج... وتتفاخر النسوة بطاعتهن لأزواجهن.
ابتسام فتاة مؤدبة ومتدينة... وتحمل لواء الإصلاح دائماً... وهي ذات شخصية محبوبة للغاية... وتجيد إدارة المجالس بالطريقة التي تريد... لديها أسلوبها الساحر في الحديث... ولها ثقافتها الإسلامية الناضجة.
إنها جميلة ومهذبة... وهي متزوجة ولها طفلان... وزوجها اسمه حسان... وهو ذاته حسان الذي يقوم برعاية العجوز ضاحية.
ابتسام وحسان يسكنان في إحدى الشقق... في حي الوصائل... لكن السعادة التي تغمر تلك الشقة المتواضعة... تتعالى على السعادة التي تَحل مع أصحاب القصور في قصورهم.
حسان رجلٌ من طرازٍ خاص... نسيج فريد في هذا الزمن... ولو تمنت أم أن يجتمع في ابنها كل صفات الخير... لما كان ذلك الابن إلا حسان... ولو تمنت زوجة... أن يجتمع في زوجها كل صفات الخير... لما كان ذلك الزوج إلا حسان... إنه رجل محبوب على كل مستويات صداقاته.
أما عمله... فهو يعمل لدى مديريَّة الصحة بمُسَمَّى وظيفة مراقب صحي... وراتبه الذي يتقاضاه من تلك الوظيفة... متدنٍ جدّاً... إذا ما قيس بمطالب الحياة التي تُطلب من رب أي أسرة تعيش في مجتمع نفطي... مُترع بالترف إلى حد التخمة.
ليس حسان ممن يحرصون على جمع الأموال... أو كنـزها في البنوك... وليس ممن يضرب لحياة المستقبل ألف حساب... وإنما هو بسيط غاية البساطة... يريد أن يعيش في منزله المستأجر حياة الكفاف... ولا يريد أن ينقص على أهل بيته شيئاً يعتبر من أساسيات الحياة... ولكنه أيضاً لا يريد أن يُحمّل نفسه أيَّما مبلغ مستدان... لذا رتب حسان مصروفاته الأهم فالأهم... على حسب راتبه.
كل سكان الحي يحبون حسان من سويداء قلوبهم... لسبب بسيط... لا يعرفه الجيران بشكل دقيق... ولكن حسان يعرفه جيداً... إنه لا يقابل أحداً يعرفه... أو لا يعرفه... إلا وترتسم على وجهه الصبَّوح... ابتسامة مشرقة... ويردف تلك الابتسامة... بالسلام على من عرف ومن لم يعرف.
الكثير من شباب الحي يحبون أن يقتدوا به في أفعاله وتصرفاته... والقليل يأخذون معه جانب الصمت... ولا أحد أبداً يلمزه أو يسخر منه.


3- الشِّقَّةُ المُتَواضِعةُ

دق الجرس... وأسرعت ابتسام لفتح الباب... كانت تنتظر زوجها حسان على أحر من الجمر... وكانت تحمل في يمينها كوباً من عصير الليمون المبرَّد... وفي يسارها كوباً من الماء.
دَلَفَ حسان مبتسماً عبر الباب... وبمجرد رؤيته الابتسامة الفاتنة... التي ارتسمت على وجه ابتسام... انزاحت عن كاهله جميع هموم الحياة... وفي أثناء ذلك... أقبل وليد... الابن الأكبر في الأسرة... وهو يمسك بيد أخته ولاء... وقال في شيء من الدلال:
- " بابا... هل أحضرت لنا شيئاً من السوق "
أسرع حسان إلى طفليه في شوق عارم... وبدأ يقبلها بحرارة بالغة.
الحياة في تلك الشقة المتواضعة... تتربع على هامة السعادة... والطمأنينة تسكن جميع أنحاء المنزل.
وابتسام تحب زوجها أشد ما يكون الحب... وتضحِّي بكل غالي من أجله... وأجمل ما في الأمر... أنها امرأة تخاف الله... وتحافظ على الصلاة.


4- مركز الميزان

يبعد منزل حسان... سابق الذكر... عن المسجد المتربع في مركز الحي... قرابة الثلاثمئة متر شرقاً... وعلى بعد ثلاثمئة متر من جهة الغرب... تجثم عمارة أنيقة من الطراز الحديث... ذات أدوار ثلاثة... ويحيط بها سور ضخم... ويتسارع إلى ذهن الناظر إليها... الجزم بأنها مِلْك لإحدى الأسر الغنية... لكن الناظر عندما يدقق النظر أكثر وأكثر... يستقر في وجدانه أنها عمارة تسري في جنباتها علامات الموت... السبب في ذلك... أنه لا يوجد فيها أي حركة أو صوت... ولا يوجد جوارها أي سيارات... وفي الليل... لا ينبعث إلا ضوء باهت من إحدى غرف الطابق الثالث... وبحلول الساعة العاشرة... يُطفأ ذلك الضوء... وفي الصباح الباكر من كل يوم... يحضر الباص الخاص بنقل المعلمات... لتدلف مع بوابته... معلمة تبدو بائسة محرومة.
حقاً... إنها معادلة صعبة... بل ربما كانت مستحيلة الحل... وميزان اضطربت كفتية... فلو اعتبرنا هذه العمارة... هي إحدى كفتى الميزان... وشقة حسان الصغيرة... هي كفة الميزان الأخرى... والمسجد هو مركز الميزان... لأدركنا على الفور... أن السعادة ليست أبداً في حطام الدنيا.
تلك العمارة تحكي ببلاغة... حال المتخمين... الذين امتلأت أجسامهم بالأمراض العصرية... التي لا تصيب الفقراء أبداً.
ولكن... ما قصة تلك العمارة؟... ومن هي تلك المعلمة البائسة؟... وما هي قصتها كاملة؟


5- ساكنة العمارة

جواهر... هو اسمها... ومِهنتها معلمة لمادة الفيزياء... وعمرها سبعة وعشرون عاماً... هذه هي البطاقة الشخصية لساكنة تلك العمارة الكبيرة... الأهم من ذلك... هو أن أباها توفي وترك ثروةً طائلة... اقتسمت جواهر تلك الثروة مع أخيها الوحيد... وكانت حصتها قرابة الثلاثة ملايين ريال... إضافة إلى هذه العمارة.
والدتها توفيت وهي لا تزال طفلة... وخالتها -زوجة أبيها- وأم أخيها... أيضاً توفيت بعد وفاة والدتها... بزمن... وجواهر لا تذكر شيئاً من تلك الأحداث... الشيء الوحيد الذي تذكره... هو أن والدها كان يحبِّها حباً كبيراً .
في الواقع... لم يكن والد جواهر رجلاً ثرياً بداية الأمر... لقد كان من أفراد الطبقة العادية جداً في المجتمع... وبقُدْرَة قادر... كانت مزرعته المتواضعة... هي القفزة التي أحالته من رجل ذي دخل محدود... إلى صاحب ملايين.
ذلك أن طريق الإسفلت الذي يشق المدينة... لم يكن له بد من أن يفرش بساطه الأسود... على تلك المزرعة... ولم يكن لوزارة المواصلات... أن تأخذ " مزارع خلق الله وأرضهم "... دون أن تعوضهم... وقد كان نصيب تلك المزرعة التي يملكها والد جواهر... أضعافاً مضاعفة لقيمتها الحقيقية... وعندما تسلم والد جواهر... ما يقارب الأربعة ملايين ريال... وكانت هذه النقلة كبيرة جداً في حياة الأسرة... إلا أن الأب لم يغير كثيراً من أنماط حياته البسيطة... التي استمر عليها طيلة صِباه وطيلة شبابه... لقد مر الوقت هادئا... واشترى والد جواهر أرضاً على شارع تجاري... ثم قام بإعمارها... ثم بنى عمارة في مدينة أخرى... بهدف الاستثمار أولاً... وبِهَدفِ اصطيافه هو وعائلته فيها ثانياً... وكانت تلك المدينة ذات جو بديع... في وقت الصيف... وهي بتحديدٍ أدق... في أعالي جبال السروات... وفي حي يدعى حي الوصائل.




الفصل الخامس

1- زواج... منذ عشر سنوات

جواهر... ذات السبعة عشر خريفا... لتوها تخرجت من الثانوية العامة... تقدم شاب للزواج منها... كان ذلك الشاب قريباً لوالدها... فهو ابن بنت خالته.
استطاع الشاب أن يبدو في صورة الرجل المناسب... عند تقدمه للخطبة... بدت عليه صفات الشهامة والإخلاص والصدق... وحتى التدين... وأوهمهم أنه لم يتقدم إلا حباً لهذه الأسرة... ورغبة في الزواج من بنتٍ ذات أدب ودين وخلق.
لم يكن لدى جواهر القدرة أو الاستطاعة على معرفة هذا الرجل عن كثب... أما أبوها فقد وثق في الشاب ثقة كبيرة... واستطاع إقناع ابنته بهذا الزواج.


2- الزوج... الذئب

وبعد أن تم الزواج... وفي حدث مفاجئ... خَلَع الشاب ثوب الضأن... ولبس ثوب الذئب... وظهر بشعاً بصورة مذهلة... لا يمكن أبداً تحملها... لقد اتضح كل شيء... الشاب لم يتقدم للزواج إلا طلباً في الثروة... التي ستستقر في يد جواهر وأخيها... في يوم ما.
استمر الزواج لمدة عام كامل... كان ذلك العام هو أقسى عام عاشته الفتاة ... ولعل كل نعمة عاشتها من قبل... قد حوَّلها ذلك العام... إلى شيء أقرب للفحم الأسود... إهانة وظلم وتجاهل لأعباء الحياة.
هدف واضح كان يهدف له زوجها... إنها الكراهية...إنه يستخدم كل طريقة كي يجعلها تكرهه... وذلك لسبب وجيه... بالنسبة لأطماعه... أنه يريد منها أن تطلب الطلاق... كي يتسنى له طلب ما يشاء من مال أبيها... الذي تأكد له أنه لن يموت قريباً... وانتظار موته الذي قد يكون بعد عشرات السنين... إضاعة للعمر فيما لا طائل من ورائه... هكذا سوَّلت له نفسه الرخيصة... وهكذا فكر له عقله الإجرامي.
جواهر صابرة على حالتها هذه... طال الصبر وامتد... وبعد أن بلغ صبرها مداه... قررت أن تشكو حالها لأبيها.
ذهبت لوالدها... وبدأت تصف أصناف العناء... لكن الوالد المجرِّب... طلب منها أن تصبر... كان يأمرها بالتضحية من أجل بقاء هذه الأسرة الوليدة... قال لها:
- " لعلك الآن حامل... يا جواهر... هذا نصيبك... اصبري"
هنا توقفت جواهر مع نفسها بخوف وقلق... لقد خشيت من مَغَّبة حملها لو قُدّر لها أن تحمل من هذا الذئب... وعندما كشفت لدى مستشفى خاص... قال لها الطبيب:
- " اسمعي يا أختي... أنت لست حاملاً... ولكن... سأكون صريحا معك... يبدو أن عيبا خلْقيا لديك... لا يجعلك تحملين... هل تريدين إجراء فحص كامل؟... ربما كنت في حاجة لعملية جراحية... ستكون نسبة نجاحها عالية... ولن تكلف الكثير"
لم يعلم الطبيب لماذا جاءت هذه المرأة... ظن أنها جاءت من أجل الاستبشار بالحمل... لم يعلم أنها تهرب منه... لكن صدمتها كبيرة عندما علمت أنها قد تكون عقيماً... أمر صعب عليها... ولكنه قد يهون إذا تذكرت أنه لن يجعل بينها وبين عدوها علاقةً تمتد للأبد.


3- شيء لا يطاق



ذات يوم... دخلت جواهر على والدها... كانت دموعها تعبِّر عن كل مشاعر خيبة الأمل... موقف واحد من عشرات المواقف... بدأ تعرضه على والدها:
- " أبي... كنت أجلس في السرير... الساعة قرابة الثانية بعد منتصف الليل... وحيدة في منزل خالٍ... إلا من الهموم والأحزان... أتدري... لقد كان في الخارج يسهر كعادته... مع رفاقه... أو... لا أدري... مع رفيقاته... لا يعلم إلا الله ... وبمجرد وصوله... استقبلته بكل رحابة صدر... كنت أقول في نفسي... سأتنازل عن الكثير الذي لي عنده... المهم أن يصلح حاله... طُرق الباب... وطَرقت الهموم جدار قلبي... وقمت متجهة للمطبخ... وحملت كوباً من عصير العنب... نعم... عصير العنب... لازلت أذكر كل تفاصيل الموقف... حتى لون الكوب... وكمية العصير... اتجهت بعد ذلك نحو الباب وقلت:
- " من بالباب؟"
-" أنا ... "
إنه صوت زوجي... كنت أعرف ذلك... لأني سمعت صوت سيارته عندما توقفت... أنا أعرف صوتها جيدا... ابتسمت... وفتحت الباب وكنت في أثناء ذلك... أنظر إليه... كنت أَسْتَجْديه في إلقاء ابتسامة مقابلة... وكنت واقفة على الباب... وقلبي يدق خوفاً... ولكن... شزراً نظر إليَّ... لم يلق لعواطفي أيَّ بالٍ... سَخِرَ كِبْرُهُ من ابتسامتي... ودخل مستهتراً بكل شيء... تبعته متجاهلة كل كبريائي... وقلت:
-" أهلاً بك يا حبيبي... تفضل العصير "
-نظر إليَّ باستخفاف... ثم قال :
-" انصرفي عن وجهي يا جرثومة"
... لم أتمالك أعصابي ... لقد انهارت نفسيتي... وبَرَدَت أطرافي... وسقط الكوب من يدي على الأرض... وتناثر العصير الأحمر... كما تناثرت من قبل... دماء كرامتي... عند قَدَمَي هذا الوغد... قال... وكأنما قُدَّ قلبه من فولاذ:
-" كسرتِ الكوب... ودَمَرْتِ الفرش "
اقترب مني في انفعال مصطنع... ورفع يده في غبطة... وأهوى بها على وجهي... الذي تحوّل أمامه إلى قطعة قماش خلِقة... وتلاشت نفسي أمامه... وتلاشت الحياة أمامي... كرهت في داخلي الرجال... كلَّ الرجال... وكرهت الزواج... وكرهت الأزواج... وخطر لي أن أقتل نفسي ... لكني بقيت جاثية على قدمي لفترة... ثم انتبهت... لم أشأ أن أنام... وأين سأنام... هل سأنام معه في فراش واحد... أو غرفة واحدة... لا... حينها لم أجد بداً من التوجه على دورة المياه... أقفلت على نفسي هناك... مرت الساعات كالسنوات... وأصبح الصباح... وجئت إليك... يا والدي"
أيقن الوالد بعد سماع هذه القصة... أن ابنته تسير في طريق طويل من الظلم...لذا سألها:
-" هل تريدين الطلاق؟ "
-" نعم يا والدي... لقد بَلَغَتْ النفس الحلقوم... لم أَعُد أحتمل "
-" ما دام الأمر كذلك فسأفصل الأمر "


4- الطلاق

لم يكن الأب سعيداً لهذا الطلاق... لقد بدا له خيبة رجائه في هذا القريب... وبدا له ضياع مستقبل ابنته بعد أن تطلق... ولكنه أرسل عدة أشخاص ليفاوضوا زوجها في الطلاق... وبعد أن تمت المفاوضات... وعلم الأب بما يريده الزوج... ذهل ذهولا كبيرا... لقد عرض الزوج طلباته... كي يوافق على الطلاق.
بدا للأب فعلاً أن هذا الرجل لا يصلح إلا أن يعيش في الغابة... بين الوحوش... بكى كثيراً من أجل ابنته... ولكنه في النهاية... سلم للأمر الواقع.
لقد طلب ذلك الزوج مائة ألف ريال... قيمة لورقة الطلاق... ولم يتنازل عن ريال واحد... وبالفعل تسلم المبلغ... وانتهى الكابوس من حياة جواهر... وأصبحت حُرَّةً طليقة... تنتشي كلما تذكرت أنها لا تأرز تحت سيطرة أي رجل يدعى زوجاً.
كرهت جواهر على إثر زواجها ذاك كل الرجال... وكرهت الزواج أيضا... لذا قررت أن تعيش حياتها حرةً طليقة.


5- أيام الوحدة

وبعد عام واحد من طلاق جواهر... مات والدها... كان حزيناً على ما حصل لابنته... لقد انطوت صفحته... وكان لموت الأب أكبر الأثر على ابنته... بدت لها الحياة صغيرة على حقيقتها... تضاءل كل شيء في نظرها... بدت الحياة أكذوبة كبيرة... كل الناس يصدِّق ألاعيبها... وبدأ الفراغ القاتل يكوي جواهر في وحدتها... لا شيء له طعم... لا شيء له ذوق... لا شيء له رائحة طيبة... أخوها الأكبر رجل أعمال... لقد اشتغل في تجارة والده... له أسرته وبيته الخاص... وهي وحدها في منزل والدها مع الخادمة.


6- ماذا في الخزانة؟

وفي أحد الأيام... كانت جواهر تقلب في مكتبة والدها... تريد تقطيع شيء من الوقت... وجدت مفتاحا صغيرا في أحد الرفوف... يبدو المفتاح مهما... إنه بالتأكيد لأحد الأدراج المقفلة... أخذت جواهر المفتاح... وبدأت تجرب... وأخيرا فتح باب أحد الأدراج... نظرت جواهر باهتمام:
– " أوه .. ما هذا؟"
أدخلت جواهر يدها بهدوء... وأخرجت شيئا من الداخل... وبدأت تقلبه باهتمام... إنه مصحف له غلاف مُذهب... فتحت أول صفحة... تأثرت كثيرا... لقد وجدت خَطّاً بقلم والدها... وكان المكتوب فيها:
- " هذا هو العلاج... القرآن الكريم... فيه شفاء لما في الصدور... هذا كلام الله... تتنزل علينا به السكينة والطمأنينة... ألا بذكر الله تطمئن القلوب".
لم تُلْقِ جواهرُ بالاً لهذا الكلام... إنها تسمعه كثيراً من كل أحد... كلِّ يقول ذلك... القرآن يذهب الهموم... كانت تقول في نفسها... هذه مجرد دعايات... أدخلت يدها ثانية... وجدت شيئا آخر... أخرجته باهتمام... إنه صندوق بلاستيكي... فتحته... وجدت بداخله شريطا كاسيت... قرأت عناوين الشريطين... كتب على أحدهما... سورة مريم... كتب على الآخر... تفسير سورة مريم.
شعرت جواهر بخيبة أمل... حدَّثت نفسها بالطريقة الأولى... وكأنها تقول:
- "أنا أريد شيئاً آخر... ألا يوجد غير هذا؟"
ولكنها تذكرت والدها... شعرت أنها تطلع على وصيته:
-" هذه أشبه بالوصية... نعم ... القرآن... يبث الطمأنينة"
نظرت جواهر للمسجل الموضوع في زاوية المكتبة... في إطار خشبي جميل... اتجهت نحوه... ووضعت شريط القرآن... وبدأت في السماع...
" ك هـ ي ع ص ... ذكر رحمة ربك عبده زكريا... إذ نادى ربه نداء خفيا... قال رب إني وهن العظم مني... واشتعل الرأس شيبا... ولم أكن بدعائك رب شقيا..."
جلست جواهر على الأرض... وأسندت ظهرها في استرخاء على الجدار... وواصلت السماع... ومع سماعها ذاك... وجدت أن روحاً جديدة تبث في أعماقها... روحٌ من أمر الله.
شيء ما بدأ يدخل حياة جواهر... القرآن... لقد أحست معه بالطمأنينة والأنس... سمعت التفسير أيضاً... ومع الأيام... بدأت تشعر أن كابوسَ همومِها ينقشع... أحست بالصفاء... وأحست بحاجتها للانكسار بين يدي الصلاة... قصة طويلة عاشتها... مدادها الخوف والقلق والظلم... لقد أصبحت الآن... تسطر بماءٍ من نور... ونفسيتها أصبحت مرتفعة جدا... قررت جواهر أن تعود للدراسة... كي تخرج من وحدتها إلى عالم أرحب.
الآن لعلنا نذكر حسان... ونذكر المرأة الغريبة... التي غضبت عندما فتح لها حسان باب ضاحية الخشبي... هناك تفاصيل هامة في حياة جواهر وحياة العجوز ستنجلي عن سر غريب.


الفصل السادس

1- مجيء جواهر للوصائل

الواقع... أن الجارة الطيبة للعجوز ضاحية... والتي تتقاطر طيبة ورقة... ليست سوى جواهر... التي طلقها زوجها الجشع منذ عشر سنوات... لقد أكملت دراستها بنجاح... إنها هي صاحبة القصر الكبير... فبعد أن قُسمت ثروة الأب بين الابن الأكبر وجواهر... كانت العمارة في حي الوصائل من نصيبها... ولكنها لم تنتقل حينها إلى هذه العمارة... وإنما بقيت في بيت أبيها... لأنها كانت مرتبطة بالدراسة في الكلية... وهي هناك قريبة من أسرة أخيها... مع أنه كان أقل اهتماماً... ولكنه على أي حال أفضل من العدم.
لقد كان أخوها المشتغل بتجارته المتزايدة... لا يملك وقتا للجلوس مع أخته... خاصة وأنه يكبرها بما يقارب العشرين سنة.
أما رصيد جواهر في البنك فقد استمرت الزكاة تأكل منه كل سنة خمسةً وسبعين ألفاً... جواهر حريصة على إخراج الزكاة... الزكاة هي المال الذي يبقى عند الله... عمارتها في الوصائل خالية على عروشها.
وقبل عام واحد... وعندما تخرجت جواهر من الكلية... كان الحظ سعيدا... لقد تم تعيينها في المدينة التي فيها عمارتها... رحلت جواهر إلى المدينة... وسكنت عمارتها... في الدور الثالث... وباشرت عملها كمعلمة... وبدأت حياتها أكثر استقراراً من ذي قبل.
أخو جواهر قرر شراء فلة أنيقة... في المدينة التي تعينت فيها أخته... للاصطياف أولاً... وثانيا ليكون قريبا من أخته... على الأقل في وقت الصيف...وأيضا لأنه يريد فتح مشاريع استثمارية في تلك المدينة.


2- المثالية... جواهر

جواهر... كثيرا ما تفكر وتتأمل... وتحرص على أن تكون امرأة مثالية... لها أفكارها المستقلة... ولها جدولها الخاص في قضاء أوقاتها... بعد أن استقرت حياتها في عمارتها الكبيرة... وهذا التنظيم جعل من حياتها حياة هادئة مستقرة... بشكل كبير.
إنها بالفعل امرأة متدينة... في بداية حياتها كان تدينها فطرياً هادئاً... إنها تعبد الله بالطريقة التي تَعَارف عليها المجتمع... ولكن بعد دخولها الجامعة... تعرفت على الكثير من الصديقات...وتغيرت توجهاتها تجاه الدين... لم يعد الدين عندها مجرد صلاة وصوم... لقد أصبح الدين طريقَ حياةٍ... الدين الحقيقي الذي ينبع دفئاً وروحانية... ويتدفق بحبٍ يفيض بكل معاني السمو الروحي... والأخلاق العالية... هكذا أوحت التجربة لجواهر... النظرة المطمئنة للحياة أصبحت تستولي على لُبِّها... الإسلام هو الحل الواقعي لكل مشاكل الدنيا... الحل لمشاكل الشباب... والحل لمشاكل الصبايا... إنه الحل للانفجارات العنيفة... التي تثور في طيات النفس البشرية... وهو الحل أيضا من أجل تجفيف الدموع المنحدرة على خدَّي كل مظلوم... أو إهدار شيء من الدموع علي خدي كل ظالم.
الإسلام المُنساب إلى خلجات النفس الظامئة... والذي يسقيها بنهر من عسل... أو نهر من لبن... يغسل به آثار نهر الخمر والجنون... الذي عكرها سابقاً... هكذا كانت جواهر تنظر لدينها... وهكذا تشبثت بمبادئها السامية... بكل ذرات جسمها.


3- الأبواب المتهالكة

ومع مرور الوقت... أجبرها الفراغ على الانهماك في القراءة... واستطاعت جواهر بعد فترة وجيزة... أن تتعلم الكثير... لقد قرأت الكثير... وهي الآن تكتب... كم كانت دهشتها عندما رأت أفكارها تتدفق بسلاسة وإبداع... على أوراقها البيضاء!... قرائح كانت كامنة في جوهرها المكبوت... تفجرت عن إبداع مذهل... بدأت جواهر تنشر ما تكتبه في صحف المدرسة.
كثير من وقت جواهر تقضيه مع بعض طالباتها... لقد بنت معهم علاقات طيبة... إنهن يحببنها أشد ما يكون الحب... ويَعْرِضْنَ عليها أيما مشكلة تواجههن... وتستطيع جواهر بحكمتها مساعدتهن في الكثير.
جواهر لم تكن بحاجةٍ للراتب الذي تتقاضاه آخر كل شهر... لذا قررت إنفاق راتبها في دعم الطالبات الفقيرات... وربما كانت تهدي لهن هدايا متعددة.
الأجمل من ذلك... أن جواهر بدأت في دراسة مشروع آخر في حيها الجديد... إنها تريد معرفة تلك الخبايا... التي لا يهتم بها في الغالب أيُّ أحد... كثيرون هم أولئك المهتمون بأوضاع المجتمعات... ولكنهم في الغالب يهتمون بالأوضاع الشكلية... التي تسر الناظرين... ولا يُكلِّفون أنفسهم التعمق... لنفض التراب الذي راكمته سنون الفقر والحرمان... على أرفف وجدران البيوت العارية... حتى من أقل درجات الحقوق الإنسانية... لأنهم وإن كانوا مصلحين... إلا أن أحدهم ربما لا يرضى أن يهبط بنفسه إلى درك ينزل فيه مستواه... عند نفسه وعند الآخرين... حتى ولو كان نزوله ذلك ارتفاعاً عالياً في درجات النبل... وارتفاعاً أيضاً في الدرجات عند الله.
جواهر طراز خاص... لقد استطاعت بجدارة... اختراق تلك الحواجز النفسية... التي تقف حائلا دون المُصطلح... ودون نفض تراب أرفف الفقراء... وتراب أنفسهم الغبراء.


4- العجوز الطفلة

طرقت جواهر أبواباً عديدة... غَزَتْها من قبل دودة الخشب... وولجت إلى منازل عديدة... ذات جدران ترابية متهالكة... قد نخرتها جيداً حشرة الأرَضَة... ومن بين تلك الأبواب... التي طرقتها جواهر... باب العجوز ضاحية.
تلك الأوضاع البائسة... لم ترتسم في ذهن جواهر فحسب... عندما دخلت لمنزل ضاحية... وإنما نقشت نقشاً لا يمكن أن يطمسه الزمن... هناك شيء آخر... انتقش في فؤادها... لا يُدْرَى أبداً ما سببه... إنه الحب الصادق لهذه العجوز... الواقع أنه حبٌ غير طبيعي... جميع مَن كانت جواهر تقدم لهم إحسانها... كانت نقوش العطف والرحمة... هي النقوش التي تُنقش في نفسها من أجلهم... أما بالنسبة لضاحية... فإن نقوش الحب... ونقوش الميل القلبي الجارف... هي النقوش الأكثر ارتساما في فؤادها.
لم تشعر جواهر بذلك... إلا عندما وجدت قلبها يرقص في مكانه... عندما رأت وجه ضاحية الضامر... أحست أنها تريد أن تمسح على رأسها بحب... وأن تقبل جبينها... وأكثر من ذلك... لقد أحست جواهر... أنها ترغب في أن تنكبَّ على صدر هذه العجوز... لتغرقه بدموع حارة... لا معنى لها عند جواهر... ولكن قد يكون لها معنى في الواقع... وربما كان لها معنى آخر... يفسر شيئا من تلك الحقائق الغامضة... في حياة ضاحية.
قررت جواهر أن تُشْبِعَ ضاحيةَ بحبها وحنانها... وقررت أن تفرِّغ على قلب العجوز... جميع المشاعر المتدفقة... التي أُودعت قلبها الطيب... ثم أُقفل عليها فيه... بِقُفْلٍ رُمي مِفْتَاحه في البحر الميتِ... موتَ حياتها المقتولة... بخنجر زوجها الأول.
شيء واحد كانت جواهر تفكر فيه بقليل من الجدية... مع أنها امرأة كأيِّ بنات جنسها... إنه التفكير في أن يكون لها أطفال تُغدق عليهم من حنانها... ربما كان ذلك... لأن زواجها الأول... جعلها تشك في قُدرتها على الإنجاب... إنها ولمدة عام عاشته معه... لم تحمل... لذا لم تعد تفكر في أن يكون لها طفل أو طفلة.
الآن أصبحت العجوز ضاحية... تُعبِّر عن حقيقة الطفل الصغيرة... لدى جواهر... ربما كان غريبا ذلك الإحساس... ولكن جواهر... أحست بحاجتها لهذه العجوز... بعد أن أحست بحاجة العجوز لها... عجوز في آخر منعطفات العمر... تحتاج لمن يطعمها ويعطف عليها... وما الفرق... إنها تماماً كطفل... وجواهر أصبحت بالنسبة لها تماماً كأم.
لكن... ربما لم يكن هذا السبب... هو السبب الحقيقي وراء ميل جواهر للعجوز... بيد أن هذا السبب هو السبب الذي أقنعت جواهر به نفسها... وهي تقوم بكل أعمال الأمومة مع العجوز ضاحية... و ربما كشفت الأيام أسبابا أخرى.
الفصل السابع

1- صدمة غير متوقعة

الشمس تعمل جاهدة في تدفئة هواء الصبح... وتعمل أيضاً على رفع درجة حرارة كل قطرة من قطرات الندى التي أتاح لها الليل أن تنزل... كي تتبخر من جديد.
وأشعة الشمس تدخل من نافذة الصَّف... لتذكر المكان ببداية الحياة ليوم جديد... ويسمع ضجيج الطالبات مدويا... وهو يمزق أستار الصمت... التي عاشها الصَّف طيلة الليل... وفجأة... يعم السكون... وتتجه كل طالبة لمقعدها... وتدخل معلمة محبوبة... ابتسامتها تعيد الأمن في أنفس الطالبات... إنها الأبلة... جواهر.
بعد أن أدارت جواهر نظرتها على جميع الطالبات... كي تتوزع ابتسامتها الساحرة عليهم جميعاً... في عدل خرافي... لفت نظرها تلك الفرحة... المرتسمة على وجوه الجميع.
ليست الفرحة أمراً معتاداً للطالبات... خاصة في صباح يوم دراسي... يستقبل الطالبات فيه... أثقال جهد كوؤد.
سألت جواهر في رِقِّة إحدى الطالبات اللواتي يجلسن في المقاعد الأمامية:
- " قولي لي... ما سبب هذه الفرحة والسرور؟"
ردت الطالبة بسرعة... قبل أن تسبقها طالبة أخرى في الإجابة:
- " أمل ... يا أبلة... تزوَّجت "
كلمات عادَّية... بل وسعيدة... بالنسبة لجميع الحاضرات... اللواتي يشعرن بشيء من التفاؤل... ينقدح في أذهانهن... ويشي بحياة مستقبلية آمنة... ولكن الشيء يختلف تماما بالنسبة لجواهر... لقد اجتمع على قلبها شُعوران متناقضان ... ولا تدري جواهر ما أبعاد هذه المشاعر... مرَّت فترة صمت ثقيلة... ولكنها كانت قصيرة... بعدها قالت جواهر:
- " ألف... مبروك..."
وفي تلك اللحظة... بدأت القشعريرة تسري في أجزاء الجسد النحيل المكدود... الذي تحمله جواهر... وشعرت وكأن رأسها يطوف بجوانب الفصل... وازداد خفقان قلبها... وهي مع ذلك لا تعلم سبباً مقنعاً لكل هذا.
لم تتمكن جواهر من البداية في شرح الدرس الذي أعدته... اضطرت للجلوس على الكرسي... ثم رفعت حقيبتها الصغيرة... وأخرجت قنينة ماء... وبدأت تشرب منها... الواقع أنها لا تشعر أبداً بأي حاجة للشرب... ولكنها شربت... وبعد ذلك... طلبت من جميع الطالبات لزوم الصمت... والبداية في مراجعة الدروس السابقة... وادعت أنها تشعر بصداع شديد.
الطالبات لا يعرفن شيئاً عن جواهر... ولا عن حياتها الخاصة... ابتسمت إحدى الطالبات في شطارة... وأسرَّت إلى زميلتها بقولها:
- " أنا عرفت... أن هذه الأعراض ليست سوى أعراض الحمل... ولابد وأن الأبلة حامل"
لكن زميلتها أجابتها مستغربة:
-" ولكن... هل الأبلة متزوجة؟ "
-" هذا مؤكد... وماذا ينقصها لتتزوج؟... لابد وأن الخُطَّاب تسابقوا عليها قبل أن تختار زوجها الحالي... أنا على يقين "
- " صدقتِ... جمال... وراتب... ودين وخلق... ما شاء الله!... اللهم إنا نسألك من فضلك "
- " آمين... اللهم إنا نسألك من فضلك... مبروك عليها وعلى زوجها... لابد وأنهما أسعد العرسان"
- " الطيبات للطيبين !! "
في أثناء ذلك... كانت جواهر تَنْتَظِرُ انتهاء الحصة بفارغ الصبر... وكانت أسئلة كثيرة تضطرب في ذهنها... ومن بين تلك الأسئلة:
- " لماذا أُصبت بهذا الدوار؟... ولماذا اضْطَرَبَتْ جميع موازيني بمجرد سماعي لنبأ زواج أمل المنتظر؟... هل السبب في ذلك... أني أكره الزواج... وأكره ذكره... خوفاً على مستقبل كل بنتٍ ستدخل هذا السجن الحديدي... الذي يسمونه زواجاً... أم بسبب تلك التجربة الفاشلة... التي خضتها... والتي يُذكرني بها كلُّ خبرٍ يحمل في طيَّاته ذكرَ الزواج... أم هو يا ترى شيء آخر؟... هل هي الغَيْرَة؟... الغيرة!... هل من الممكن أن يكون غيرةً من تلك الفتيات اللواتي يتزوجن... الواحدة بعد الأخرى... وأنا قابعة في بيتي... أنتظر القطار المغادر منذ زمن... الذي قرر مسبقاً ألَّا يجيء؟... لا... لا..."
لقد بلغ التفكير بجواهر مبلغاً صعباً... يكاد يجعلها تبكي... وبالفعل... كادت حنجرتها تنفجر بالبكاء... إلا أن جرس انتهاء الحصة أسعفها برنينه... إنها هبة عظيمة نزلت عليها... قامت جواهر مثقلة من مقعدها... وولَّت خارجة.
كل الهموم والكآبة... التي ارتسمت على ملامح جواهر... لم تكن لتخفي على أمل... الطالبة الذكية... مع أنها قد خفيت على غيرها من الطالبات... لقد كانت أمل ترمق جواهر بعين متعجبة... وتساءلت حينها:
- "ما هو يا ترى ذلك السبب الكامن وراء هذه الحالة الغريبة... التي طرأت على المعلمة... بسبب سماعها لخبر زواجي... مع أنها دخلت الحصة في بدايتها وهي على أحسن حال؟... كانت مبتسمة هادئة"


2- تتغير الموازين

لقد كانت ثقة أمل في "أبلة جواهر" ثقة كبيرة... لذا تبعتها بعد خروجها من غرفة الفصل... كانت أمل تبحث عن جواهر... ولم تكن تدري ماذا ستقول لها... ولكنَّ السؤال الحائر في نفسها أَبَى إلا أن يبحث لنفسه عن جواب.
بحثت أمل عن الأبلة في غرفة المعلمات... لم تجدها... بحثت هنا وهناك... كان سوء الحظ ملازماً لأمل طيلة بحثها... أبدا الأبلة غير موجودة... وعلى أمل أن تعود للفصل بسرعة... وفي آخر لحظات... سألت إحدى العاملات في المدرسة... أجابت العاملة:-
- " الأبلة جواهر ... نعم... رأيُتها منذ دقائق... تدخل للمصلى "
انطلقت أمل مسرعة تحذوها أسئلتها... حتى دخلت للمصلى... وهناك... اكتحلت عيناها برؤية جواهر... لقد كانت جالسة في إحدى الزوايا... وهي تخنق عبراتها التي أبت إلا الانفجار... ولما استأذنت الفتاة بالدخول... مسحت جواهر عينيها... وقالت وهي تبتسم :
- " ادخلي يا أمل ... تَعَالَيْ... اجلسي هنا"
وتقدمت أمل بهدوء حتى جلست مقابلةً لجواهر ثم قالت :
-" هل تسمحين لي يا أبلة أن أسألك سؤالا... ولا أدري... قد يكون فيه نوع من الحرج؟ "
- " الحرج؟... تفضلي يا بنتي... ثقي أنني مثل أمك... أو قولي... مثل أختك"
- " أبلة جواهر... قولي لي... بصراحة... ما وجهة نظرك في زواجي؟ "
- " نعم... زواجك... يا بنتي... هل تريدين نصيحتي؟"
اتسعت حدقتا عيني أمل في دهشة... وقالت:
- " نصيحة؟!...نعم ... نعم ... "
- " إنها نصيحة امرأة مجربة... ومحبة لك... الزواج ليس بالأمر السهل... إنه أصعب قرار تتخذه المرأة في حياتها... الزواج يحتاج إلى تأنٍ... وإلى استشارة... يا بنتي... احذري المجاهرين بارتكاب الكبائر... احذري المنافقين... احذري الأناني... الذي يحب نفسه... ولا يبالي بعواطف الآخرين... ثم... إياك ومن لا يبالي بأكل المال الحرام... أو من يستغل طيبة الآخرين ليحقق مآربه... إياك ومن يتزوجك لا ليبني بيتاً لك وله... وإنما يكون هدفه بناء بيته وهدم بيتك"
كانت جواهر تردد هذا الكلام... وكان صوتها يزداد ارتفاعاً مع كل لحظة... وفجأة... انفجرت حنجرتها بالبكاء... كانت تبكي بنبرات مرتفعة... ثم مالت على أمل... وضمتها لصدرها الحنون.
وفي شيء من السذاجة... قالت أمل:
- " لا عليك يا أمي... لا عليك... إنَّ زوجي يختلف تماما... إنه رجل يخاف الله... وهو يهتم بالصلاة... إنه يا أبلتي... رجل مؤمن... وعندما رآني لأول مرة... قال لي مبتسماً:
- "الدين المعاملة... ولابد أن أعاملك يا أمل... تماماً كنفسي... وأنت كذلك"
نعم يا أبلة...لقد ابتسم أكثر... وقال لي:
- " لقد سمعت يا أمل... قول رسول الله... عندما قال..." خيركم خيركم لأهله ... وأنا خيركم لأهلي" ... وأنا يا أمل أيضا... سأكون مُتأسِّياً برسول الله... وأرجو أن أكون خيراً لك"
تصدقين يا أبلة... قال لي عندما همَّ بالذهاب والانصراف... ووجهه يُشع بنور بريء... وعيناه تلمعان بوميض صادق... قال لي:
- " لابد أن نبني بيتاً "
قالت له :
- " بالطبع... هذا مهم... ولكن... قل لي... هل سنبني بيتاً قبل الزواج أم بعده "
رد علي بردً لم أتوقعه... لقد أخجلني رده... كان على حق... قال لي:
- " سنبني بيتاً في أعلى الجنة... وسنبنيه بحسن الخلق "
تصدقين يا أبلة جواهر"
ردت جواهر بتأثر... كانت عبراتها أكثر جفافاً... وابتسامتها تحتل من جديد على شَفتيها... لتشاركها ذهولها:
- " ماذا يا حبيبتي؟"
- " لقد كنت أقل ذوقاً معه... ولكن لا أدري... هل أخطأت أم أصبت؟... قلت له:
- " والدنيا... ألن نبني فيها بيتاً؟"
ولكنه ابتسم... وأخرج من جيبه صورة فوتوغرافية... وناولني إياها وقال:
- " انظري... هذه هي صورة منزلي الذي انتهيت من إعماره منذ فترة قصيرة... ولم أسكنه حتى الآن... لأنه بقى أهم شيء فيه"
- " وما هو أهم شيء فيه؟ "
" الملكة... إنه أنت يا أمل... أنت الملكة"
كنت يا أبلة أشعر أن كلامه مقطوعة من الشِّعر الجميل... وقبل أن يودعنا... أخرج المصحف من جيبه... وقال في إيمان:
- " هذا... سيُنير طريقنا... وحتماً سيوصلنا لهدفنا "
ردت جواهر في شبه بلاهة:
- " الحمد لله... بارك الله لك في زوجك "


3- الطفل

انصرفت الطالبة... وبقيت جواهر مكانها... لم تعد جواهر الآن هي جواهر منذ قليل... لقد اكتشفت اضطرام اللهب في كثير من مشاعرها... شيء ما... طالما أخفته في نفسها... وتجاهلت وجوده... لقد كانت تُقْنع نفسها بعدم وجود أي رصيد من تلك المشاعر... داخل الفؤاد الذي باع نفسه لله... وانصرف لفعل الخير... ولكن... الآن... بدأت خلجات جواهر تشعرها بسيل عرم من تلك المشاعر... يحاول اجتياح كيانها.
لقد بدا لجواهر كثير من معالم أنوثتها وضعفها... ربما بدأت تشعر بحاجتها الماسة... لزوج... يحميها... ويقف بجوارها... ويُغدق عليها شيئا من حبِّه الصادق... وعطفه وإخلاصه... أغمضت جواهر عينيها... وبدأ يَتَرَدَّد في أذنها صوت الطالبة أمل... عندما كانت تقول :
- " اطمئني... إنه رجل يخاف الله... وهو حسن الخلق"
" حسن الخلق "... " حسن الخلق "... يا له من لحن سحري... لقد بدأ يجري في عروقها... وبدأت تدب معه أحاسيس فياضة... من الأمان والحنان.


4- عالم من الخيال

كانت جواهر جالسة في المصلى بَبَدنها... ولكنَّ أفكارها وآمالها ليست هنا... إنها في مكان آخر... إنها تطوف هناك... تطوف مع نفسها... في عالم الخيال... ذلك العالم الذي لا يمكن لكثير من المحرومين أن يحسُّوا بالسعادة... إلا فيه... بدأت تتخيل نفسها وهي تتقدم نحو المستقبل... ونحو زوجها الموهوم... زوجها الذي لا يعيش الآن... إلا في خيالها فقط... بدأت جواهر تتقدم إليه بخطوات وئيدة... وكان الزوج يلتفت نحو حديقةٍ بهيّة الأزهار... وصلت جواهر إليه... ووضعت يديها على عينيه من الخلف... لكنه وضع يديه على يديها.. وقال:
-" من أنت ؟"
-" تُرى... من أكون؟ "
-" أنت... أم أطفالي "
سحب يدها من فوق عينيه برفق... وبدءا في الضحك... طرب لضحكهما كل شيء في الحديقة... وصمتت البلابل.
تخيَّلَتْهُ وهو يطرق الباب... وتهب هي من الداخل... فتفتح الباب... فيبدو وجهه كوجه القمر ليلة البدر... ثم يبتسم ابتسامة عريضة... ويقول:
-" سلام الله يا بدر "
فترد في سعادة:
-"سلام الله يا قمر"
تتخيله يبتسم مع كل خدمة صغيرة تقدمها له... ويقول شكراً لك يا حبيبتي... ستساعده في كل شيء... ستشاركه في كل شيء... ستناوله "الشماغ"... ليرتديه... وستساعده في إدخال يده في معطفه... ثم... ستقدم له حذاءه... ولكن... لن يرضى أن تقدم له حذاءه... سيقول:
-" أكرمك الله... ارتاحي... يا حبيبتي"
وستقول:
-" لا... أنا سعيدة بخدمتك"
عندها... سيذهب مسرعاً... ويحمل حذاءها... ويضعه عند قدميها... وهو يبتسم ويقول:
-" تفضلي"
وعند انحنائه... ستقبل رأسه... ويديه... وستحاول أن تقبل قدمه... ولكنه يرفض... ولكنها وبسرعة خاطفة تهبط... وتمد يدها... ثم تمسح يها قدمة... ثم ترفعها وتقبلها... وسيقول عندها:
-" أكرمك الله... أنت متواضعة"
ثم يهبط بسرعة... ليقبل قدميها... ولكنها ستهرب منه... ستهرب... وهو يُطاردها... وأخيراً ستختبئ منه... يناديها:
-" هيَّا يا جواهر ... هيا لنذهب... اخرجي بسرعة... اليوم موعد تطعيم الولد"
عندها تتذكر الموعد... وتأتي إليه مسرعة... عليهم أن يسرعوا من أجل تطعيم الولد... تأتي... تبحث عنه... تبحث في جوانب العمارة الكبيرة... لا أحد... أكذوبة سخيفة... هزئت بها عواطفها قليلاً... وسرعان ما دق الجرس... لانتهاء الحصة... وبدأ ضجيج الطالبات... يزعج الآذان... وعادت جواهر لواقعها الأليم... بل عادت إلى ماضيها الأشد ألماً وبؤساً... وبدأت تقرأ في اللوحة السوداء... لم يقدم لها زوجها الأول أيما كلمة شكر... أو مديح... أو ثناء... لم تنعم ذات يوم... بالنظر إلى ابتسامةٍ منه... ولو كانت ابتسامة كاذبة... إنه ساخط عليها دائماً... إن صورته تبدو الآن أكثر وضوحاً... لقد أصبحت صورته تزيل صورة زوجها الذي رأته في الخيال... بدا وكأنه لعنة جهنمَّية حلت عليها.


5 - من هم... الصادقون؟

جواهر بقيت كذلك... كانت دموعها تحكي بفصاحة... قصَّة واقعها الأليم... وتقرأ بسرعة... كل أفكارها... تقرأها بصوت واضح... رن الجرس ثانية... قامت جواهر من شبه سكرتها تلك... وإذا بلسانها يردد ودون سابق تعمد.
-" رجل يخاف الله... وحسن الخلق"
عاد رُشْدُ جواهر لنفسها بدرجة أكبر... بعد أن كادت نفسها تذهب شعاعاً.
وانقدحت في ذهنها فكرة من ذهنها الواعي... قالت حين إذن لنفسها:
-" هل من الممكن يا ترى... أن يوجد في عالم الرجال... اليوم... رجلٌ يخاف الله... وحسن الخلق؟... لا... لا... لا بد وأن هذا من المستحيلات... وإن قُدِّر له أن يحصل مرة واحدة... فسيكون حصوله إحدى عجائب الدنيا... بالتأكيد.
ازداد تفكير جواهر عمقاً... وازداد إدراكها لحقائق الأمور... وعُرضت على نفسها تلك الكلمة الجميلة... " رجل يخاف الله "... تذكرت رسول الله... لا تدري لماذا... ولكنها تذكرته فعلاً... صلَّت عليه الصلاة الإبراهيمية... قالت وعقلها يكاد يشتعل نورا:
-"ولكن... هل من الممكن أن يوجد رجل يخاف الله... وفي الوقت ذاته... يكون خُلُقُهُ غير حسن"
أجابت نفسها بعد تأمل قصير:
-" مستحيل... إن أي رجل يخاف الله... يجب تلقائياً أن يكون خلقه حسنا... وإن أي رجل لا يملك الخلق الحسن... فمن الكذب أن يكون خائفاً من الله... حتى ولو زعم أنه متدين... وسيكون تدينه هذا نوعاً سخيفاً من الهراء والدجل... يخاف الله... وحسن الخلق... أوه ... بالتأكيد... إنهما ليستا كلمتين... إنهما كلمة واحدة... إنها يخاف الله... فقط "
دق الجرس مرة أخرى... وبدأت جواهر تضع الحل النهائي لأبعاد هذه القضية... التي أخرجتها في الواقع عن قضيتها الأصلية... وخروجها من تلك المشاعر المقْلِقَة بالتأكيد رحمة بها... بدأت تفكر في شيء آخر:
-" لابد أن نتجاهل صور الناس وأشكالهم وملابسهم... وديكورهم الخارجي... تجاهلاً كاملاً... عندما نريد الحكم عليهم بالتدين من عدمه... إن المتدين الحقيقي... هو من يعتاد المساجد ويحسن خلقه... ويخاف الله... حتى ولو وقع منه بعض الآثام التي لا يسلم منها أحد... ولكنَّ حقائق الدين والدنيا كلها مرتسمة في ذهنه"


6- خيال في قلب الخيال

وضعت جواهر يدها تحت خدّها... وعادت تَسْبَحُ في أحلامها الوردية... مع فارس أحلامها غير المنتظر... إنه بالتأكيد متدين... وهو تلقائياً حسن الخلق ... لقد بدأت تنظر إليه من جديد... وهو يمسك بيدها... ويطوف بها أنحاء العالم الفسيح... وكله حبٌ وصفاء... لقد رأته يطير... وهي تطير إلى جواره... طارا متجاورين... وكأن كل السعادة انحسرت على الأرض قاطبة... وأصبحت سحابةً تحوم حولهما.
وفجأة... بدأ حبيبها يبتعد عنها قليلا... وبدت تجاهد نفسها في اللحاق به... إنه يبتعد أكثر... وأكثر... تحوَّل إلى طائر أبيض كبير... أما هي... فقد توقفت عن الطيران... حاولت جاهدة أن تكمل طيرانها... ولكن دون جدوى... بدأت تفقد جناحيها... إنها الآن دون جناحين... بدأت بعد ذلك في السقوط للأرض... إنها تهوي وتهوي... وفي أثناء ذلك... كانت تناديه... لكنه لا يسمعها... وتشعر أنه لو سمعها لاستجاب... وعاد كي يضمها... لتطير إلى جواره... جميع صرخاتها ذهبت أدراج الرياح... وعندما اقتربت من الأرض... بدأت تتلمح تلك المنطقة الصغيرة... التي ستسقط عليها... إنها وللأسف... منطقة تناثرت فيها أحجار حادة... وأشواك ومهالك... من المستحيل أن ينجو من يسقط على هذه الحجارة... حتى ولو كان سقوطه من ارتفاع مترين... كيف بارتفاع مئات الأمتار... شعرت أن نهايتها اقتربت... ومع اقتراب نهايتها... اكتشف طائرها أنها لم تعد بجواره... بحث عنها خلفه... لم يجد لها أثراً... بدأ يسمع أصداء ندائها... رآها وهي تدنو من نهايتها... عاد مسرعاً إليها... كان مدفوعاً بأقصى قوة... سُرْعَتُهُ نحوها تخترق كل ذرَّات الهواء الساكن... كي تحوله إلى هواء مجنون... صمتت كل استنجاداتها بأهل العالم الأرضي... بدأت تعد نفسها لنهايتها... اقترب طيرها منها أكثر وأكثر... مدَّ يده إليها... كاد يمسك بها... ولكن... هيهات... ارتطمت بالأرض الصلبة... تناثرت قطعاً صغيرة... لو تقدم طائرها خطوة واحدة... لكانت الآن... بين يديه... ولكنها النهاية... رآها أشبه بقطع من اللحم... والدم المسفوح.
الغريب أن نظرتها لحالها الآن تختلف عن نظرتها السابقة... إن تلك الأحجار لم تكن أحجاراً حقيقية... إنها كثبان من زهور ومخمل... غاصت فيها بهدوء... أحسَّت بالسعادة التي فقدتها أثناء سقوطها... تمنت لو يأتي طائرها إليها... هنا... لو يرتطم بتلك الأحجار... سيكون حتماً سعيداً جداً... تذكرت أنه كان متوجهاً نحو الأرض بسرعة مدهشة... كي يلحقها... هل يمكنه يا ترى أن يفرد جناحيه بقوة... ويعود لُيحلّق من جديد... أم أن سرعته ستخونه... ويهوي إلى تلك الأحجار... ويكون أنيساً لها في هذا المكان الجميل... لعل ذلك يحدث... إن كثيراً من الأشياء قد تكون قبيحة في ظاهرها... لكن باطنها سِرٌّ رائع من أسرار السعادة... وربما كانت أشياء مُزوَّدة بكل لونٍ جميل... وهي أم المهالك... تماماً مثل القبر... إما روضة من رياض الجنة... أو حفرة من نار... ومثل أم المعارك ؟!
وبعد لحظات... سمعت جواهر صوتا في الظلام... صوت مزعج... انتبهت على إثره... لم يكن ذلك الصوت سوى صوت الجرس... لقد انتهت حصةٌ من الحصص... وانتهى الحلم الجميل... وزوجها لازال لغزاً أشد غرابة من لغز العجوز ضاحية... إنها الحياة... هكذا صُنِعَتْ... وهكذا صُبِغَتْ... تتضاءل دائماً أمام جهلنا المطبق... بأصغر بدهياتها... ونحن نظن أننا علماء... حكماء... وربما ظن البعض أنهم من علمهم كادوا يكونون أنبياء !!
قامت جواهر من المصلى... لن تبقى فيه فترة أطول... قالت:
-" رب أعوذ بك من شر نفسي... ومن سئ عملي... وارزقني القناعة والرضا... والأمن والإيمان... واختم حياتي بخير"
وصلت جواهر إلى باب المصلى... خرجت معه... وانطلقت إلى غرفة الإدارة... استأذنت للذهاب لمنزلها... فليست قادرةً على إكمال ذلك اليوم الدراسي الصعب... اتصلت المديرة بسائق الباص الخاص بالطالبات... كان رجلاً في الستين... وكانت زوجته تعمل فراشة في المدرسة.
وقبل مغادرة جواهر... ابتسمت لها المديرة... وقالت:
-" ستكونين بخير... اطمئني... أرجو أن أتصل عليك في الليل... لأطمئن على صحتك... الحق يقال يا جواهر... أنت ساكنة في أعماق قلوب الجميع"

 
قديم   #2

مصممة أزياء إسلامية


رد: رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي


رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي

الجزء الثاني

الفصل الثامن

1- منزل جواهر

حتى الآن لم ندخل مع جواهر داخل منزلها... ذلك المنزل الذي يُعَدُّ قصراً مهيباً من الخارج... لكنه من الداخل أشبه بمنزل امرأة محرومة من كل متاع الدنيا.
بوابة الفناء كبيرة مهيبة... فيها الكثير من القطع ذات اللون الذهبي... وعندما يفتح الباب... ترى أرضية الفناء ذات الأرضية الرخامية الزرقاء... وفي اليمين والشمال مكان معد للزراعة... ومسبح بلون سماوي... قد صدئت الأنابيب النازلة من جنباته... ومنذ زمن لم يوضع فيه ماء... وعندما يفتح الباب الرسمي للعمارة... نجده يفضي إلى بهو واسع... بأرضية رخامه ذات لون وردي... مطعمة من أطرافها برخام ذا لون عشبي... لوحات هنا وهناك... تبدو عليها آثار الغبار... وغرفة مكتب... وطاولة طعام خشبية... تكفي لعشرة أشخاص... وأبواب موصدة... تفضي إلى صالات الجلوس... التي لم يدخلها داخل منذ زمن... لا أحد هنا... لنخرج ثانية للفناء... البيت يبدو مرتعا للأشباح... ومن الخارج... هناك باب صغير في الفناء... يرتبط بممر من خلف المكان المعد للزراعة... ويتجه الممر إلى باب صغير... في زاوية المنزل الجنوبية... وعندما نقف أمام الباب... نجد بابا ذا لون واحد... بني داكن... وبإدارة المفتاح في ذلك الباب... يسمع صوت صدى عميق يرتفع لأعلى.
لندخل الآن... كما نرى... ليس أمامنا سوى الدرج الصغير... درج الخدمة... نصعد الدرج... ونصعد... نجد بابا يفضي إلى الدور الثاني... الباب موصد منذ فترة... نصعد لأعلى... ونصعد... ونجد الباب الخشبي... ندير المفتاح... وندخل... صالة صغيرة... بعرض متر ونصف... نستمر في التقدم... هنا تسكن جواهر... سكنها لا يعدو كونه شقة صغيرة... ذات غرفتين ومطبخ... ودورة مياه... إنها في الطابق الثالث... والأخير من العمارة.
بجوار الباب... مرآة... لون الجدران أبيض... لاشيء غير ذلك... الوضع في داخل شقة جواهر المتواضعة... عادي جداً... وعندما يقلب الرائي بصره... لا يجد شيئا يلفت انتباهه... كل المعطيات هنا بسيطة لحد العفوية... تنتهي الصالة الصغيرة... ونرى غرفة النوم.


2- غرفة النوم... من الداخل

علينا أن ندخل الآن إلى غرفة النوم... في شقة جواهر المتواضعة... خطوات فقط... أوه... ها نحن نجد ما كنا نتوقعه... كل شيء بسيط... غرفة النوم ذات السرير الواحد... والأبجورة المكسورة... ولكن... هناك... في إحدى الزوايا... يوجد شيء غريب حقاً... إنه جدير بلفت الانتباه... لنتقدم قليلاً نحوه... بالفعل... غريب... والأغرب... أن توجد فتاة في مثل سن جواهر... تفكر بهذه الطريقة... وتضع ذلك الشيء في منزلها.
جواهر امرأة ذات أفكار كثيرة... ومشاعرها كطيف سابح... قد تلاحظ شيئاً ما... أو تقرأ عن شيء آخر... فيؤثر فيها ذلك الشيء تأثيراً بالغاً... وقد تتأثر أشياء كثيرة في حياتها تبعاً لذلك... الشيء الغريب في تلك الزاوية من غرفة نومها... هو مجسم منقوش من الخشب... وضع ذلك المجسم بدقة بالغة... شكله يشبه المحراب... واتجاهه هو اتجاه القبلة... إن جواهر تصلي صلواتها في ذلك المحراب... ويندر أن تمر ليلة دون أن تصلي جواهر في محرابها نوافل متعددة.
السبب الكامن وراء تبني جواهر لفكرة وضع محراب في غرفة النوم... هو تأثرها بقصة مريم العذراء... عليها السلام... لقد كانت حياة جواهر الموحشة... في حاجة ماسة إلى مؤنس يؤنسها... أكثر الناس صاروا في عين جواهر ذئاباً... إن المؤنس الحقيقي لجواهر... هو ذلك النسيم العليل... الذي يهب على من يقف في محرابه بين يدي الله... أكثر ما تقرأ جواهر في خلواتها تلك... آيات تتحدث عن قصة مريم... وتبكي كلما قرأت من سورة آل عمران: )كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً... قال يا مريم أنى لك هذا... قالت هو من عند الله... إن الله يرزق من يشاء بغير حساب(
الأغْرَبْ... أن جواهر وضعت مجسماً صغيراً لنخلة... وضعته بجوار المحراب... ولا يعدو طول ذلك المجسم المتر والنصف... وكلما قرأت جواهر... قول الله تعالى:)وهزي إليك بجذع النخلة... ( تضع يدها على الجذع... وقد تكون في بعض الأحيان أكثر استعداداً... فتضع بجوارها صحناً من التمر... وكوباً من الماء... وتمد يدها... لتلتقط تمرة... تضعها في فمها... ثم تشرب شيئا من الماء... وعند ذلك... تقرُّ عينها... وتهز رأسها في خشوع... وهي تقرأ الآيات... ولو قدر وهطلت من عينها دمعة... لكانت تلك الدمعة... هي في الحقيقة... إكسير السعادة بالنسبة لها.
كان المحراب والنخلة... من الأسباب التي جعلت جواهر... تهيم بوحدتها تلك... وتأنس بها... وتتلذذ ببقائها عتيقة من كل سُلطة... إلا سلطة الإيمان... كم تمنت جواهر من كل قلبها أن يكون اسمها مريم!... أوه... لو كان الأمر كذلك... لو كان اسمها مريم... لعاشت تَبتُّلهَا ذاك... بانسجام كامل.
في ذلك المحراب العجيب... تَمَّ لجواهر... إكمال عملية طمس وجود الرجال من كل حياتها... وهناك... غَسَلَت ماضيها البائس... بدموعٍ زكية تسكبها دائماً في محرابها.
فكرة المحراب... ليست جديدة على جواهر... أو بمعنى أدق... ليست وليدة هذا المنزل... إن فكرتها هذه... بدأت معها منذ بدأت دراستها في الجامعة... لقد وضعت في منزلها السابق مكانا خاصا بالصلاة... وسمته المحراب... لكنَّ تجسيدها للمحراب والنخلة... وحياة مريم عليها السلام... يبدو أكثر وضوحا هنا... في عمارتها الكبيرة... أو بالأحرى... في شقتها الصغيرة... الهانئة... لدرجة ما.


3- جواهر إلى منزلها

عادت جواهر من المدرسة... مع سائق الباص... بعد تلك المعاناة التي تَبِعَتْ معرفتها لنبأ زواج الطالبة أمل... كانت جواهر متلهفة لمحرابها الطاهر... وصل الباص... ونزلت جواهر... سارت قليلا... وبمجرد فتحها للباب الأرضي للمنزل... انطلقت عبر الدرج بسرعة كبيرة... إنها تحس بما يشبه المغناطيس... يجذبها لمحرابها... ولنخلتها... وعندما وصلت للمحراب... تذكرت أنها تحتاج لأن تتوضأ... بالفعل... توضأت... وغَسل الماء الطهور... آثار الكآبة على ملامحها... وبدأ الإشراق يرسم لوحة كالفلق... بين دفتي وجهها الصالح!
جلست جواهر في محرابها... جميع ذرات بدنها تمثل مشاعر الاستعداد للوقوف بخشوع أمام ربِّها الرحيم.
مدت يدها... حملت المصحف بإيمان... بدأت تفتح أوراقة بهدوء... وبدأت تقرأ: ) كهيعص... ذكر رحمة ربك عبده زكريا... إذ نادى ربه نداء خفياً... قال رب إني وهن العظم مني... واشتعل الرأس شيبا... ولم أكن بدعائك رب شقيا... (.
أحست جواهر وهي ترتل... أن صدرها يتسع حتى أصبح في سعة الكون... وأحسَّت أنه امتلأ إيماناً ويقيناً... حتى فاض على الوجود... نظرت جواهر لأعلى... ثم ابتسمت... أغلقت المصحف... وقامت لتصلي ركعتين... وبعدها صلَّت الظهر... وقبل أن تُسلم في آخر ركعة... قالت بخشوع:
- "رب إني لما أنزلتَ إليَّ من خير فقير "
ثم سلَّمَتْ... وبدأت في الاستغفار... ومالت برأسها قليلاً... وأسندت كتفها على جذع النخلة... ثم استسلمت لنوم عميق.


الفصل التاسع

1- عائلة حسان... وجبة غداء

على سفرة الغداء... يجلس حسان... الغداء الآن يتم تحضيره... والسفرة هي المركز الذي تستدير حوله أسرة حسان... بالطبع... الوجبة تؤكل على النمط التقليدي... كل شيء على الأرض... منها خلقناكم وفيها نعيدكم.
حسان في جانب... وفي الجانب الآخر زوجته... وفي الجهتين الأخريين يجلس أي من الطفلين.
بعد أن اكتمل وضع الطعام على السفرة... بدأ الجميع في الأكل... الطعام موضوع في صحن من الصين... يحوي أربعة أرغفة من الخبز الأسمر... الذي صُنِعَ في المنزل... وصحن من البطاطا المقلية... والمقطعة على شكل شرائح... خمس قطع من الدجاج المقلي... وفي صحن آخر... يوجد الجرجير والبقدونس... وثلاث حبات طماطم... وفي طرف السفرة... تجثم قنينة كبيرة من مشروب غازي... ابتسام تُعارض وجوده دائماً... ومع ذلك... حسان يزعم عدم قدرته الاستغناء عنه.


2- عائلة حسان... مفاجئة

حسان يحمل جناح الدجاجة... يزيل شيئا من الجلد... ثم ينظر إلى ابتسام... ويقول مبتسماً :
-" هناك مفاجأة جميلة... سأتحدث لكم عنها... ولكن... بعد الغداء "
-" هل هي حقاً سعيدة... يا حسان ؟"
- " وهل هناك مفاجآت غير سعيدة؟"
-" نعم يا حسان... بالعكس... في هذا الزمن تستغرب أن تجد مفاجأة سعيدة!"
- " والله... ربما"
مر الوقت... انتهى تناول الغداء... وقام الجميع.
وهناك... في غرفة الجلوس... جلس حسان... وزوجته أمامه... والطفلان يلعبان بجوارهما ... قال في غبطة:
-" تصدقين... لقد غمرت نفسي روحانية عظيمة... أحسست أن الحياة هي حقاً حياة الإيمان... أما حياة المعصية والإثم... فهي خرافة سخيفة... حلم متقلب الأدوار... ولابد أن ينتهي بصاحبه إلى الاستيقاظ "
-" ولكن... عندما يستيقظ... ماذا سيحصل ؟ "
-" لا تقاطعيني يا ابتسام... أرجوك... هناك حبل... وهناك أفكار "
-" أكمل... لن أقاطعك "
-" والله لن أكمل هذا الموضوع "
-" يا ولد! لابد أنني أسعفتك بهذه المقاطعة... أليس كذلك؟... لم يعد لديك ما تقول"
-" في... الحقيقة نعم "
وبدأ الجميع في الضحك...قال حسان:
- " لا... لا... هناك بالفعل المفاجأة... اسمعي"


الفصل العاشر

1- جواهر من جديد

جواهر تسحب باب غرفتها... وتخرج للصالة... لا جديد يشغلها... سوى تداعيات الخبر الذي سمعته في الصباح... عن زواج الطالبة أمل... الساعات تمرُّ بالنسبة لها كسنوات... والفراغ القاتل يهزأ بها ويتحداها... لا يوجد في منزلها الكبير سوى الوحدة والوحشة... والسكون المخنوق.
الأهم من ذلك... أن حَالها الآن أسوأ بكثير من حالها السابق... كانت جواهر تستطيع قتل وحدتها بأعمال كثيرة... منها ما هو ذا جدوى... ومنها ما هو غير ذي جدوى... أما الآن... وبعد التغيرات الصعبة في عواطفها... فإنها لم تعد قادرة على قضاء وقتها بالطريقة السابقة... ومن الصعب عليها أيضاً... أن تقضي على حيرتها التي أصبحت في تزايد.
لم يبق أمام جواهر من عمل يعينها على إطفاء شعلة العذاب... التي انقدحت في عواطفها مؤخرا... سوى الصلاة... إنها هناك... واقفة في محرابها... تدعو الله أن يهديها لأولى درجات السلم... الذي ستصعد فيه... لتكون أكثر استقراراً في حياتها المقبلة... جميع ما حولها يدعو لها أيضاً... فهل ستستجاب دعوتها ودعواتهم ؟!


2- وحدة قاتلة

في صباح اليوم التالي... رنَّ جرس الهاتف باكراً... لم تكلف جواهر نفسها القيام لترد على ذلك المزعج... بالتأكيد هي مديرة المدرسة... إنها تتصل الآن للسؤال عن حال جواهر... رن الهاتف ما قدر له... ثم فقد الأمل في أن ترْتَفِعَ سماعته من مكانها... فَصمت.
الوقت يمضي وكأنه يمتطى ظهر سلحفاة... وجواهر زاهدة في كل شيء مما حولها... حتى الأكل... لم تكلف نفسها الانشغال به.
أخيراً قررت أن تخرج... إن بقاءها بين الجدران الأربعة والسقف والأرضية... أمر يشعرها أنها في حبس مظلم... ولكن يا ترى... من عساها تزور؟... وإلى أين ستذهب؟... ومَنْ مِنَ هؤلاء البشر... المشغولون بأنفسهم حتى الثمالة... لديه الاستعداد ليسمع من هذه المرأة... أو يحاول حل مشاكلها؟:
-" بالطبع... ليس ثمة إلا شخص واحد... العجوز ضاحية... ولكن... ماذا عن ذلك الرجل المُشاكس... صاحب المشاكل... المسمى حسان؟... أوه... إنها مشكلة"
في تلك الأثناء طرأ على جواهر هاجس غريب... لقد بدأت تفكر في التخلي عن علاقتها بالعجوز... بالطبع لو بقى ذلك الرجل السيئ يعاود زيارتها.
قامت جواهر متجهة نحو النافذة... ذات الزجاج العاكس... والمطلة على الفناء...وبدأت تسأل نفسها:
- " ولكن... لماذا كرهت ذلك الرجل... لماذا؟"
أغمضت جواهر عينيها... كان سؤالا مزعجاً لأعماقها... إنها لا تريد أن تسأل نفسها هذا السؤال... إنها لا تدري لماذا... ولكن:
-" أنا لا أثق في مقاصده... نعم... هذا يكفي... كثير من الناس لا نحبهم... لا لشيء... إلا لأن أنفسنا توحي لنا بأنهم يحملون نوايا سيئة... وحسب"
هكذا حدثت جواهر نفسها... وقفت قليلا بجوار النافذة... أشعة الشمس توحي لها بشيء من الحياة... إنها الآن أحوج ما تكون لنسمات الحياة النابضة... لم يطل وقت التفكير... لقد قررت أخيراً أن تذهب إلى ضاحية... بالطبع عليها أن تقوم بشؤون تلك العجوز المسكينة... وبعد ذلك... ستقرر الذهاب إلى أي مكان آخر.


3- هذا المشئوم

تسير بهدوء وسكينة... متجهةً نحو منزل ضاحية... وقبل أن تصل... وضعت يدها على قلبها خوفاً من أن ترى قَدَرَها المشئوم... ذلك الرجل... حسان... أكملت جواهر الطريق... وصلت للباب... وحين دخلت... سلمت على العجوز... وجلست بجوارها... ولكن... يبدو أن العجوز أكثر حزناً وقلقاً... سألتها جواهر:
-" لماذا وجهك حزين يا أمي؟... لم أرك من قبل بهذه النفسية المنزعجة"
-" أوه... حسان... حسان يا بنتي" .
شعرت جواهر بما يشبه الكهرباء... عند سماعها لهذا الاسم... مشاعر غريبة ثارت في أعماقها... فسَّرتها على التّو بأنها مشاعر الكراهية... ثم قالت في توتر:
-" حسان... أوه... نعم... نعم... هل انكشف على حقيقته... يا أمي... هل بدت لك نواياه السيئة... كنت أشعر بذلك من قبل... حدثني بذلك قلبي... وقلبي لا يكذب أبدا... ماذا فعل بالضبط؟"
-" ماذا تقولين يا بنتي؟ لم أسمعك "
-" أقول ماذا فعل بك حسان هذا؟ "
-" نعم ، نعم... إنني يا بنتي لا أدري كيف سأقضي هذا الأسبوع... دون أن أراه "
اضطربت جواهر أكثر... واقتربت ببدنها من العجوز في حيرة... وقالت باهتمام:
-" ماذا تقصدين ؟ "
-" لقد جاءني هذا الصباح... وأخبرني أنه سيذهب هو وعائلته إلى مكة... لأداء العمرة... وقال لي أنه سيستأجر شغالة تقوم بشؤوني خلال هذا الأسبوع... ولكني قلت له شكراً يا بني... ستقوم جواهر باللازم وأكثر... صدقيني... لقد أصبح حسان تماماً كولدي... بل أكثر من ولدي "
أغمضت جواهر عينيها... أحست بما يشبه الصدمة... تتجلجل في خلجات نفسها... لقد بدأت مشاعرها تدخل مرحلة أخرى... هناك شيء ما يتضح شيئا فشيئا... ولكن جواهر تتجاهله... هل يمكن أن تكون مشاعر الكراهية... التي شعرت بها جواهر من قبل... تجاه حسان... هي مشاعر مزيفة كاذبة... تكذب بها جواهر على نفسها؟.


4- هل ثمة خداع ما؟

هل يمكن أن تكون جواهر... قد أحبت شخصيَّة حسان النادرة... وكانت في الوقت ذاته... توهم نفسها أن مشاعرها تلك... ليست سوى مشاعر الكراهية؟... هل أوهمت نفسها بكرهه... وبالإيغال في كرهه... لأنها تعرف أن حبها له... وإعجابها به... ليس له أي معنى؟.
إن مشاعرها الآن كالقِدْرِ الذي يغلي ويغلي... لم تعد جواهر قادرة على معرفة حقيقة ما تشعر به... لابد أن تَتَنَاسى حسان... وتخرجه من حياتها... إن كانت تكرهه... فلهذا عليها أن تتناساه... وإن كانت لا قدر الله... تحبه... فيجب أن تكرهه... ثم تتناساه.
عليها أن تمثل تماماً دور الثعلب... الذي سئل مرة... عن سبب تركه لأكل العنب... الذي لم يستطع الوصول إليه... فقال:
-" أوه... العنب... أنتم لا تعرفون... إنه مُرّ وحامض"
على جواهر أن تتناسى كل مشاعرها نحو هذا الرجل... وأن تجزم أنه حامض... وأنه سئ للغاية.
في أثناء تلك الخلجات... المنبعثة داخل نفس جواهر... قاطعتها ضاحية وهي تقول:
- " لو كان كل الناس مثل حسان... ومثلك يا ابنتي... لكانت الدنيا بخير... لقد ذهب هو وأسرته إلى العمرة... ما شاء الله عليه... دين وخُلق وأدب وصلاح... الطيبات للطيبين" .
مسمار من نوع ما... دخل في أذن جواهر...لقد أحست بما يشبه الكَّية الغائرة... تُكوي بها نفسها الشفافة... كادت تنفجر بالبكاء... ولكنها قامت مستأذنة وانصرفت... ستتغيب قليلا... ثم تعود.


5- زيارة خاصة

عادت جواهر إلى منزلها... قضت وقتا في عمل ما... وبعد صلاة العصر... قررت الذهاب لزيارة أخيها... لقد علمت أنه حضر مع عائلته لقضاء عدة أيام هنا... في منزله الكبير.
صحيح إن مشاعره نحوها أشبه بالجليد... ولكنه أخوها على كل حال... إنها لا تجد أحداً أقرب لمشاعرها... وأقدر على مسح همومها منه.
انطلقت جواهر إلى أخيها سيراً على الأقدام...كان الهواء الطلق... وأشعة الشمس الباردة... تمسح في هدوء... شيئا من همومها... أحست أن أشجار الشارع تحادثها... سمعت صوت العصافير الجميلة وهي تترنم... رأت غراباً أسوداً يطير محلقاً في الجو... لم تلق بالا للغراب... طربت لهذه الطبيعة الجميلة... ولكن... لماذا الغراب؟... لا مشكلة.
لم تلبث أقدام جواهر... أن أوصلتها لِلْفِلّة الجميلة... التي يسكنها أخوها... وما أن دلفت مع الباب... حتى أحست بضيق الحياة المادية... هنا شيء من الرقي الصارخ... ولكنها أحست أن قلبها يدخل سجناً مُنَمَّقاً... السجن هو السجن... وما الفرق بين سجن منمق وسجن بسيط؟... مادام كل منها سجن!... لحظات... هاهو أخوها... إنه يستقبلها بغير قليل من الحنان الجاف والمصطنع.
لقد طربت أيما طرب لهذا الحنان... إنه نصيبها وحظها من الحنان... لقد حُرمت من الحنان بالكلية... لذا فإن قطرة واحدة منه... حتى ولو كانت عكرةً مرةً... ربما كفتها... وربما أطفأت شيئاً من ظمئها.
مشاعر أخيها طارت في صوب شيء آخر... إنه يشعر بشيء من القلق... لقد خشي أن يكون مجيئها من أجل المطالبة في شيء من العقارات... أو الأملاك الأخرى التي يبدو أنها لم تُقَسَّمَ بينهما بشكل صحيح... وعندما علم منها أنها لم تأتِ إلا بهدف الزيارة... أحس بغير قليل من الراحة.
لكن التقطيب لم يزل مرتسماً على وجهه... لم تلمه جواهر على ذلك... إنها تحدث نفسها.
- " هكذا حال رجال الأعمال... لقد سلبتهم الدنيا كل أحاسيسهم... ربما تحول أحدهم إلى آلة لا تعرف إلا المال والمصالح"
ابتسم الأخ وبدأ يقص عليها قصصاً خرافية كثيرة... عن الجن... وأيام زمان... وشيئا عن التجارة.
أسعفه رنين الهاتف الذي جعله يسرع ليرد عليه... وعندما طلبه المتصل في الخارج فرح كثيراً... واستأذن منصرفاً.


6- ضيفة ثقيلة

بقيت جواهر وحدها في الصالة... فترة قصيرة... ثم أقبلت عليها زوجة أخيها.
جواهر تعرف زوجة أخيها منذ الصِّغَر... وتعرف عنها الكِبْرَ والتَّعالي... الجفاف هو الخلق الذي يبدو فطرياً على مُحيَّا هذه الحماة... والترحيب بارد... وبعد الاستقبال بدأت الثرثرة واستمرت... مر وقت قصير... وبدأ التضرم واضحاً على ملامح جواهر... الواقع أنها لم تكن قادرة على تحمل المزيد... لذا استأذنت... لتُبقي على ماء كرامتها الذي كاد يتبخر.
قالت زوجة أخيها:
- " أبقي للعشاء... سنكون سعداء"
- " شكراً أنا سعيدة برؤيتكم بخير"
- " ومن سيوصلك إذن؟"
- " اطمئني... قدماي ستوصلاني "
- " قدماك؟... ماذا تقولين... أين سواقك؟... إياك أن تقولي إنه ليس لديك سوَّاق.... وسيارة؟ "
- " كلا... أنا لا أحتاج كل ذلك "
- " غريب... الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه... ومع أنه لا ينقصك المال... لو لم تكوني ثرية لطلبت من أخيك أن يعطيك قيمة السيارة والسواق"
- " شكراً... خيركم عم الجميع"
قالتها بشيء من الغضب... لقد أحسَّت جواهر بحرج تلك الكلمات... وبأبعادها الغامضة... ولكنها آثرت عدم الرد.


7- هناك... قسط من السعادة

خرجت جواهر من منزل أخيها... حيرة قلبها مضاعفة... وحَنقُها على تلك الحياة يزداد... حياة يلهث أهلها خلف الأموال والمظاهر البرَّاقة.
كانت تسير بخطوات كسيرة داخل فناء منزل أخيها... متجهة للخارج... لم تطل تلك الخطوات... لقد وصلت للبوابة... ودّعت البوابة... وخرجت... واستمرت في السير... حيرتها تُجبرها على النظر نحو السماء... وحزنها يلزمها أن تُنَكَّس رأسها للأرض... لازالت بمحاذاة السور الذي يحيط بفيلا أخيها... شيء ما أشعرها بشيء من الأنس... لقد ارتفع صوت المؤذن نديَّا... إنه الأذان لصلاة المغرب... هكذا غربت الشمس... وهكذا انزاح ثقل يومٍ ثقيل... جثم على صدر جواهر... وكاد يُقطِّع نياط قلبها.
والآن أذَّن المؤذن... إيذاناً بدخول الليل... لعل صوت المؤذن جعل جواهر تعيد شيئاً من حساباتها المضطربة... الله أكبر... الله أكبر.
طأطأت رأسها حتى لامس ذقنُها صَدْرَها... يجب أن تتناسى كل شيء... عليها أن تتغلب على هموم هذا اليوم الثقيل... وأيضا على الهموم التي دخلت قلبها يوم أمس... يجب أن تأخذ قسطاً من الطمأنينة.
رفعت جواهر رأسها قليلاً... كم كانت سعادتها عندما طالعتها لوحة صغيرة... مكتوب عليها "مصلى النساء"!... إنها الآن بجوار المسجد... دَّبت مشاعر الهدوء في جسدها شيئا فشيئا... عندما رأت باب المصلى مفتوحاً... أحست أن كلَّ أبواب الرحمة قد فتحت أمامها... لم تشعر إلا وقدماها تحملانها في خفة... وتدخلانها مع باب الرحمة الواسع... باب بيت الله... المسجد.
ولجت جواهر وهي تقول:
-"اللهم افتح لي أبواب رحمتك"
توضأت في مغسلة صغيرة عند المدخل... ثم تقدمت قليلاً... هناك سجاد بلون أحمر... النور خافت... تقدمت أكثر حتى صارت في الصف الأول... وقفت بخشوع... رفعت يديها لأعلى... الله أكبر... صلت تحية المسجد... وبعد أن سلمت... بدأ لسانها يلهج بأذكار المساء... أحست أن منظفاً قوياً ينظف قلبها... كل الهموم بدأت تتزلزل وتذوب... جواهر لم تكن تستشعر مدى قيمة الصلاة... ولم تكن تحس بأهمية أن تكون الصلوات خمس مرات في اليوم... بالطبع...لم تكن المسألة عبثاً... أو ارتجالاً كلا... إنها حقيقة ثابتة... إن الإنسان أياً كان... فهو في حاجة ليقابل خالقه... وليجدد غسل أدران الدنيا.
كانت نافذة صغيرة في المصلى تفضي إلى الخارج... وكان بمقدور من ينظر إليها من الداخل وهو جالس أن يرى منارة المسجد... نظرت جواهر إلى الخارج إنها صورة بديعة... تلك المنارة تشق الفضاء الباهر... أحست جواهر أن المئذنة تطول وتطول.


8- من أنفسكم أزواجا

فجأة... بدأ صوت المؤذن بالإقامة... الله أكبر ، الله أكبر... وقفت جواهر بهيبة أمام هذه الكلمات... خاصة عندما رأتها تنبعث من أعلى المنارة... عن طريق أجهزة التكبير... أحست أن تلك المنارة أشبه بإصبع طويلة... تشير إلى أعلى... لتقول للناس... السعادة هناك... في الأعلى... ليست أبداً في الأرض... كأنها تقول... إن القلب إذا ارتبط بعلوي... وصل لقمة السعادة... وإذا تدنى إلى فتات الدنيا... فإنه يسير وراء السراب... تذكرت جواهر في تلك الأثناء... زوجة أخيها... حَدَّثت جواهر نفسها:
-" إنها مسكينة... السعادة هنا"
وقفت جواهر على قدميها كالمشدوه... تقدَّمت لتنظر إلى المنارة بشكل أوضح... ثم قالت:
-"أشهد أن لا إله إلا الله"
دخلت جواهر في صلاتها... وأحست أنها تدخل جوانب عالمٍ فسيح... كانت تحس أن كل آية يقرؤها الإمام إنما هي المخاطب الوحيد بها... قرأ الإمام ) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ( أحست أنها لأول مرة تسمع مثل هذه الآية... إن تلك الآية تبعث الآن بإيحاءات جديدة... إلى ذلك القلب الحُرّ ... لقد فُتحت أمامها الآن آفاق جديدة... لهذه الحياة الغريبة... إن هناك حقيقة عميقة... هي من أهم أسرار الحياة الدنيا... كانت تلك الحقيقة غائبة عن ذهنها... إنها حقيقة المودة والرحمة... حقيقة العلاقة الزوجية... السكن إليها... والسكن إليه .


الفصل الحادي عشر

1- حديث النفس

جواهر جالسة في سريرها... تنظر بهدوء إلى السقف... لقد فُتحت أمامها الورقة... تلك الورقة التي طُويت منذ زمن... وأقفل عليها في القلب الأبيض... ونُسي مفتاحها... ولكنها فتحت الآن... وعلى جواهر أن تقرأ فيها شيئا مؤلما... يتعلق بزواجها الأول.
سطور متعرجة كالأفاعي... وجواهر تقرأ وتقرأ... ثم تتأمل في أبعاد عميقة لذلك الزواج... ثم تصل للنتائج... نتائج مذهلة على نفسها الصافية... وعلى مستقبلها الشاب.
مر وقت طويل... لا يعلم امتداده إلا الله... وهناك... وجدت جواهر في قلبها ورقة أخرى... كانت الورقة... أصغر بكثير من الورقة الأولى... ولكنها بالنسبة لجواهر... ذات أهمية بالغة... لقد قرأت فيها مشاعر ليست بالقديمة... ولكن جواهر تناستها عن عمد... بل طمستها من وجدانها طمساً... تلك الكلمات التي قرأتها جواهر في ورقتها الجديدة... كلمات مضيئة جداً... إلى حد التوهج... ولكنها مغمورة بمشاعر حالكة الظلام... نظرت جواهر إليها بشرود... لقد أحست أنها كتبت بماء الذهب الخالص... أو بأشعة النور الساطع ... " رجل يخاف الله "... " وحسن الخلق "
الله... ما أجملها من كلمات... وما أروع رنينها... تساءلت جواهر مع نفسها... وبكل حياء وهمس:
-" وماذا لو جرَّبت الفتاة الوحيدة... القابعة كتمثال فخاري... في قصرها الكبير... ماذا لو جربت حظها مرة أخرى... مع زوج آخر... أليس ذلك أمراً يرضاه الله... ألا يمكن أن يكون ذلك الزوج معيناً لها في سيرها بين طرقات الحياة المظلمة... ألا يمكن أن يعينها أيضاً على طاعة الله... ألا يمكن أن يقوم ذات ليلة ليصلي ركعتين... أثناء هجيعِ كل شيء... ثم يوقظها بهدوء... ويقول لها:
-" جواهر... جواهر ... "
-" نعم "
-" جوهر ... جواهر ... ياقوت... مرجان... لؤلؤ هـ هـ"
-" نعم... ماذا... ماذا... أيها المزعج ؟"
يُدخل معلقة صغيرة... في فمها المفتوح... ربع فتحة... تتذوق جواهر طعم العسل... الذي كان في طرف المعلقة الصغيرة... ثم تبتلعه.
إنها عادة زوجها دائماً... هناك قنينة عسل موجودة بجوار السرير... وكلما أراد منها أن تستيقظ... يضع قليلا من العسل في الملعقة الصغيرة... ثم يضعه في فمها... الذي اعتادت أن تنساه مفتوحا ربع فتحة مع نومها... هذا هو أسلوبه في الحياة... لا حيلة... فتحت جواهر عينيها وقالت:
-" ماذا تريد "
-" فقط طلب صغير جداً "
ابتسمت جواهر في دلال وهي تقول:
-" عيناي لك "
-" ما رأيك يا حبيبتي... أن نصلي لله ركعتين... في هذا الظلام؟... يالله... ما أجملهما... ركعتين!... حتما ستضيئان في سماء الكون المظلمة... وستكونان كنجمتين جميلتين... عندما تصعدان "
جواهر تنظر نحو زوجها في دهشة... إنها تريد أن تقوم لتصلي... ولكنها تحس أن نظرها لوجهه المؤمن... عبادة !... وأي عبادة !... قال لها :
-" هيا قومي... صدقيني يا جواهر... كلَّما تذكرتُ أننا سننام في قبورنا كثيراً... لا أحرص على أن أنام هنا... أمامنا عصور من النوم... ثم سيكون لك مفاجأة بعد أن تقومي... وتصلي"
-" وما هي؟ "
-" لن أقول لك "
قامت جواهر أثناء ذلك لتتوضأ... توضأت وأكملت صلاتها... في ركعتين خاشعتين... بالفعل... لقد أحست أنها حازت سعادة الدنيا جميعاً ... وفي أثناء ذلك... سمعت زوجها يناديها:
- " تعالي لأخذ الهدية... "
قامت جواهر... وانطلقت خفيفة إليه... إنه هناك... هناك... رأته أخيرا... هاهو... لقد أعد كوبين من الحليب... وصحناً متوسطاً من التمر... وبدأ يأكل... ثم ينظر إليها... ويبتسم ... قالت في دعابة:
- " ما هذا المزاح؟... حليب؟... وفي نصف الليل... يا لله العجب! "
بدأ يضحك من كل قلبه... وهي تضحك من كل قلبها... لقد بدأت عيناه تدمعان من الضحك... وعيناها أيضاً تدمعان من الضحك... رفعت جواهر يدها لتمسح الدموع... بظهر كفها... ولكن... كم كان ذلك مؤسفا!... لم تكن الدموع المنهمرة هناك... هي دموع الضحك... لمِنظرِ زوجها... وهو يشرب الحليب في منتصف الليل... ولكنها دموع بكاء... بكاء مر... على واقع مرّ... ولم يكن زوجها ذاك إلا حلماً من أحلام يقظتها... التي بدأت تحاصرها كثيرا في هذه الأيام.
فالواقع أكثر شحاً من أن يمنحها هذا الزوج... وبكل هذه السهولة... لن يمنحها واقعها سوى الأحلام أو الدموع... وإن أوهمها ساعة أنها دموع ضحك... فستكتشف قريباً إنها ليست سوى دموع الحرقة والمرارة... جواهر عندما فتحت عينيها... ومسحت دموعها... كانت أفكارها أكثر نضجاً من ذي قبل... إنها الآن تفكر بجدية في موضوع هذا الزواج الوهمي... فهل تراها ستدخل في دوامة جديدة... تُذهب ما تبقى من هدوء قلبها... ومن ماء عينيها... أم أن قَدراً خارقاً سيأخذ بيدها إلى شاطئ الأمان؟!.
رفعت جواهر يدها إلى السماء... وبدأت في الدعاء... ولكن... من أين لها برجل متدين... له أخلاقٍ حسنة... ونفس طيبة؟!.
طال التفكير... وفي النهاية وصلت جواهر لخاطرة... لعل فيها بداية الحل... الرجل الوحيد... الذي ربما سيجتهد لمساعدتها... هو الشيخ جابر...كثيرا ما تسمع بأنه رجل ثقة... وتسمع من بعض النساء عن حسن أعماله... وتبنيه لمشاريع خيِّرة... تعود بالنفع على الحي.
اطمأن قلب جواهر لهذه الخاطرة... وعزمت على البدء في العمل الجاد... لطلب المساعدة من الشيخ جابر... وللتِّوِّ... اتجهت إلى مكتبها الصغير... وأخرجت من أحد الأدراج ورقة... وبدأت تسطر عليها :


2- الرسالة

القلم الفضي السائل... يكتب باللون الأزرق المائل للسماوي... أحرف معاناة جواهر...



بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،
أرسل إليك هذه الرسالة... يا شيخ جابر... وأنا أعتمد على الله أولاً... ثم أطلب مساعدتك ثانياً... في حل مشكلتي... ومشكلتي تتلخص في التالي:
أنا فتاة شابة... وأبلغ من العمر 27 عاماً... تزوَّجتُ قبل سنوات... من قريب لي... عشت معه عيشة الحمل الوديع... مع الوحش الضاري... ظلمني وأساء معاملتي... لقد بقيت معه عاماً هو أبشع عام قد يُقدَّر لامرأة أن تعيش مثله مع رجل... لم أنجب منه... وأنا مسرورة لذلك مع أني لا أعرف سبب عدم الإنجاب... بقيت خلال تلك السنة... أتجرع الأمرين... إلى أن أنقذني الله منه بالطلاق... وقد كان السبب في عدم التوافق... هو أنه رجل لا يخاف الله... وهو أيضاً سيء الخلق... وذات مرة قال لي:
-"أنت لا تساوين شعرة في إصبع قدمها"
قلت له وأنا أبكي:
-" من هي؟"
ذكر اسماً غريبا... بدا لي وأنه اسم فتاة يقابلها خارج إطار الحياة الزوجية.
كنت أحاول تناسي كل شيء... صبرت على معاشرته المرَّة... إلى أن بلغ السيل الزبى... ولم يكن عند ذلك من حل لمشكلتي معه... إلا الطلاق... حفاظاً على ديني وكرامتي وشرفي.
أنا أعمل معلمه في إحدى المدارس الثانوية... ولكن الأمر الذي قد لا يكون مهماً بالنسبة لي... هو أني امرأة ثرية... وأملك عمارة... أسكن في دورها الثالث... وحيدة وحدة الوردة البرية... في الصحراء القاحلة... لي أخ... ولكنه مشغول دائماً... ولا يوليني أي اهتمام... ومقابلتي له لا تعدو عن كونها في الأعياد أو في مناسبات تعدُّ على الأصابع.
لا أريد أن أزكي نفسي... ولكني أعمل جاهدة كي يزيد خوفي من الله...وحُسْن خلقي.
منذ أربع سنوات تقريباً... وأنا أسير على برنامج ثابت... أحسست خلاله باستقرار جزئي في حياتي... فأنا أقضي وقتي بين أعمال المدرسة وبين العبادة... وقد أكتب بعض الخواطر والمقالات... أو أقرأ في مجلات محافظة... أو أقرأ القرآن... وقد أقضي بعض الوقت في زيارة بعض صديقاتي... أو بعض الطالبات .
ولكن في الأيام الأخيرة... حصل موقف قلب حياتي رأساً على عقب... لقد كنت أنفر من الزواج بعد تجربتي الفاشلة مع زوجي الأول... ولكن حساباتي تغيرت الآن بشكل مفاجئ... إن نفوري من الزواج تحول إلى رغبة كبيرة... خاصة بعد قراءتي لقوله تعالى : )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها... وجعل بينكم مودة ورحمة(
أيقنت أنه يوجد في هذه الحياة رجالٌ من طراز خاص... يخافون الله... وأخلاقهم حسنة .
وبدأت أشعر أنني بحاجة إلى من يقف بجانبي في هذه الوحدة... وفي هذه الحياة الموحشة... شعرت أنني في حاجة لمن يعينني على الطاعة... ويبتسم في وجهي ابتسامة الرضا... ويشكر لي جميلي الذي أسديه إليه... ويغفر لي قبيحي... ويدعو لي عند كل صلاة .
لقد أحسست يا شيخ جابر... أنني في حاجة إلى من يمسح دمعتي... ويُربِّت على كتفي... عندما أشعر بالضيق أو المرض... ويشاركني فرحتي... كلَّما غمرتني السعادة.
إن حياتي مع زوجي السابق... تشبه الجحيم... وكان طلاقي منه هو كوة فتحت لي إلى الجنة الموعودة... كي أعيش فيها بعيداً عن الرجال... وأنا الآن... أحس أنني في جحيم الوحدة... وأن الكوة المفضية للجنة... هي زواجي من رجل يخاف الله... ويكون حسن الخلق... فهل يا ترى سأجده؟!.

التوقيع


ابنتك جواهر عمر


المنزل المقابل لتموينات البيت السعيد



3- الرسالة... والشيخ جابر

انتهى الإمام من صلاة العصر... واسْتَدار ليقابل بوجهه شطر المصلين... وبعد الانتهاء من التسبيح... تقدم إليه رجل في الخمسين من عمره... وقف الإمام... وتصافح الرجلان مصافحة حارة... وبعدها أدخل الرجل يده في جيبه... وأخرج رسالة... ووضعها في يد الإمام... استغرب الإمام لهذه الرسالة... كاد أن يسأل الرجل عن حقيقة المُرسِلِ... وموضوع الرسالة... وعن قضايا أخرى... ولكن الرجل عَاجَلَه مستأذناً... وانصرف.
قلَّب الشيخ جابر تلك الرسالة... لم يكن عليها من الخارج أيُّ معلومات... سوى هذا السطر:
"تُسلَّمُ بيد الشيخ جابر".
وضع الشيخ جابر تلك الرسالة في جيبه... وبعد أن خرج جميع المصلين من المسجد... اتكأ في المحراب... وفتح الرسالة... وبدأ بالقراءة... كان يتابع السطور بكل حيرة... وبكل قلق... لقد آلمه هذا الواقع البائس.
لم ينتهِ من قراءة الرسالة... إلا وقد برد خدَّاه من دمعتين جرتا عليهما... وعندما مسحهما بإجراء يده على خديه... ثم على لحيته البيضاء الطويلة... قال في تأثر:
-" اللهم أعنّي على رفع بلائها... يا رب"
بقى الشيخ جابر في محرابه... إنه يفكر ويفكر... لابد من إيجاد رجل مناسب... ولابد من إقناعه بالتقدم... لخطبة هذه الفتاة.
استمر الشيخ جابر طويلاً وهو يفكر... وكلما لاحت في ذهنه صورة لرجل ما... يتذكر الشرطين : "رجل يخاف الله" "وحسن الخلق"... الرجال يتساقطون أمام هذين الشرطين النادرين... جلس الشيخ جابر طويلاً في المسجد... مرت ساعتان وكأنهما دقيقتان.
قام بعد ذلك... وانصرف إلى منزله.
مرت الأيام متثاقلة كعادتها... وجواهر تنتظر الفَرَجَ الذي بدا وأنه يخرج من صخرة صالح ... وجابر يحاول إخراج الفَرَجَ بكل قوة... ولكن لا تُمكنه الفرص الصعبة من ذلك... ومرت سبعة أيام عجاف... أشبه بسنوات مصر... حينما حكمها العزيز... وتحولت سنابل الأمل التي نبتت في قلب جواهر... إلى سنابل يابسات... وأُكلت كل البقرات السمان... في تلك الأيام الصابرة... وبقيت البقرات العجاف... ترسم أشباح الموت في كل مكان.
جلس الشيخ جابر في المسجد... وبعد أن أدى صلاة العصر... في أحد الأيام... كان ذهنه مشغولا... وكان يتساءل:
-" مَن يا ترى ستبدو صفحته بيضاء... ليتقدم للزواج من هذه المسكينة؟!... لا... لا أحد... لا أحد"


4- المُخَلِّص

قبل أذان المغرب بقليل... الشيخ جابر جالس هناك... بجوار المحراب... موليا وجهه عكس اتجاه القبلة... إنه يسبّح بمسبحة ذات حبات خشبية... وينظر هنا وهناك... وبكل خشوع... دخل رجل مع باب المسجد... بدأ الشيخ جابر يراقب الرجل... الذي يتقدم بهدوء... مرت لحظات... قال الداخل:
- " السلام عليكم يا شيخ جابر... هل أؤذن؟... لقد حان وقت الأذان"
اندهش الرجل الداخل... بسبب تلك النظرة النارية... التي بدأ الشيخ جابر يقذفه بها... وبسبب عدم رده السلام... تسوَّرت على فؤاده خلجات غريبة... مُؤدَّاها:
-" لماذا لم يرد الشيخ جابر على سلامي حين سلَّمت؟... ولماذا يكاد يطعنني بنظراته الحادة؟ "
لم يدم الصمت طويلا... لقد انفرج فم الشيخ جابر بابتسامة تتقاطر سروراً وغبطة... ثم صرخ قائلاً:
-" لقد وجدتك... لقد وجدتك... أنت الذي أبحث عنه"
وقام الشيخ جابر في حال من دهشة الرجل...ومد يده... وصافحه... تم رفع الشيخ جابر قدميه قليلا ليطيل نفسه... ثم قبل رأس ذلك الداخل... وهو يقول:
-" أنت الحل للُّغْز الصَّعب... الذي استعصى حله عليَّ أسبوعاً".
نظر الرجل في دهشة... وظن أنه في حلم سخيف... أو أن الشيخ جابراً... لا قدر الله... أصيب بشيء من المس:
- " أعوذ بالله... الشيخ جابر...الذي يقرأ على الناس... ويعالجهم بالقرآن... يصاب بالمس... غريب"
تحركت شفتاه بعد ذلك بالقول:
-" ماذا تقصد... يا شيخ جابر؟"
-ابتسم جابر وهو يقول:
-" ما دُمت تريد الأذان... أذِّن أولاً... وبعد الصلاة... سأنبئك بالقصَّة كاملة"
مر الوقت سريعا... وبعد انتهاء الصلاة... وانصراف المصلين... بدأ الرجل ينظر إلى الشيخ بنصف عين... وقلبه يتناهشه قلق وحيرة... ونظر إليه الشيخ جابر... ودعاه قائلاً:
-" تعال يا حسان... الموضوع خاص وسري... للغاية"
اقترب حسان في قلق... وجلس بجوار الشيخ... وقال:
-"سري للغاية... أنا والله قلق من هذا الموضع... خيراً إن شاء الله"
-" أولاً أين أنت؟... منذ مدة لم أرك "
-" أوه... صدقت... لقد ذهبت لأخذ العمرة... ولم آت إلا بالأمس... ولكن... هل هذا هو الأمر المهم؟"
-" هل لك يا حسان بأجر كالجبال؟... لا... بل أعظم من الجبال... بإذن الله"
-" أجر عظيم !! ماذا تقصد؟... لا أظن أئمة المساجد... يوزعون الأجر !!"
-" أعلم ذلك... هداك الله... ولكن... أقصد أن أدلك على طريقٍ يوصلك إلى هذا الأجر"
-" أوه يا شيخ... كل إنسان في حاجة للأجر... ولكن... قد تقف الحواجز عائقة تمنعه من تحصيله... الشيطان... الشهوات... الهوى... الكسل...التسويف... أشياء وأشياء... ولكن... ما هو يا ترى هذا الأجر يا شيخ؟"
-" سأبدأ بذكر حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( المسلمون في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد... إذا اشتكى منه عضو... تداعى له سائر الجسد... بالسهر والحمى)".
بدأت الريبة تُداخل ذهن حسان.


5- حسان... وجابر

حسان الجالس أمام الشيخ جابر... هو بعينه... زوج ابتسام... وهو صاحبنا السابق...
ولكن... ماذا يدور بالضبط في ذهن الشيخ جابر... لقد ظهر لحسان أن هناك مشكلة ما... هناك قضية فيها أحْمال وأعباء... وأن عليه أن يحملها بصبر... في سبيل رفع الضوائق عن الآخرين... في الحقيقة لقد فرح حسان... عندما علم أن هناك شيئاً من البذل... من أجل مساعدة الآخرين... ولكنه أيضاً أحس بالقلق يتزايد في قلبه... مع نظرات جابر... قال الشيخ جابر:
- " ألم تسمع بالحديث الذي يقول : (من فَرَّجَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا... فَرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)؟"
هنا بدأ الخوف يسيطر على حسان... لم تعد المسألة مسألة مساعدة... إنها كربة... يا ترى هل ستكون كربة مالية... أو جسمية؟... ما العمل؟... اللهم أعن يا رب!... قال حسان:
-" تكلم يا شيخ جابر... لقد أحرقت أعصابي"
-"الخبر أيضاً سأخبرك به على شكل حديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته... فزوجوه)"
-" زوجوه؟!... زوجوه؟!... من تقصد"
-" أقصد حسَّان... أنت يا حسان ستتزوج "
-" أنت ياحسان... ستتزوج؟... تتزوج!... هـ... هـ...هـ... أنا أتزوج!... ماذا؟... أنا أتزوج؟... ماذا يا جابر؟... أنت تمزح... ولكن مزحك جميل... هـ هـ هـ... بالطبع"
-" اسمع يا حسان... أنا لا أمزح... الواقع أن هناك امرأة صالحة... ومتدينة... تطلقت من زوجها... بأسباب سوء ذلك الزوج... وعدم تقديره لمشاعرها... كان رجلاً لا يخاف الله... وكان سئ الخلق... وبقيت تلك المرأة سنوات بعد أن طُلقت... عاشت أثناء تلك السنوات عيشة الزهد والورع... وأول شيء زهدت فيه... هم الرَّجال... بل إنها لم تزهد فيهم فحسب... لقد كرهتهم... كانت تَرَى أحدهم... فتتذكر زوجها الأول... وتتذكر في الوقت ذاته... إبليس... إن حياتها تحولت إلى حياة أشبه بحياة راهب"
-" أوه يا شيخ... لا تكمل... قطَّعت قلبي... وأنا كما تعلم... لست رأيساً لمشروع ابن باز الخيري... كي أجد لها زوجا "
-" لا مشكلة... أنت تملك الزوج... أنت يا حسان... بالطبع... إنها ستقبل بك... لقد أوْكَلَت الأمر إلي... وأنا مقتنع بك"
بدأ حسان ينظر هنا وهناك في دهشه... ثم ضحك...وبعدها قال:
-"ماذا تقول أنت... أنا أتزوجها... لا يا حبيبي... كل شيء إلا هذا"
-" لا مفر... أنت المرشح الوحيد... أرجوك... عليك أن توافق... بالتي هي أحسن"
-"يا شيخ جابر... عليك أن تعود لرشدك... وعليك ألّا تتعب نفسك معي... الأفضل أن توفر كلامك هذا... لتقنع به غيري... فأنا في الشرق... والزواج بها في الغرب".
-"لا أظن أن لديك أسباباً تجعلك تتحدث معي بهذه الطريقة... وددت لو أبديت حماساً أكبر لحل هذه المعضلة... المرأة تتعذب"
-"معضلة؟... لو تزوجتها لوقعتُ أنا في المعضلة... وأوقعتها معي... أنا عاقل... وأنا أدرى بمصلحتي"
-" لماذا يا حسان؟... لماذا تماطل في عمل الخير؟"
-" يا شيخ... خذ على سبيل المثال... المصاريف... المصاريف لصاحب الدخل المحدود... هي أقل المعضلات... وهناك الكثير من المشاكل"
-" اطمئن من هذه الجهة... أولاً فالرزق بيد الله... ثانياً فهذه المرأة ثرية جداً"
-" ثرية!... ماذا تقصد؟"
-" لديها عمارة... وملايين"
-" ملايين ؟!... أعوذ بالله... أنا لا أحب المال... المال فتنة... ثم أنا أيضا لا أحب الأثرياء... الثراء يصبغ أهله بصبغة الترف... التي تجعل منهم أنانيين... ومتكبرين... نعم... أنا لا أحب الأثرياء... وما دامت ثرية... فهذا يزيد من إصراري على الرفض"
-" اسمع يا حسان... المسألة جداً بسيطة... أنت تُصَعِّب الأمور وتعقّدها... وسأشرح لك المسألة"
-" يا عم جابر... أنا أعطيتك من البداية رأيي... وأرى أن تَضَعَ جهدك في المكان المناسب"
-"اسمع يا حسان... أنت ستتزوج هذه المرأة... يعني ستتزوجها "
-" وسأطلق زوجتي الأولى... والله عال... تكحلها لتعميها"
-" لا إله إلا الله... لم أتوقع أنك صعب بهذه الطريقة... أقول يمين تقول يسار... يا عمي... لا تطلق ولا يحزنون... ستتزوج هذه المرأة... ولن تكلف نفسك سكناً ولا مصاريف... والسلام"
-" ماذا تقول أنت؟!... أي سكن... وأي مصاريف... أنت في واد وأنا في واد آخر... لا يمكن أبداً أن أتخيل ما تقوله... أو أصدقه"
-" يا حسان... المسألة سهلة... وأنت ستعينها على تخطي عقبة كئود... وقفت في طريقها القاسي"
-" أنا سأصاب بالدوار... أنت تمزح... أليس كذلك؟"
-" أمزح؟... وأنا ذو شيبة؟... هذا موضوع جاد"
-" لم أقصد ذلك... ولكن... حتى الشيبان يمزحون"
-" فلماذا تتهرب إذن؟... هل أنت موافق؟... قل "
-" لا ... حتى لو حصلت معجزة... تلتصق فيها السماء بالأرض "
-" انظر يا حسان... هذه المرأة رمت الكرة في ملعبي... كما يقول الصحفيون... مع أني لا أقرأ في الصحف... إلا كما يقرأ رجل عاقل... ما يكتبه المراهقون على الجدارن... يا حسان... هذه المرأة عابدة... النساء العابدات اليوم مثل الشعرة في العجين"
-" أي شعرة؟... وأي عجين؟... وما دخلنا بالعجين؟"
-" صدقت يا حسان... لقد تداخلت كل الخلايا في عقلي... لم أعد قادراً على تجميع الكلام... أقصد أن النساء العابدات... في هذا الزمن... مثل... مثل الشعرة البيضاء ... في ... "
-"في لحيتك يا عم جابر"
-"لا لا... إنما في لحيتك أنت... أرجو أن تكون أكثر جدية... لا تستخف بهذا الكلامٌ... كما ترى... إنه كلام له وزن"
-" صدقني... ليس من شأني عدم الجدية... ولكن أشعر أن ذهني توقف قليلاً... ولم يعد يعمل بصورة طبيعية... تقول إنها عابدة... ثم ماذا أيضاً"
-" نعم... هكذا أريدك... الآن بدأت تسير في الدرب الصحيح... هذه المرأة تُفَرِّغ للعبادة والقرآن كثيراً من وقتها... وهي تقرأ كل ما يقع تحت يدها... من الأشياء المفيدة... إنها مثقفة... ولكن... هناك أمر أهم... هذه المرأة لا تشترط زوجاً يقضي معها كل وقته... نعم إنها لا تشترط ذلك... وربما تبقى لديها يوماً أو يومين في الأسبوع... وبقية الأيام عند أهلك... وربما لم تحتج أبداً أن تخبر زوجتك الأولى بنبأ هذا الزواج... الأمر كما قلت لك... سهل جداً... إن هذه الفتاة لا تريد إلا رجلاً يساعدها في وحدتها... تريد إنساناً مؤمناً يمسح دموعها... ويشفق عليها... ويَسْكُبُ لها كأساً من الحنان... الذي تعطشت للشرب منه... حتى كاد عطشها يقتلها"
بدأ القلق يظهر على وجه حسان... وبدأ الألم يعصر قلبه الطيب... وفي تلك الأثناء... أخرج الشيخ جابر ورقة الرسالة من جيبه... وقال بهدوء:
- " خذ هذه الورقة... اقرأها على مهل... وأعد قراءتها... وبعد أن تفكر... أخبرني بقرارك النهائي"
لم يردّ حسان... وإنما وضع الرسالة في جيبه... وقام متثاقلاً... واتجه نحو باب المسجد... وفي أثناء ذلك... تبعه الشيخ جابر بعينه... وبدأ يتمتم:
- " اللهم إن علمت أن في التوفيق بينهما صلاحا لدنياهما... وأخراهما... فوفق بينهما "


6- طريق صامت

حسان يسير بتثاقل... لقد بدا له وهو ينقل قدميه الواحدة تلو الأخرى... أن الدنيا كبسولة صغيرة... اختُزلت فيها جميع الهموم والمآسي... هذه الدنيا جُرْعَةٌ عفنة... من مستنقع عفن... وإن قُدِّر لها أن تُسعد الإنسان... في يوم ما... فإنها في الوقت ذاته... ستشفي آلافاً... حكمة الله... أن جعلها تسير بهذه الطريقة... كي يَزْهَدَ الناس في التكالب عليها... ويزهدون أيضاً في أيامها الحلوة... كُلَّما علموا أن تلك الأيام الحلوة... ستتبعها أعوامٌ مُرَّة.
نظر حسان عند قدميه... وتوقف... لقد لاحظ خُنفساء صغيرة... تسير في تباطؤ... اقتربت الخنفساء من قدم حسان... وعندما اصطدمت بها... توقفت قليلا... ثم استدارت بسرعة... وبدأت تهرب... ابتسم حسان... وبدأ يحدث نفسه:
-"يا الله... كم أنت حريصة أيتها الخنفساء على أن تعيشي!... غريب... ولكن... لماذا يا ترى تحرص الخنفساء على العيش؟... هل للحياة قيمة لديها... هل تحس أن حياتها ثمينة؟... هل تراها تحس أن حياتها أثمن من حياتنا؟... بالتأكيد!"
استمر حسان في السير... وأخيرا... وصل إلى باب منزله... لم يكن راغباً في الدخول... لذا واصل سيره عبر نفس الطريق... ومع استمرار السير... بدأ يُحَدِّثُ نفسه قائلاً :
- " لن أستسلم أبداً... ولن أتزوج امرأة أخرى... إني الآن أسعد إنسان... ولن أغْدِرَ بزوجتي ابتسام... مهما كانت الإغراآت"
ولكنه وجد صوتاً آخر يصرخ في أعماقه:
-" وهل في الزواج من أخرى غَدْر بالزوجة الأولى؟"
هنا توقف حسان... بدأ الصراع في نفسه يزداد... قال لنفسه:
- "ما المشكلة؟... قد لا يكون الزواج من أخرى غَدْرٌ... لكن بالتأكيد... هو جرحٌ لمشاعرها"
لكن منادياً آخر انبعث صوته قائلاً :
-" أليس هناك نساء يتألمن... قد سحق المجتمع كل مشاعرهن... عندما حكم عليهن بأن لا يتزوجن من متزوج... بسبب أن ذلك المتزوج مِلْكٌ للزوجة الأولى؟... وفي الوقت ذاته... لم تَكُتب الأقدار لهؤلاء النسوة... أن يتقدم لهن رجل خالي الوفاض... أعزب... وغير متزوج... شروط قاسية أخرى"
-" وهل حسان مسئول عن مشاكل العالم؟"
عاد حسان أدراجه... إنه لا يلوي على شيء... نفسه تُدلي بالحجة على نفسه... وحواره زاده حيرةً على حيرته... هناك قضايا لا يمكن حلها... أو ربما لا يستطيع الإنسان الوصول إلى حل مُرضٍ لها... لأن كل حجة فيها تجد رداً من داخلها... لذا فنسيانها هو الحل الأمثل للخروج منها.


7- الزوجة الصالحة

وصل حسان للمنزل... تأكد من أنه قد أخفى الرسالة جيداً في أحد أدراج محفظته... وتأكد أيضاً من عدم وجود أي دموع متطفلة على عينيه... وطرق الباب... وفتحت ابتسام... وتحركت كوابح السعادة من جديد... داخل الشقة المتواضعة... فالشوق قد بلغ بالجميع مبلغه.
- "أهلاً يا زوجي الحبيب"
لفت نظر ابتسام... ذلك الصمت الذي لف حسان فيه كل همومه... لذا قالت:
-" خيراً... ماذا بك يا حسان؟... وجهك متغير... جداً"
-" لا شيء... لا شيء... فقط كنت أتفكر في ملكوت الله... في روعة السماء والأرض... وعندها دمعت عيناي"
أحس حسان بلوم شديد يتمطى في ضميره... هذه أول كلمة كاذبة يقولها لزوجته... ولكن زوجته أخرجته من مشاعره تلك... عندما قالت في تأثر:
-" نعم يا حسان... إنه بالتأكيد موقف مؤثر... النجوم والسماء... سبحان الله!"
-" هل تسمحين لي يا ابتسام بالذهاب لمكتبي؟"
-"يبدو يا حسان أن نفسيتك مضطربة نوعاً ما... هل أقدم لك أي خدمة؟"
-"لا... شكراً... وإنما سأذهب للمكتب"
-"إذن سأحضر لك براد الشاي... وبعض الكيك "
-"أشكرك كثيراً... لدى بعض الأعمال الهامة... أرجو ألا يدخل عليَّ أحدٌ... والشاي سَيُسَهِّرني"
-" حتى أنا... لا تريد أن أدخل عليك ؟"
-" لا لا... أقصد الصغار "
-" اطمئن... ما دُمْتَ مشغولاً... حتى أنا... سأحضر لك الشاي فقط... وأتركك تصارع أعمالك... أدعو لك بالتوفيق"
انتقل الرجل الكئيب إلى مكتبه... وقد كان ذلك المكتب هو في الوقت ذاته غرفة الطعام... أغلق الباب خلفه... وبدأ في فض الرسالة... فتحها... وبدأ يقرأ سطورها بلهفةٍ... لا يدري ما سبب تلك اللهفة... ولكن روح حسان الشفافة... جعلت مشاعره تذوب مع كل كلمة من تلك الكلمات... التي خرجت ذات يوم سابق... من قلب كاتبتها.
وبدون مقدمات... بدأت الدموع تنحدر على خديه... لقد بدأت شفقته على المسكينة تَنْقُشُ حروف كل كلمة كتبتها... على جدار قلب الرجل الرحيم... وعندما أكمل قراءة الرسالة... رفع بصره إلى أعلى... وتذكر الأجر العظيم... الذي تكلم عنه الشيخ جابر من قبل... حقاً إنه أجر عظيم... ذلك الأجر... الذي سيُحَصِّله من ينقذ هذه المسكينة... وكم هم المساكين... من أمثالها!.
لكن حسان في الوقت ذاته... تجاهل نفسه... وقال يتساءل:
-" من يا ترى لهذه المسكينة؟... ومن هو المنقذ لها من محنتها؟... من؟... من؟...لابد أن أبحث لها عن... زوج... حتما... لابد من ذلك"
بدأ حسان يستعرض في ذهنه بعض أولئك الذين يمكن أن يقدمهم للأجر الكبير... ولحل مشكلة جواهر.... ولكن... كل أولئك الذين يستعرضهم حسان... يتحطمون أمام الشرطين الصعبين... " يخاف الله "... و " ذو خلق ".
طرقت ابتسام في تلك الأثناء... باب المكتب... وقام حسان مضطرباً... وفتح الباب... وتناول الشاي منها... وأشرق وجهه... عندما رأى بسمتها الصادقة... وقالت له وهي تشير بإصبعها إليه:
-" أتقن عملك... وإن أردت مساعدة... فأنا رهن الإشارة"
- "شكراً يا ابتسام... ألف شكر"
وعاد حسان ... وجلس على الكرسي... وأسند ظهره للخلف قليلا... وبدأ يتذكر مدى النعمة التي أنعم الله بها عليه... عندما رزقه زوجة كابتسام... ولكنه في الوقت ذاته... تذكر جواهر... وسأل الله أن يرزقها زوجاً طيباً... مثل!... مثل... مثل... حسان !...
-" لا لا... لن أطعنك يا ابتسام من الخلف... ولكن... هل يعني هذا أن تُطعن جواهر مع كل جهة... وفي كل وقت؟... لابد أن أبحث لها عن زوج "
انتهى ذلك اليوم بالنسبة لحسان عند ذهابه إلى فراش النوم .

8- الحل الأخير

في اليوم التالي... لقد أصبحت جواهر هي شُغْلُ حسان الشاغل... وقد أعمل عقله كثيراً في البحث عن المخلَّص لها... ولعل بحثه ذلك كان من أجلها... ومن أجل حل مشكلتها... ربما كان لأجل شيء آخر... نبت في قلبه... وبدأ ينمو... وينمو...
حسان بدأ يعترف أمام نفسه أنه بدأ يحب هذه الفتاة... ولكنه يحبها لمِا عرف من أخلاقها وقِيَمَها... وفي الوقت نفسه... ينكر أيما إنكار... أن حبه هذا يجعله يفكر... حتى مجرد تفكير... في الزواج منها.
بعد مرور ثلاثة أيام... بدأ حسان يُقنع نفسه بِعدم وجود رجل كفء لهذه المرأة الطيبة...وأكثر من ذلك... لقد بدأ يرفض من كان مناسباً ولو نسبياً... يرفضه ويعتذر أمام نفسه بأن جواهر قد تدخل في متاهة جديدة... لو تقدم لها هذا الرجل... أو ذاك .
وتطور الوضع بحسان... بشكل أكبر... لقد أصبح الآن يبحث... ويبحث... فقط ليقنع نفسه أنه لا أحد... شجرة حب هناك... بدأت تُزهر... وحسان الآن... يرشح نفسه بشكل غير محسوس... لقد أصبح شرطها لحناً يتغنى به... أحس أن الحكمة كلها اجتمعت في كلماتها... ولكنه في الوقت ذاته... أحس بشيء من الخجل... يداخل نفسه... قال في حزم:
-" أنا محظوظ... علي أن أحافظ على زوجتي ابتسام... ابتسام ملاك طيب... يجب أن لا أخرب بيتي بنفسي"
لكنّ باعثاً خفياً بدأ يُكذّبه... ويكذبه بصوت مرتفع...
-"أنت تتمنى أن تتعرف على جواهر... بشكل أكبر... أنت يا حسان... بدأت تحبها"
ضحك حسان من هذا الباعث الغبي... الذي بدا وأنه باعث يجيد صناعة النكت!... لكن... وبعد لحظات... أصبح الباعث يهزه هزا... ليست المسألة مسألة " تنكيت"... وإنما هي واقع.
ولكن... هل اكتشف حسان أخيرا... أنه وقع في حبائل امرأة لم يرها... ولم يسمع صوتها... ولكنه فقط... قرأ أفكارها... وخَط يَدهَا... وعرف القليل من قضيتها.
حسان بالفعل... بدأ يشعر بذلك...شعر بدهشة كبيرة... لهذا السقوط... هل معنى هذا... أن الأذن تعشق قبل العين أحياناً؟... وليتها أذن... إنما هي رسالة!.
-"لا... لا... مستحيل"
الباعث الساحر... في وِجْدان ذلك القلب الصافي... بدأ يتحدث ثانية... إنه أشبه بصديقٍ صادق... يحادث حسان دائماً... كلما احتاج إليه.
- "لماذا كل هذه القسوة؟... أنت أحببتها... حقاً... ولكن... لم تقع في حبائلها... إنها مسكينة... لم تَنْصِبْ ذات يوم حَبلاً لأحَدْ... بل هي التي تلفُّها الشباك... وتحتاج إلى من يخلصها من هذه الشباك"
قال حسان لنفسه :
- " أنا أحب ابتسام وكفى"
قال هذه الكلمة وهو يعلم الآن علم اليقين أنه يكذب على نفسه.
- " وهل التعرف على جواهر... يتعارض مع حُبك لابتسام؟"
-" كلا... كلا... لا يؤثر أبداً... إن ابتسام لها المكان الأكبر في قلبي... ولن ينازعها فيه أحد... أما جواهر... فهي مسكينة... وماذا لو قُدر لرجل مثلي أن يُقيل عثرتها... بل ولو أحببتها وأعطيتها بعض مودتي؟"
- "... لا... لا... لن أتزوج بها... وإنما فقط أحاول مساعدتها "
- " تُحِبُّها ... ولا تتزوجها... ما هذا الكلام؟... وما هذه المغالطات؟... اعترف"
- " ربما... ربما أكون... ربما أفكر... في التفكير في الزواج منها... وأنا متأكد أنني لن أتزوج منها... أبداً ولكن... ربما فقط أفكر"
-" ماذا سيحصل إذن؟ "
-" عندها سأعطيها القليل من ساعات أيامي... وأبقي الكثير... والكثير جداً لابتسام... بل لَنْ أنقص من حق ابتسام"
-" أنت بهذه الطريقة ستُحيي نفساً "
-" نعم نعم... أنا لا أريد إلا هذا الهدف السامي... والله العظيم... ثم... ألا يمكن أن تؤدي بها معاناتها وعُزلتها القاسية... إلى الحقد على العالم... أو الانطواء... وربما الموت؟... ألا يمكن للشيطان أن يدخل عليها في وحدتها... فيجُرُّها إلى الإثم جرَّاً؟... بلى... إن الوحدة والهموم... قد تؤدي بالإنسان إلى الجرائم... مهما كان تدينهُ وتمسكه بالفضيلة... فالإنسان له عواطفه وحاجياته... التي قد تتغلب في أحيان كثيرة على عقله... ألم يقل رسول الله: ( إلَّا تفعلوا ) الزواج ( تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )؟... وهذه الفتاة شابة... في مقتبل عمرها... وتمدُّ يدها تبحث عن الحلال... مستحيل أن يتقدم لها شاب أعزب... في مجتمع كمجتمعنا... تظلم فيه المرأة المطلقة أيما ظلم... ولا يرشح للزواج منها في الغالب... إلا رجل متزوج... ولو تخلى المتزوجون أيضاً عن الزواج من مثل هذه... فهذا يعنى إيجاد فئة من النساء الناقمات على الحياة ... اللواتي يلعنَّ المجتمع ليلاً ونهاراً... وربما انتقمن لأنفسهن بالبحث عن مصادر محرمة لتلبية رغباتهن... وسيتحول الكثير منهنَّ إلى مصائد للرجال... في متعة محرمة... تماماً كما يحصل في الدول المنحلة... التي لا كرامة فيها للمرأة... ولا قيمة"
كان حسان... مندفعا في الحديث بهذه الطريقة مع نفسه... وعندها قال:
-" أنا لن أتزوج بها... ولو... لا قدر الله... لو فكرت ذات يوم... في الزواج منها... فإنما أفعل ذلك... إنقاذاً لها مما هي فيه".
نظرت نفسه له من طرف عين ، وقالت :
-"يا نمس... هذه الحركات - على غيري-.... أنت تكذب"
فجأة... ابتسم حسان... واكتشف كل ما في أعماقه من الأشياء التي حاول كتمانها... واعترف أنه بدا راغبا في الزواج من جواهر... التي لا يعرف عنها إلا صفحة من ورقة.


9- من هو العريس؟

انقطع حسان لمدة... عن الصلاة في مسجد الشيخ جابر...لقد كان يصلي في مسجد آخر... أبعد بقليل عن مسجد الشيخ جابر... وما كان انقطاع حسان ذلك... إلا خشية مطالبة الشيخ إياه بالقرار النهائي.
مر أسبوع من تسلمه الورقة... وهاهو يتوجه الآن إلى مسجد الشيخ جابر... وهو يحمل قراره النهائي... الذي سيصارح به الشيخ... في موضوع جواهر.
كان ذلك اليوم هو يوم خميس... والوقت... بعد صلاة الظهر... لقد تقابل حسان والشيخ جابر... وتعانقا... وجلسا متقابلين.
-" لماذا يا حسان كل هذا الجفاء؟... لم نعد نراك".
-"كنت مشغولاً جداً"
-" قل لي إذن... ماذا عن الموضوع الذي عرضتُه عليك مسبقاً؟"
-"أي موضوع؟"
-"ماذا؟... هل نسيت؟... موضوع جواهر"
-"أوه... المرأة... جواهر... لقد وجدت الحل لمشكلتها... سهل جداً... غريب أننا لم تفكر فيه من قبل... بجدية"
-" صحيح... الحمد لله... لقد علمت أنك على قدر المسؤولية... سوف يُكتب لها الخروج من مشكلتها... والشفاء أيضاً من مرضها... على يديك يا حسان... لقد سمعتُ أنها مريضة منذ أسبوع... ولم تذهب للمدرسة... أخبرتني بذلك زوجتي... تقول أيضاً إن حالتها تزداد سوءاً... وما دُمتَ وافقت... أرجو أن يتم الزواج بسرعة... الحمد لله... ستكون عريساً عما قريب... يا حسان... يا سلام"
-" لا يا شيخ... إنك تمزح... لن أكون عريساً عما قريب... ولا يحزنون... إنما أنت... أنت يا شيخ... ستكون العريس قريباً... لم أقل لك... بعد تفكير طويل... اتضح لي أنك أنت الرجل المناسب... لجواهر... كل المواصفات المناسبة... تكمن فيك"
بدأ جابر في الضحك بكل استبلاه... ثم قال :
-" ماذا تقصد؟... ثم هذا ليس وقت مزاح يا حسان "
-" صدقني أنا جاد... وكل الجدية فيما أقول... ثم أنا متزوج... ولست في حاجة لجواهر... وعندي أطفال... أنا لا أريد جلب المتاعب لِنَفْسِي... ولا لأهلي... أنت تعرف يا شيخ جابر... مدى المتاعب التي يواجهها زوج اثنين... ذلك عدا الالتزامات المالية... التي يلزمه القيام بها... مهر... منزل جديد... أثاث... مصاريف ثقيلة... وجع راس... وأنا الآن أعيش حياة اكتفاء ذاتي... بالنسبة لمصاريفي... ولا يوجد لدىَّ أي فائض... ولا أريد أن أُدْخِل نفسي في متاهات الدَّيْن... الدين ممنوع... والرزق على الله... وإن كان عدم زواجها قضية صعبة... بالنسبة لها... فزواجي سيجعل حياتي أصعب... لو تزوجتها... أما لو قُدِّر لك أن تتزوجها... أنت يا شيخ جابر... فهذا خير لك ولها أيضاً "
-" يا حسان... أنت تغالطني... وتغالط نفسك... لو علمتُ من نفسي أنني أصلح للزواج منها... لما ترددت... ولكن... يكفيني هذا الشيب... وهذه العصا التي تساعدني كلما قمت أو قعدت... يا حسان... ثق تمام الثقة... أن حالة جواهر سيئة... وتزداد سوءاً مع الوقت... لقد كانت تُخفي كثيراً من مشاعرها... حتى عن نفسها... وانفجرت الآن كل مشاعرها... فأصبحت أشبه ببركان... وعندما تتعذر يا حسان بالمال والنفقات... فأنت تعلم... الرزق بيد الله... وقد يكون زواجك منها... فتحاً لباب رزق جديد... لك... وربما أغلقنا باباً ظناً منا أنه يُنقص من رزقنا...ولو دخلناه... ربما نجد مصدر رزق عظيماً... وعلى العكس... قد نطرق باباً نظن أنه يفضي إلى رزق لنا... ثم يكون مهلكة لأموالنا... أليس كذلك؟"
-" ماذا تريد أن تقول بالضبط؟"
-" أقصد أن جواهر امرأة ثرية... ولن تخسر يا حسان شيئاً لو تَزَّوْجَتَها... بل
ستكسب"
-"ما هذا يا شيخ؟... تكسب!... تخسر!... كأنك تحدثني عن صفة تجارية"
-" إنها تجارة... نعم... ولكنها تجارة مع الله... اعزم يا حسان... وتوكل على الله"
كان حسان يعيش التناقض بجميع مراحله... تناقض مع نفسه... وتناقض مع الآخرين... تناقض بين قلبه وقالبه... وتناقض بين قوله وفعله... كان يريد إقناع نفسه بأنه طرق جميع الأبواب... لا ليجد الزوج لجواهر... وإنما ليُرشِّحَ نفسه في النهاية... على أنه هو الزوج المناسب... فجأة... أغمض حسان عينيه... وتدحرجت دمعتان على خديه... وبدأ يردد وبكل ثقة:
- " أنا سأنقذ هذه المسكينة... سأنقذها مهما قدمت من تضحيات... لقد قررت الزواج بها "
أحسَّ حسان في الوقت ذاته بباعث يتحدث من داخله ويقول:
-"... يا نمس... كل هذه دموع!!"
لكن سعادة الشيخ جابر وصلت إلى حدٍ لا يوصف... لقد أحس بنشوة النصر... عندما انحلت عقدة الفتاة... إن حسان رجل طيب... ذو خلق ودين... وسيُسعد جواهر بكل ما يستطيع... وهي أيضاً ستسعده... وسَتَمْنَحُه قلبها مع كل مفاتيحه... قال الشيخ جابر:
-" قم يا بني... واغسل وجهك... ثم صل ركعتين... وبعد ذلك... سنبدأ في إكمال هذا المشروع الخيري... صدقني... إن نجاحي في تزويجها برجل مثلك... يُشْعرني بأني قمت بعملٍ صالح... أفضل من بناء المساجد... وزخرفتها... إنه إحياءٌ لنفس ميِّتة... أو موشكة على الموت...ولا أريد أن يكون لي بهذا العمل... كنوزٌ أو أمْوال "
-" بارك الله فيك يا شيخ جابر... وأكثر الله من أمثالك "
-" لماذا... هل تريد الثالثة؟"

 
قديم   #3

مصممة أزياء إسلامية


رد: رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي


رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي

الفصل الثاني عشر

1- بين جابر وعائشة

جابر يسير بخطوات هادئة متجها نحو منزله... كان في ذهنه آلاف الأفكار والأفكار... بماذا يبدأ؟... وما هي الخطوات الأهم فالأهم؟.
وصل إلى المنزل... بَسْمَتُهُ تكاد تغطي وجهه... استقبلته زوجته بطبيعتها الساذجة... وفطرتها الصادقة... إنها لا تستغرب سعادته وسروره... إنه مبتسم دائماً... وسعيد دائماً... وجهها الحنطي يجعل جابراً لا يخفي عنها أيَّ سر... لأن ذلك الوجه يذكره دائماً بالحلوة والمرَّة... والتي شاركته فيها دائماً... ويذكره مكان ثَنيَّتها التي سقطت منذ سنوات... بابتسامتها الصادقة... أيام الصبا... وابتسامتها الأصدق... أيام الشيب... كلٌ يقول... لم يخلق جابر إلا لعائشة... ولم تخلق عائشة إلا لجابر.
الملفت حقاً... أن المطالع لوجه عائشة... يجد حبة مثل حبة الزبيب... قد ارتسمت بين عينيها... لعل ذلك من كثرة سجودها... فهي لا تحرم نفسها من أن تصلي في الليل الأسود... للقبر الأكثر سواداً.... سألت عائشة زوجها وهو ينزل بمرفقه... ليتكئ على أريكة حمراء قديمة:
-" أراك سعيداً كعادتك... ولكن... يبدو أنك حققت مكسباً من نوع ما... هل لي أن أعرف؟ "
-" فضولية يا عائشة... تماماً مثلي... أنت كعادتك... دائماً! "
-" عادتي؟... أعوذ بالله... أنا لا أتدخل فيما لا يعنيني "
-" لا يا حبيبتي "
-" حبيبتي!... ما هذه الكلمة؟... أصمت... لا يسمعنا الأولاد "
في حين جلست قبالته... اقترب جابر منها وقال هامساً:
-" لا يا حبيبتي "
بدأ الخجل يُغيّر لون وجه عائشة إلى أحمر... وقالت:
-" لا... ماذا ؟... "
-" أقصد... أما فَهِمْتِ ... أنت فضولية... أي صاحبة فضل... أو متفضلة "
-" يا شيخ؟... ما هذه المقابلة في الكلام؟... مع أَني أميّة إلا أنني أفهم "
-" ستفهمين الآن... وستعلمين... أنك ستقومين بفضل كبير "
-" إذن... هل ستخبرني بسبب سعادتك؟ "
-" وهل أخفيت عليك شيئاً طيلة حياتي؟ "
-" لا أدري "
-" لكن أنا أدري "
-" صحيح... ما هو الجواب؟ "
-" في الحقيقة لقد أخفيت عنك أشياء قليلة بحد ما "
-" مثل ماذا؟ "
-" هل رأيت أنك فضولية؟ "
هـ ... هـ... هـ...
-" أخيراً أوقعتني في الفخ"
رفَّت عائشة بحواجبها في سرعة... ومالت قليلاً إليه... وقالت:
-"ماذا تريد مني؟"
-" أريد منك خدمة "
-" تفضل "
ربَّت على كتفها في حنان وقال :
-" اذهبي... وأحضري لي قلما وورقة... هيا ... بلاش دلع بنات "
أحست عائشة بحرج جديد لسماع هذه الكلمة... كما هي عادتها... ثم انصرفت... وعادت له بالورقة والقلم.
بدأ جابر يكتب... وانصرفت عائشة نحو المطبخ... وبعد دقائق... أقبل جابر نحو زوجته وهي منشغلة في أعمال الجلي... والترتيب... وقال لها:
-" تعالي لأمر هام"
عاد جابر لمكانه السابق... وجلس متكئا... وجاءت هي في خفة... وجلست أمامه... وأثناء ذلك... سلمها رسالة... وهمس لها :
-" الآن تذهبين مع ابننا محمد... وتسلمين هذه الرسالة لجواهر... صاحبة العمارة المقابلة لتموينات البيت السعيد "
-" أعرفها جيداً... ولكن... ماذا تحوي هذه الرسالة؟ "
-" ستعلمين يا فضولية قريباً "
-" فضولية؟! "
-" نعم صاحبة فضل كبير... في إيصال هذه الرسالة... صدقيني... سنتشاطر الأجر... إن هذه الرسالة مكسب كبير لنا "
-" رسالة... ومكسب... عم تتحدث؟ "
-" لتوي كتبتها... لقد وجدنا زوجاً مناسباً لجواهر "
-" زوج... أوه... جزاك الله خيراً يا شيخ... أنت حقاً رجل عظيم "
-" شيخ ؟! ما هذه الكلمة؟... لأول مرة أعرف أن امرأة تلقب زوجها بشيخ"
-" لقد بَدَأْت تنسى كثيراً... لقد كبرت أكثر من اللازم... أنا دائماً أقول لك شيخ... ولا أقصد شيخ علم "
-" وماذا تقصدين إذن ؟"
-" أقصد شيخ سن "
ابتسم جابر وقال :
-" هزمتني هذه المرة... ولكن سيكون ردي عليك أقوى مما تتوقعين... هيا يا عجوز... اذهبي بالرسالة"


2- رسالة جابر

هاهي هناك... لتوها وصلت الرسالة برعاية الله وحفظه إلى يد جواهر... كانت أعصابها أثناء ذلك... أبرد من أي قطعة لحم... بقيت في الثلاجة أكثر من سنة... الواقع أن جواهر نسيت الموضوع المتعلق بالزواج... لا يُدرى ما السبب... ولكنها لم تعد تفكر إلا في شيء واحد... إنه الموت البطيء... الذي أصبحت تنتظره بفارغ الصبر... لم يكن لديها أدنى شك... من أن هذه الرسالة لن تعبِّر إلا عن خيبة أمل جديدة... ولن تزيد بأية حال... عن خيبات الآمال... التي تُمنى بها دائماً وأبداً... في سجل حياتها المرير.
ألقت جواهر بنظرة سريعة على القِدر الصغير الموضوع فوق النار... وحركت شربة الشوفان بداخله... وأخرجت الملعقة الخشبية من القدر... ثم تركت الشربة تغلي... واتجهت لتجلس على الكرسي الخشبي الصغير في مطبخها الصغير... تناولت الرسالة... التي وضعتها للتو على الطاولة... أمامها... وبدأت تفتحها.
في تلك الأثناء كانت جواهر تتخيل سطور الرسالة... قبل أن تقرأها... لاشك أن جابراً هذا... رجل عادي... ليس لديه الحل لكل مشكلة... ولابد أنه في رسالته هذه... سيأمرها بالصبر والاحتساب:
-" ولكن... للصبر حدود... وها هو الصبر الآن... يتضجر من صبري... الذي أعيشه"
فتحت جواهر الرسالة... وبدأت في القراءة:
-" السلام عليك... ابنتي جواهر... لا أدري ما أقول لك... ثقي إنني أشعر تجاهك بشعور الوالد تجاه ابنته... سعيت في الموضوع الذي ألقيته في عنقي... بكل استطاعتي... لقد وجدت شباباً كُثُر... قد يتقدمون للزواج... لكن... لم أجد منهم أحداً على جانب من التدين... وحسن الخلق... وأخيراً... وجدت من تقر برؤيته العين... ويهدأ بمعرفته القلب... ثقي أنه لو تقدم لخطبة ابنتي... لما تأخرت في تزويجه ساعة واحدة... أو حتى لحظة... مع العلم... أنه لم يُقْدِم على الموافقة... إلا بعد دراسةٍ للوضع الراهن... والوضع المستقبل... لك وله.
هذا الشاب متزوج... وله طفلان... وعمره...( 27 ) سنة .
لكن أمراً هاما...ً منعه في البداية... من الإقدام... والموافقة... هو أن زوجته الأولى... طَيِّبةٌ طِيبةَ الأولياء... صادقة صابرة... تقدر له كل جميل... وتتغاضى عن كل قبيح... عيشته معها أشبه بعيشتها معه... وأشبه بعيشة زوج من طيور العندليب...
الواقع أن في البداية... كان يخشى من أنَّ تقدمه للزواج... سيكون غدرا بمن أحبته... وبمن أحبها... ولكن... وعندما عرف عنك ما عرف... من الطيبة والتواضع... والتدين... لم يجد لوماً من نفسه... في أن "يجمع السمن على العسل"... كما يقال... ولكن... لكي أكون أكثر صراحة معك... فهذا الرجل تقدم وله شروطه... التي أظن... وحَسْبَ ما عرفت من رسالتك السباقة... أنك موافقة عليها... مبدئياً .
إنه لا يريد عِلْمَ زوجته الأولى... على الأقل... حتى يتم له إخبارها بطريقة أكثر لياقة... وهذا يحتَّم عليه ألا يَعْدِلَ... في بقائه عند كل منكما... قد يبقى عندك يوماً أو يومين... أو أقل... لا أستطيع الحكم... هذا أمر يتم تنسيقه بينكم... أنا أعلم... ربما كان في ذلك... إجحاف عليك... لو قدر هذا الزواج... ولكن... هكذا هي ظروفه... وهذا وضعه... ولك أيضاً دراسة الموضوع... المهم... أنه رجل طيب للغاية... وستكون لحظات قصيرة تقضينها معه... كفيلة بِمَحْو سنوات قاسية صامتة... ثقي من ذلك يا جواهر.
أرجو كتابة رد سريع... تُخوِّلينني فيه إكمال الموضوع... أو عدم ذلك... وأرجو أن يكون الرد سريعاً... أنا متفائل جداً... وأريد أتمام الموضوع... كاملاً خلال هذين اليومين... أنا أعرف أنني أستعجل هذه المسألة... ولكن في العجلة السلامة... خاصة في مثل هذا الموضوع... وعندما تأتيني ورقتك بالموافقة... سوف نحضر أنا والشاب... ليراك وترينه.
وهناك أمر أستأذنك فيه... فأنا الآن سأضع نفسي في موضع أبيك... سأكون ولي أمرك... وسأتبنى إنهاء هذه القضية التي أوكلتها إليَّ... قريباً وعاجلاً... وأرجو أيضاً أن يكون أخوك موجوداً هذه الليلة... بالطبع هو وليك الحقيقي.

التوقيع جابر بن علي


3- مستحيل

قلَّبت جواهر تلك الورقة... كان عَرَقها يتقاطر... وَرَجفات قلبها تكاد تُحدث اضطراباً رهيبا في مشاعرها الغضة... ثم كتبت في ورقة صغيرة... وهي في شبه حلم.
- " أنا غير موافقة... على هذا الزواج... لقد صرفت النظر... عن هذا الموضوع... كلياً... شكراً لك على جهودك "
لفَّت جواهر هذه الورقة... نظرت في ساعة يدها... ثم قامت.
لقد قررت فعلاً ألا تتزوج... إنها لم تعد قادرة على فهم هذه الحياة الأشبه بالحرباء... إن الحياة تبدو لها كل يوم بوجه.
وصلت جواهر إلى الباب... كان بجوار الباب مرآة مستطيلة... موضوعة كتُحْفَةٍ جميلة... بدت المرآة وكأنها تَنْتَظِر وَجْهَ جواهر... " الحزين "... لترسمه على صفحاتها الفضية... مرت جواهر... وارتسمت صورتها... وربما لو تكلمت المرآة... لقالت لجواهر:
-" انتظري قليلاً"
لكن... سرعان ما تلاشت صورة جواهر... وهل ستبقى الصورة الحزينة ترتسم على المرآة... مع كل غدوٍ... ومع كل رواح؟... عادت جواهر للمرآة... لتصلح من شكلها اليائس... عليها أن تخرج دون دموع... لفت نظرها تلك الصورة... ما أروعها وما أجملها!... إنها صورتها... بالطبع... لازالت شابة... لازالت أبواب الحياة... مفتوحة أمامها... حدثت نفسها:
-" لماذا يا جواهر تحبسين نفسك في هذا المنزل... بقى الكثير والكثير من الأيام... هل تستطيعين أن تعيشيها وحدك؟... لا يا جواهر... لا يا جواهر... إياك أن تَقْتلي نفسك... جرِّبي مرة أخرى... جربي الحياة... لا تقنطي من رحمة الله"
فتحت جواهر الورقة ثانية... وطمست كلمة واحدة... إنها كلمة " غير "... شطبتها بريشة القلم... وبقيت الرسالة كما هي... ثم حدثت نفسها بدهاء:
-" جميل جداً... إن الرسالة الآن تحمل المعنيين... ما أسهلها من كلمات!... ولكن ما أصعب نتائجها!... قد تكون حياة سعيدة بعدها... أو حياة تعيسة... لكنَّ خط الرجعة سيبقى ممهداً... إن قررت العودة"
اتجهت جواهر خارجة بعد أن ارتدت حجابها... لقد عزمت على إيصال الرسالة لمنزل الشيخ جابر.


4- شيء في قلب جواهر

جواهر لم تذهب لضاحية منذ مدة... إنها الآن قادرة على الذهاب... ولكن... ماذا عن ذلك الرجل الذي تكرهه من كل قلبها؟... ماذا لو لمحته هناك؟... إنها تشتاق لزيارة العجوز... ولكنَّ تَذَكُّرها للرَّجل... يجعلها تحجم عن تلك الزيارة... وبعد سجال طويل... قررت أن تذهب لزيارة الأم ضاحية.
انطلقت جواهر مسرعة... كان السرور يجد طريقه من جديد إلى قلبها... حدَّثت نفسها وهي في الطريق:
-" ماذا لو لقْيتُ الشاب؟... هل سأرجع؟... أم سأتقدم؟... لا... لا... بل سأتقدم حتى أصل إلى المنزل... ولكن... ربما كان بداخل منزل العجوز... ذلك السافل... هل سأقف عند الباب حتى يخرج؟... لا... لا... بل سأدخل عليه... سأطالِعَهُ بنظرات نارية... وربما... ربما سأجرح مشاعره بكلمات جارحة... إنه يستحقها... يجب أن أجعله يتضاءل أمام نفسه.
وجدت جواهر أنها تحدث نفسها بطريقة أخرى... إنها الآن أصبحت في حالة يقظة بالنسبة لحالتها الأولى:
-"ولكن... لماذا أسبُّه وأشتمه؟... لماذا أحقد عليه؟... أعوذ بالله... هل أنا أخادع نفسي... هل أنا والعياذ بالله... أحبه أقصى درجات الحب... وهل أتيت الآن رغبة في زيارة العمة ضاحية... أم لأرى بعض أثره؟... هل أدهشتني أعماله الحسنة... حتى لم أستطع فهمها إلا بطريقة سيئة... ما هو يا ترى الباعث لكل هذه المتناقضات... التي تعتلج في نفسي؟... وما حقيقة هذا الرجل؟... هل أنا أزعم أني لا أحبه؟... لا أدري!... لا أدري!... لا أدري!".
اقتربت جواهر أثناء ذلك من منزل ضاحية... أحسَّت بشبه شوط كهربائي ينفض وجدانها... لقد رأت سيارة الرجل بجوار منزل العجوز... الغريب أنها بدت سعيدة جدا لرؤية السيارة... لقد لقيت ما أتت من أجله... الشاب:
-" لا... لا... أنا حزينة... أنا لا أريد مقابلته... أنا أكرهه"
وقفت جواهر قليلاً... في أثناء ذلك... خرج الرجل... اندهشت جواهر عندما رأته... إنها لا ترى رجلاً عادياً... لقد خُيَّل لها أنها ترى مَلكاً... إن النور الذي ينبعث من بين عينيه أشبه بنور القمر:
-" لا... لا... لا... أنا أكرهه... أنا لا أريد أن أراه... ولا أريد أن أتزوج... لن أتزوج أبداً... أبداً"
وجدت جواهر في أعماق نفسها قائلاً يخترق كل الحجب الرقيقة... ويتحدى كل كلمات النفي... ويتحدى كل مشاعرها الثائرة... إنه يقول ويردد:
-" اللهم ارزقني زوجاً مثله... آمين"
تناست جواهر ما حولها... وارتفع هذا النداء في نفسها أكثر وأكثر... وانصرف ساعتها الرجل الطيب في سيارته... ووصلت هي إلى باب ضاحية... ودخلت.


5- في العجلة السلامة

قرأ الشيخ جابر تلك الورقة المرسلة من جواهر... لقد لاحظ أنها شطبت كلمة" غير " .
إنها فرصته الآن... كي يُتمَّ الزواج... الوقت ليس في صالحه... لابد وأن جواهر تعالج صراعاً مريراً... قد يودي بها في نهاية الأمر... حتما هي تعاني الخوف من المستقبل... لأنها لا تعرف شيئا عن الزوج... كل ساعة الآن... حتما ستكون مؤثِّرة... بل واللحظة أيضاً مؤثرة.
جابر الآن في طريقه إلى المسجد... جميع أفكاره منصبَّة تجاه هذين الزوجين اللذين يسعى في تقريبهما من بعضهما... مهمة صعبة للغاية... جواهر قاب قوسين أو أدنى من هدم آماله... التي علقها في زواجهما... حسَّان لم يقتنع إلا بشقّ الأنفس... وها هي جواهر الآن متذبذبة بين الموافقة أو الرفض... إنه زواج أشبه ببيت العنكبوت... ولكن لا حيلة... يجب عليه أن يواصل جهوده حتى الرَّمق الأخير... ولج الشيخ جابر من باب المسجد.
السكون يعم المكان... وقد اقترب وقت صلاة العصر... وفي إحدى زوايا المسجد... يجلس رجلٌ... لقد كان مستقبلاً القبلة... وفي يديه مصحف.
تقدم جابر عدة خطوات... لقد تأكد أن ذلك الرجل هو حسان... تقدم نحوه... حسان لا يقرأ في المصحف المفتوح... وإنما يقرأ ورقة أخرى... وضعها بين دفتي المصحف... ويبدو أيضاً أنه لا يقرأ في تلك الورقة بالمعنى الصحيح... وإنما يتأملها... حدَّق جابر في الورقة المفتوحة... لم تكن تلك الورقة سوى ورقة جواهر... إنها الورقة ذاتها التي سلمه إيَّاها من قبل.
قال جابر :
- " يا مشاغب... إلى الآن لم تُعدَّ نفسك... لليلة العمر... ماذا تفعل هنا... تقرأ القرآن... أم... تقرأ القرآن ؟؟ "
ارتبك حسان قليلاً... وأطبق المصحف.
قال جابر :
-" ما آخر أخبارك يا عريس؟ "
-" الحمد لله... ولكن إياك أن تقول هذه الكلمة مرة أخرى... فالجدران لها آذان "
-" صدقت... إلا أن جدران المساجد ليس لها آذان... وهي لا تنقل الأخبار أبداً"
- " صحيح؟"
- " نعم... ولكن... انتبه... إن لها عيونا "
تبادل الاثنان الابتسامات الصادقة .
قال حسان :
-" أصْدقُكَ القول يا عم... أنا الآن أحس بإحساس غريب... لم يُقدَّر لي أن أحْسَست بمثلهِ من قبل... إني أحس أن جواهر جزء مني... تماماً كما أن ابتسام جزءٌ مني... وأحِسُّ أني خُلقت لهما جميعاً... إني في حاجة ماسة لابتسام... زوجتي العزيزة... بل إن مكانها الآن في قلبي يكبر ويكبر... ولكن أيضاً أحس أن لشخصية جواهر مكاناً آخر في قلبي... لا يضايق مكان ابتسام... وأحس أنني في حاجة لها "
-" يا طماع... أنت... يا شيخ حسان!! "
-" أنا لست شيخاً "
أشار حسان بيده إلى لحيته القصيرة ... في حين قال جابر :
-" أنت مسلم يا حسان... يكفي الإنسان شرفاً أن يكون مسلماً... ليت جميع المسلمين يتقمَّصون شخصيتك "
-" أعدك يا شيخ... بمجرد أن أتزوج جواهر... أن أعفي لحيتي بشكل أكبر "
-" إذا كان ذلك من أجلي... فلا تفعل... العمل لغير الله رياء "
-" لا... لا... ليس من أجلك... ولكن "
-" أوه... عرفت... من أجل جواهر... يبدو أنك بدأت تخاف منها "
-" تصدق يا شيخ... اللحية هيبة ووقار... كنت أتمنى أن يكون لي لحية بهيَّة... مثل ربع لحيتك... ولكنها عندما نبتت... نبتت مشوهة قليلاً "
-" يا رجل... الأهم أن يتعهد الإنسان قلبه دائماً "
- " تصدق... أحس أن في قلبي حباً عظيماً لم يكن فيه من قبل... حب يَقْبَلُ القسمة على اثنتين... ويكون نصيب كلٍّ منهما أكثر من نصيبها لو كانت وحدها... بل... إن حبي يمكن أن ينقسم على أربع "
ضحك جابر من هذا الكلام حتى كاد يسقط على الأرض... أما حسان فبقى يتحسَّسُ ابتسامته الخَجْلَى... قال جابر:
-" أكمل يا فيلسوف زمانك "
-" الحب شيء آخر... قد يكون للإنسان زوجة واحدة... ونصيبها من حُبه بقدر الخردلة... وقد يكون له أكثر من واحدة... ومع ذلك فإن نصيب كل واحدة منهن مثل الجبال"
-" معلومات جديدة... وجديرة بالتدوين... ممتاز... ولها قيمة أيضاً... ولكن... هل يا ترى سيصدق بها النساء؟ "
-" ربما ! "
-" نعم... ربما "
-" لكن... هناك أمر هام يا شيخ جابر... وهام للغاية... ولعلي لم أخبرك به من قبل "
-" خيراً إن شاء الله ؟!"
-" زوجتي ابتسام... أرجو ألا تعلم بشيء مما حصل... وإلا ستحترق الطبخة"
-" إلى هذه الدرجة تخاف منها؟! "
-" ليس خوفاً... ولكني أعرف نفسيتها جيداً... وربما تَصَرَّفَتْ تصرفاً أهوجَ... نحن في غنىً عنه "
-" وإلى أي وقت تعزم إخفاء أمر الزواج؟ "
-" لا أدري... ولكن إلى أن أرى الوقت مناسباً... صدقني... إني أقْدِمُ على هذا الزواج وقلبي يرتجف "
- " الزواج من حقك يا حسان... وليس من حق زوجتك الأولى منعك... أنت المقرر "
-" أعلم ذلك... ولكن... النساء سيكرهنك حتما يا شيخ جاير... لو سمعنك تتحدث بهذا الكلام"
-" المتزوجات فقط"
-" ولكن يا شيخ جابر... نساء هذا الزمن... المتزوجات... يختلفن تماماً... إنهن ينظرن إلى الزواج من امرأةٍ أخرى... نظرة مستوردة... فعلا هنَّ يعتبرنها خيانة عظمى "
-" لا يا حسان... ليس إلى هذا الحد... أنا مثلا... عندي عائشة... لا تنظر بهذه النظرة "
-" ربما لأنها تفكر في الراحة منك... ولو لمدة قصيرة"
-" ماذا؟... هـ هـ هـ ... على كلٍ... ربما"
-"صدقني يا شيخ جابر... إلى هذا الحد وأكثر... تصدق... إحداهن هددت زوجها بأن تقع في الحرام... لو تزوج عليها "
-" أعوذ بالله... وماذا قال لها؟ "
-" لقد قال لها اطمئني لن أتزوج ما دام هذا ردَّك... ماذا هو الرد المناسب يا شيخ جابر... لمن تقول مثل هذا الكلام؟"
-" أوه رحم الله أيام زمان... تصدق... قالت لي زوجتي ذات يوم... منذ عشرات السنين... لماذا لا تتزوج يا جابر؟... نريد امرأة تساعدني في أعمال المنزل... والغنم والبقرة"
قلت لها حين إذن :
-" يالله بحمله يقوم... يلزم لذلك مصاريف وتكاليف "
-" رحم الله أيام زمان "
-" وأيام هذا الزمان سيرحمها الله... إذا عملنا الخير لكل الناس... ولم نظلم أحداً... أنت يا حسان تعمل الخير لجواهر... وفي نفس الوقت... ليس هناك ظلم لابتسام... أما سرُّك... فهو في بحر "
-" أخشى أن يصيد صياد سمكة... ثم يفتح بطنها... ويجد السر "
ضحك الاثنان... وقال جابر :
-" لقد نسَّقت أمر زواجك بطريقة تجعل من المستحيل حتى على الحوت الأزرق... معرفة السر "
-" تقصد الذباب الأزرق "
-" الذباب الأزرق؟... لا...لا... بل الحوت... لأن السر في البحر "
-" نسيت ذلك؟... قل لي... وما هو ذلك التنسيق ؟ "
-" لن يُطْلَبَ منك في البداية... البقاء لدى جواهر... سوى جزء من النهار "
-" يومياً .. هذا ملفت للنظر "
-" لا ليس يومياً... بل يومين في الأسبوع... فقط... لنقل مثلا... من العصر إلى العشاء... أليس هذا مدهشاً؟ "
هز حسان رأسه... وقال:
-" فكرة... جيدة"
- " جزانا الله جميعاً خير الجزاء... نحن في عمل خير "
-" أرجو ألا ينقلب إلى شر... لو علمت ابتسام "
قام جابر متجهاً نحو المحراب... وبعد لحظات رُفع صوت الآذان.


6- رأساً على عقب

دخلت جواهر إلى منزلها... وخلعت عباءتها... وألقت بها بكل قوة... إنها تريد أن تصرخ بأعلى صوتها... وتريد أن تبكي أيضاً بأعلى صوتها... بل وتريد أن تضحك بأعلى صوتها... تريد أن تنادي نفسها:
- " جواهر "
بأعلى صوتها... إنها لا تدري هل هي حزينة أم سعيدة؟... هل هي مريضة أم سليمة؟... هل هي حيَّة أم ميتة؟... لقد هدأت أعصابها عندما رأت " ضاحية " العجوز... ولكن عودتها لهذا القصر... الكبير "الضيق"... يعيد لها حياة الوحشة .
ومن بين الخيارات التي كانت جواهر تريد عملها... لم تجد بُدَّاً من الصراخ... وبقوة... كانت قاب قوسين أو أدنى من الضحك... ولكنَّ البكاء غلبها.
جلست على مقعد قريب... وبدأت في شبه جنون تدعو:
- " جواهر ... جواهر ...جواهر "
وعندما سمعت صوت الشيخ جابر يؤذن... استيقظت نفسُها شيئاً ما... وقالت :
- " لماذا يا شيخ جابر؟... لماذا وجدت الزوج؟... ليتك لم تجده... لكنت حينها يائسة من الزواج... قادرة على العودة إلى حياتي الطبيعية... ولكن... بعد أن وَجَدْتَه... لم يعد باستطاعتي رفضه... كي لا ألوم نفسي ذات يوم... على رد رزق ساقه الله إلي... ولكن... هل أنت متأكد يا جابر... من كل شيء قلته عن هذا الزوج؟... قد تتكشَّف الأيام عن أنياب ذئب في فمه... ربما كان يظهر لك يا جابر خلقاً حسناً... وتديناً... ولعل ذلك طمعاً في الثراء... أو العمارة... عضَّت جواهر على أصابعها بقوة... واتجهت نحو جهاز التلفون... ورفعت السماعة كي تتصل بالشيخ... يجب أن تلغي كل شيء.
وعندما رفعت السماعة... وبدأت في تذكر الرقم... تذكرت أن جابراً في المسجد... ألم تسمع أذانه الآن... إنها غبية حقاً... كما وصَفَت نفسها.
-" ولكن... قد لا أكون غبية... ربما قدر الله لي خيراً ".
قامت جواهر إلى المطبخ... وملأت الكوب ماءً بارداً... وألقت به في جوفها الملتهب... واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم... وبدأت أعصابها تهدأ شيئاً فشيئاً... تغيرت فجأة جميع أفكارها... ورفعت الهاتف... ودقت أرقاماً... لم يكن الخط مشغولاً... رد عليها رجل.
-"ألو... من؟"
-"ألو... فالح... أنا أختك جواهر"
- "أهلاً... أهلاً جواهر... كم تُحرجينني باتصالك... أنت دائماً تصلين الرَّحم... ولكن... تعرفين... أنا مشغول دائماً"
-"لا عليك... أنت أخي الأكبر... ولك الحق دائماً"
-"شكراً يا جواهر"
-"هل أنت مشغول بعد صلاة العشاء؟"
-"بعد صلاة العشاء؟... بعد صلاة العشاء؟... لا... لا... أنا غير مشغول... ولكن قولي... هل تريدين أي خدمة؟... في شيء ما؟"
-" سمعت أن ضيوفاً سيأتون الليلة إلى بيتي... قد يكون معهم رجال... أرجو أن تحضر لاستقبالهم"
قال فالح مستغربا من هذا الطالب:
- " هل الأمر ضروري ؟ "
- " جداً يا فالح... أعلم أني أحرجتك "
- " أبداً... وأنا سعيد لأنهم سيأتون الليلة بالذات... فأنا سأسافر غداً... وقد أتأخر في سفري هذا لعدة أسابيع... هل تريدين أي خدمات أخرى؟ "
- " شكراً "
طَرَحَتْ جواهر السماعة... ومسحت بعض قطرات العرق... التي تكورت على وجهها... قد تكون مختلطة ببعض قطرات الدموع... وقامت متثاقلة لتصلي الصلاة... وبعد الصلاة بقيت جواهر في محرابها تقرأ القرآن... مرت الساعات سريعة... وسمعت مؤذن المغرب يؤذن... وقامت ساعتها... وتوضأت وصلت.


7- اللحظات الثقيلة

لم تدر جواهر ماذا تفعل... الانتظار هو أسوأ وقت يقضيه الإنسان... والدقائق التي يقضيها الإنسان في الانتظار كفيلة بأن تأكل جميع -فتافيت السعادة-... إن وجدت... فما بالك بامرأة أكثر تعاسة؟!.
قامت جواهر متثاقلة... إنها تحدث نفسها بتبديل ملابسها... نظرت إلى الملابس التي تلف جسمها الذابل... إنها غير مناسبة... خلعتها ولبست ملابس أخرى... ليست بالطبع جديدة... وليست أيضاً غالية الثمن... ولكنها على أي حال... أفضل من ملابسها القديمة... وقفت جواهر أمام المرآة التي قاطَعَتْها منذ زمن... إنها تقف أمامها الآن... في شيء من الاهتمام... بدأت تحاول إزالة آثار المرض والحزن... عن تقاسيم وجهها .
تعمقت جواهر في قراءة تقاسيم وجهها... وتعمقت أيضاً في النظر إلى عينيها في المرآة... يبدو أنها الآن تكبر نفسها عشر سنين... ربما كانت تقاسيمها تحكم بأن عمرها أربعون سنة... ولكن لا مشكلة... إنها تتمنى لو أن عمرها تسعون أو سبعون... إذن لَمَاتتْ عمَّا قريب وانتهى كل شيء... لم تكمل جواهر أفكارها تلك... لأنها لا تريد ذلك.
بعد قليل... سمعت جواهز قرعاً على جرس الباب... لم تضطرب كما هو متوقع... وإنما سارت بخطى وئيدة... إلى جهاز " الانترفون " وردت:
-" من الطارق ؟"
-" أنا فالح "
-" فالح... أهلاً تفضل... "
وفُتح الباب عن طريق مفتاح كهربائي... دخل فالح وهو يقول باسم الله... واستقبلته جواهر في بهجة صادقة... وقبلت وجهه ويده... لقد فرحت بحضوره الآن أيما فرحة... لقد طال الزمن... ولم يُقدِّم لها زيارة في منزلها... إنها تحس أنها جزء منه... وهو جزء منها... إنها الرحم... حدثت نفسها وهي تبتسم له في حب:
-" ... الله... ما أعظم الإسلام... عندما جعل قطيعة الرحم... من الكبائر!... صحيح أن المرأة تتزوج... وتذهب مع زوجها... أو تستقلُّ بحياتها الخاصة... ولكنها أبداً لا تستغني عن أهلها... عن أولئك الذين فُتحت عيني طفولتها... ورأتهم أمامها... وبنت نفسها لبنة لبنة... وهم يساندونها... كل شيء يَبْلَى إلا هذه العلاقة المقدسة... الأخ... الأخت... الأب... الابن... العم... العمة... الخال... الخالة... والابنة... كلهم شيء واحد... ويجب أن يبقوا شيئاً واحداً... مهما تغيرت معطيات الحياة"
لقد تمنت جواهر أن يكون فالح أقرب لنفسها... وهي أقرب لنفسه... إذن لألقت بنفسها بين ذراعيه... ومَحَتْ جميع نقوش آلامها على صدره... وفتحت قلبها له... وبثته كل همومها... لكن... كل الأبواب مقفلة في وجهها دونه... إنه لازال بوقاره وهيبته... ولكن لا مشكلة... إن وجوده هنا يضفي على المنزل آيات الأنس والبهجة... حتى ولو لم يأت جابر ومن معه... يكفي أنها حققت اليوم مكسباً كبيراً... لقد زارها رَحِمُها... وهذا مكسب لا يقدَّر بثمن.
جلس فالح على مقعد في غرفة الاستقبال... في الدور الثاني... لم تُفتح تلك الغرفة منذ سكنت جواهر منزلها... كانت آثار الغبار موجودة هنا وهناك... لم تدر جواهر كيف نسيت ترتيب هذه الغرفة... ولكن لا يهم... يجب أن يبقى كل شيء على حاله... أقبلت جواهر بقدح من القهوة... ناولته أخاها... واعتذرت عن آثار البِلَى على تلك المقاعد بقولها:
-" المعذرة... منذ فترة لم أدخل هذه الغرفة... كنت أنوي تنظيفها الآن... ولكن أتيت... أهلاً وسهلاً بك "
-" لا مشكلة... ولمَ لا تنظفها الشغالة؟... والله شغالات هذا الزمن بلا فائدة"
-" الشغالة!... ليس لدى شغالة "
-" صحيح؟... هـ هـ هـ ... مستحيل! "
قامت جواهر... تغيبت قليلا... ثم جاءت وهي تسحب المكنسة الكهربائية... وبدأت تكنس الغرفة بسرعة... ومسحت ما يحتاج إلى مسح من قطع الأثاث... ثم جلست بجوار أخيها في كل هدوء... سألها:
-" كيف أحوالك... وأخبار المدرسة؟... يبدو أنك كنت مريضة... آثار وجهك تقول ذلك"
بدأت جواهر في فرح تروي أحداثاً كثيرة... واستمرت الجلسة السعيدة إلى أن قالت جواهر :
-" لقد أذن العشاء... اعذرني... سأذهب للصلاة "
-" أوه... الصلاة!... لا زلت على عادتك تحبين الصلاة!... نعم... نعم... الصلاة جيدة"
-" إنها أنيسي في وحدتي يا فالح "
-" صحيح... وأنا أيضاً سأصلي هنا... ولم لا؟... هل يوجد سجادة ؟"
- " نعم ..... "
8- المراسم

الصوت ينبعث من جرس الباب... قام فالح قائلاً :
-" لابد أنهم الضيوف "
فُتح الباب... وتمت مراسيم الاستقبال... بين فالح من جهة... والضيفين من جهة أخرى... وبعد لحظات... كان فالح وضيفاه في غرفة الاستقبال... في الدور الثاني... وكانت كلمات الترحاب تتقاذفها الألسن... والرد يبدو بطريق مُعدَّة مسبقاً.
ناول فالح ضيفيه فناجين القهوة... التي وضعت من قبل مع –الترمس-... على طاولة صغيرة... وقال جابر :
-" أنا جابر... إمام المسجد... وهذا الشاب هو حسان... ولابد أنك فالح... أخو جواهر..."
-" معروف معروف... أهلاً وسهلاً بكما "
بدأ جابر يجسُّ النبض في كون فالح يعرف سبب مجيئهما أم لا... وعندما تبين له أنه لا يعرف شيئاً... أردف قائلاً :
-" يقول الله سبحانه: ) هو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجاً... لتسكنوا إليها... وجعل بينكم مودة ورحمة (... يا أخ فالح... هذا الشاب صديق عزيز... وهو ممن أثق فيهم ثقة مطلقة... مُتَديِّن... وحسن الخلق... ولا نزكيه على الله... وقد أتينا الآن... لنطلب يد جواهر... له... وسلامتك "
- " أهلاً وسهلاً ومرحباً... هذا بالتأكيد مما يسعدني كثيراً... جواهر فتاة طيبة... وتستحق كل خير... والشاب هذا... يبدو فعلاً أنه طيب... )الطيبات للطيبين( "
امتعض حسان قليلاً عندما سمع هذه الآية... لكنه استغفر الله... لا لشيء... ولكنه تذكر العجوز ضاحية... وتذكر تلك المرأة... غريبة الأطوار... التي تكرهه من كل قلبها... إنه يحاول أن يتناساها:
-" لا يليق أن نتذكر من لا يحبنا... في أوقات سعادتنا...صحيح أنني شخصيا... لا أكرهها... ولكن لا شك... قلبي نَفَر منها... إنها مع رقة أخلاقها مع العجوز... إلا أنها غريبة الأطوار حقاً... الغريب أن المسكينة ضاحية... تريد أن تزوجني إياها... هـ... هـ... هـ... لو لم يكن في الدنيا إلا تلك المرأة... لما فكرت في الزواج بها"
قطع أفكار حسان تلك قول فالح:
- " هل تعلم جواهر شيئاً عن الموضوع؟ "
أجاب جابر:
- " ربما... لا أدري... ولكن... وقبل كل شيء... يجب أن تعلم يا أخ فالح... أن حسان متزوج... وله أولاد "
-" أنا لا أملك القبول أو الرفض... الرأي الأول والأخير لجواهر "


9- الضباب يلف العريس

جواهر جالسة هناك... في غرفتها في الدور الثالث... لقد ازدادت دقات قلبها... أصبحت أشبه بمضخة ماء... وهي تفرك أصابعها ويديها بشدة... وأوهامها الثقيلة عادت تصارع قلبها من جديد... وهي الآن أشد وطأة... لأن الفأس وقع في الرأس... أصبح الوهم حقيقة... لم يعد هناك أي طريق يمكن الإفلات من خلاله خارج الحلبة التي رُبِطَتْ جواهر بأكثر حبالها.
عادت الأسئلة المُملة... ذاتها... تتراقص في ذهن جواهر:
-" كيف سيكون هذا الزواج؟... ولماذا أقحمْتُ نفسي ثانية؟... ألم أكن سعيدة في وحدتي؟... هل سيظلمني؟... هل سيحتقرني؟"
وخلال مصارعتها لتلك الأفكار... استأذن عليها فالح قائلاً:
-" جواهر... تعالي أريدك "
أقبلت جواهر في تسليم تام... في حين قال لها فالح:
-" تعالي أريد أن نجلس لدقيقة "
وعندما جلسا... أكمل قائلاً وهو يبتسم:
-"هل عندك علم بالموضوع... الذي جاءا من أجله؟"
-"نعم"
جواهر لم تشأ أن تكذب... لا شيء يهمها الآن... المهم أن تكون راضية عن نفسها... قال فالح:
-"جميل... إذن... الرجل يريد أن يراك... هذه هي السنة... وتَرَيْنه أنت أيضاً... أليس كذلك؟"
مسحت جواهر دمعتين بمنديل كان في يدها... لا أحد يدري حتى الآن... هل هما دمعتا فرح... أم حزن؟... ثم قالت:
- "لا مانع... أنا جاهزة"
قام فالح منصرفا... وتغيب... في تلك الأثناء... تواردت أفكار كثيرة على ذهن جواهر... قطع حبل أفكارها تلك... صوت سمعته للتو ينبعث من أسفل الدرج... يبدو أنه صوت الزوج… تحركت جواهر في عجلة لتعدل من جلستها... ولكنها في أثناء ذلك... دخلت في حيرة:
-" ولكن... ما هذا الصوت الذي سمعته؟... غريب... هل يمكن؟... لقد سمعته من قبل... إنه صوتٌ... مدفون في ذاكرتي... ولكن... متى يا ترى سمعته؟... ومن هو صاحبه؟"
أفكار كثيرة... قَذَفَتْ بنفسها فجأة على صاحبة الفستان الأزرق... جواهر:
-"كيف يكون شكله؟... وما هو لونه؟... ما طوله؟... ما عرضه؟... ما ارتفاعه؟... ما لون ثوبه؟... وهل يلبس غترة حمراء أم بيضاء؟... وهل يلبس عقالا!... وأخيراً... ما هي أخلاقة؟... يا ترى!... ما هي أخلاقه ؟!"


10- الخطوات البطيئة

كان الصوت منبعثاً بكل هدوء:
-" السلام عليكم ... "
لقد تكرر الصوت... على أذن جواهر... أكثر من مرة... هي لا تسمعه فقط... وإنما تفكر فيما وراءه... والآن قالت :
-" وعليكم السلام... تفضل "
دخل ذلك الرجل... بدا وأن عرقه يتقاطر خجلاً.... نظرت جواهر نحوه... حدثت نفسها:
-" الله... ما أروعه! "
كادت جواهر حين رأته أن تَفْغَر فاها أكثر وأكثر... وأن تفتح عينيها أكثر وأكثر... لقد انْسكبت السكينة عليها كالمطر الغزير... والطمأنينة تسري بتدفق في جميع أوصالها... كما يسري الماء في جذع الشجرة... أو شُعيرات الورقة الخضراء.
دخل الرجل... وجلس قبالتها... ولكن:
-"هل هذا هو زوجي؟... أوه... هذا ليس زوجاً... بالطبع... إنه النعمة... عيناه الصافيتان... لهما بريق أجمل من بريق الذهب... إنه بريق الإخلاص والصدق... ونوره الملائكي يشاطر المصباح ضوءه... بل ويمنح ما حوله ضوءاً أعظم... يا الله... كل أسرار الخير كُتبت على جبهته... التي لا تخلو من أثرٍ دقيقٍ للسجود"
ازدادت مطالعة جواهر... وبدا وأن نظراتها ذات عمق ودقة... لا تدري جواهر لماذا ذهب كل حيائها وخجلها من الرجال؟... وكرهها كذلك... أحست أنها تقف أمام جزء منها... جزء لا يتجزأ أبداً... إنه جزء... فقدته من قديم... واقتربت منه الآن... فهل سيكون لها أن تندمج معه... أم أنها في حلم؟.
-" لا لا ليس حلماً"
ازداد تدقيقها في الشاب... أكثر وأكثر... وفجأة صرخت بصوت خفيف... وصكت وجهها... وقالت في دهشة:
-" أنت !! ؟؟ "
ارتعش حسان في مكانه قليلاً... وخاف... إنه منذ أن قعد على مقعده هذا... وهو مُطْرِقٌ إلى الأرض... كان يريد أن يتشجع أكثر... وينظر إليها... ولكنه لم يقدر... لقد انْتَبهَ الآن... عندما صرخت... نظر إليها... ولكن... فات الأوان... لقد غطَّت وجهها بكفيها... وبدأت تبكي... لم يستطع حسان... أن يراها.


11- ذكريات

جواهر تدكرت للتو... وعرفت من يكون هذا الرجل... لقد ارتسمت صورته في مخيلتها من قبل... تلك الصورة الملائكية... التي قَدَّستها من أول لحظة رأتها... صورة الرجل الطيب... الذي يضحِّي بالكثير... من أجل امرأة عجوز... لا تمتُّ له بصلة... يُحضر لها الطعام... ويُساعدها على الوضوء... بل حتى على الذهاب للخلاء... ذلك الرجل... الذي يفعل الخير لوجه الله وحده... لا يرجو مَديح أحد... ولا ثناء أحد... ذلك الرَّجل... الذي ابتسم لها عندما رآها في منزل العجوز... ولم ير وجهها... ولكنه ابتسم لها ابتسامة الشكر الجزيل... لأنه أحس أنها تسير معه في الطريق ذاته... طريق الخير والإحسان.
وابتسم لها مرة أخرى... فَزَجَرَتْهُ... نعم زجرته... وهي الآن تعرف لماذا زجرته؟... وتعرف أيضاً لماذا تضيق نفسها ذرعاً كلما سمعت من ضاحية قولها... ) الطيبات للطيبين(؟.
أسرار جواهر المواراة... أصبحت الآن مكتوبة على لوحة دعائية كبيرة... نعم... لقد أحبَّت هذا الرجل مع أول نظرة ألقتها على وجهه... وأحبته في كل وقت... لكنها تجاهلت مشاعرها... لأنها كانت تظن أن العبث كله سيُدركها... لو فكرت أن تتزوج رجلاً عظيماً... مثل هذا الرجل... إنَّ تجربتها في الحياة... كَتَبَتْ على جميع آمالها الشقاء... فلم تعد تحلم بأحلام جميلة... ولا مستقبل جميل.
جواهر... إنها تبكي الآن... ولكنها تضحك وتضحك... بصوت خافت... كلما طافت حول ذهنها... صورته البديعة... لم تعد تبالي بشيءٍ... بعد أن تحقق الشيء الذي ظَنَّت يوماً ما... أنه من أبعد المستحيلات... وحينها... غضَّت الطَّرْفَ عنه... وسخرت منه.
جواهر الآن تريد أن ترفع وجهها إلى السماء... وتقول:
-" اللهم لك الحمد... أيعقل!... هل الرجل... زوجٌ لي؟"
كادت جواهر أن تقوم... وتسجد لله شكراً... من حقها الآن أن تزيل غشاوة كرهه المصطنعة... وتظهر حبها المتلاطم في أرجاء صدرها... تلاطم البحر الزاخر.
وأخيراً... توقف نهر الدمع الحار... عن الجريان... وبدأت قطرات باردة من الدموع... تخرج في هدوء... وتُخرج معها آلام السنين البائدة... وتمسح كل مخلفاتها.
جواهر يشرق وجهها دون مقدمات... بابتسامة ساحرة دافئة... على أرضٍ كأرض موسى... انحسر عنها موج القلق المالح ... ولم تشرق عليها شمس من قبل... بدت مثقلة بثلوجٌ كثيفة من الحيرة... في قلب حسان اللنابض... قال يحدث نفسه:
-" لماذا تبكي هذه المرأة؟... ولماذا تضحك؟... لماذا صرخت منذ قليل؟... ولماذا صمتت الآن؟... ما السر؟"


12- شيء عن الجمال

دقق حسان النظر في ملامحها... بدا الوجه بارعاً في الجمال... جمالٌ يعشقه حسان... ويعشقه كل من يجيد التماس علامات الجمال الحقيقية... جمالٌ خلاب... لم ترسمه مَسْكَرة... ولا –روج-... ولم تَجْرِ عليه مسحة مكياج... جمال صنعه الإيمان... وأشرق فيه الطهر... وأبْدع تقاسيمه الصدق والإخلاص.
تأكد لحسان كمال جمال فاتنته النادر... الذي يعجز عن رؤيته كل خبراء الجمال... ولا يصلون أصلا للقدرة على تقييمه... حين اخترعوا فكرة ملكات الجمال.
انبهر حسان كثيراً... فغر فاه... وفتح عينيه... ودقق النظر... أكثر... وأكثر... وشعر أن من حقه أن يصرخ... كما صرخت... وأن يبكي... كما بكت... وأن يضحك كما ضحكت... إنها جميلة ورائعة.
حسان أحسَّ أنه يعرفها منذ زمن بعيد... أحس أن لها في قلبه مكاناً عظيماً... طالما غابت عنه... والآن حلَّت فيه... جواهر تنظر إلى حسان... وحسان ينظر إلى جواهر... والألسن الصامتة تُضْفي رهبة ساحرة على المكان... والأعين أخذت كامل راحتها في الحديث... الحديث الذي لا يمكن أن يكذب أبداً... لأنه صورة صادقة لما في القلب.
كل منهما يحس بالحرج من الكلام... إلا أن الخجل الذي جثم على حسان كان أشد وأنكى... جواهر أحسَّت بشجاعة كبيرة... تؤهلها فتح مغاليق الكلمات المحكمة... لذا قالت:
-" أنا سعيدة برؤيتك "
-" شكراً "
هكذا أسعفت الظروف حسان... بهذه الكلمة.
-" هل تريد أن تسألني عن شيء؟ "
قال حسان في شيء من الارتباك:
-" كلمة واحدة... سأكون صادقاً فيها... وأرجو ألا تلوميني "
-" تفضل "
-" صدقيني... لقد شعرت الآن... بأني لا أستطيع الاستغناء عنك... مطلقاً "
-" إذن أنت موافق على الزواج "
-" نعم... وأنت ؟ "
-" لقد بدا لي أنك رجل... لا يمكن لامرأة أن ترده "


13- على ما يرام

السكون الذي بدأ يعم المكان من جديد... بدده في تلك الأثناء... نحنحة فالح... الذي لم يلبث أن دخل... لقد كان دخوله ذاك... في الوقت المناسب... لقد أنقذ الموقف... الذي ستتعثر فيه جميع الكلمات.
وقام حسان ساعتها مع فالح... إلى غرفة الاستقبال... كان الشيخ جابر في الانتظار... وعند رؤيته لهما... قام مستقبلاً حسان... وقال في فرح :
-" إذن نبارك؟... ألف مبروك "
-" الحمد لله... كل شيء على ما يرام "
-" إذن تقرر الزواج "
-" إن شاء الله "
نظر جابر إلى فالح وقال :
-" خير البر عاجله... ما رأيك... في عقد القران الليلة؟ "
-" الليلة!... بكل هذه السرعة؟!"
-" هل لديك مانع؟"
-" والله... أنا موافق... وما المانع... إذا لم يكن لدى العريسين معارضة؟ "
نظر جابر إلى حسان... وابتسم... وقال :
-" نعم هما موافقان... اطمئن "
-" إذن على بركة الله "
انصرف فالح مسرعاً... ذاهب إلى أخته... وعندما وصل إليها سألها :
-" ما رأيك؟ "
-" إنه رجل كفءٌ كريم... ولا أستطيع أبداً أن أرده "
-" هل أنتِ واثقة مما تقولين؟... أخشى أن يكون مثل... "
-" كلا... كلا... لقد قرأت عينيه... ما رأيك أنت فيه ؟"
-" صراحة... لقد أحسست بالراحة تجاهه... وهو كما يبدو صادق ومتواضع... ويناسبك... ولكن... لقد تعوَّدت ألاَّ أحكم على الناس من ظواهرهم... الشك في الناس مقدم على الثقة"
-" ربما... لم تتعود من قلبك أن يَصْدُقَكَ... أما أنا... فقد حدثني قلبي عنه... ومن أول مرة رأيته فيها... اللهم لك الحمد "
-" أنتِ متفائلة... جيد... هذا يسعدني... ولكن... قولي لي... ما رأيك... هل يكون القران هذه الليلة؟ "
ابتسمت جواهر وأطرقت برأسها... قال فالح وهو يخرج:
-" السكوت علامة الرضا "
من هناك... أقبل فالح ... قال جابر بعد أن رآه:
-" يا رب لك الحمد ... أرجوك يا فالح... أحضر لي الهاتف"
ابتسم فالح... وعاد أدراجه بسرعة... ولم يلبث طويلا... وعندما أحضر الهاتف... تناوله جابر منه... ووضع السماعة على أذنه... ثم طرق الأرقام بسرعة... وبدأ الاتصال.
-" الشيخ قاسم "
-....
-" أرجو أن لا تكون مشغولاً هذه الليلة "
-....
-" حالة زواج طارئة "
-....
-" لا عليك... سأحكي لك الحكاية فيما بعد... هل تستطيع الحضور؟ "
-...
-" إذن سيأتيك ابني بعد ربع ساعة... وستأتي معه إن شاء الله "
-....
-" لا... لا ليس هناك كلفة... لأنه سيذهب للسوق... وستأتي معه بعد ذلك... شكراً لك"


14- وليمة

مر الوقت بسرعة... ثلث ساعة وطُرق الباب... وفَتَح فالح... إنه يرى المأذون... وأربعة أفراد آخرين... جلس الجميع جلسة رسمية هادئة... وتم عقد القران بحضور الشهود... مرت عشر دقائق... وطرق الباب من جديد... وفَتح فالح... إنه يرى خمسة رجال آخرين... يبدو أنهم أقارب لجابر... أو لحسان... استقبلهم فالح... وهو لا يدري -ما الحكاية بالضبط-... وبَعد خمس دقائق... أخرى... طرق الباب... وفتح فالح... إنه يرى محمد ابن الشيخ جابر... وهو نسخة مصغرة من والده... ابتسم محمد لفالح... وقال في أدب:
-" العشاء في السيارة... يا عم فالح... هل ممكن تساعدني... في إدخاله؟"
-" أي عشاء؟ "
-" لقد كلفني أبي بعد صلاة العصر شراء خروف... والذهاب به إلى المطبخ... وهو الآن موزع في ثلاثة صحون... مع الرز... هل تساعدني؟ "
ابتسم فالح... وشعر بشيء من الخجل... وتخالطه الدهشة:
-" جابر... هذا الرجل المذهل... كيف فعل هذا كله؟... ثم ... كيف فاتتني؟... صحيح... هؤلاء ضيوف... ومن هو في مكاني... كان من الواجب عليه إكرامهم... ولكن... لماذا يفعل الشيخ كل هذا؟... سبحان الله!... أناس خلقوا لفعل الخير... الله!... لو كان الناس كلهم مثل جابر... إذا... لما انهدت الأرض على رؤوس أصحابها"
قال محمد :
-" هل تساعدني يا رجل؟ "
-" نعم... نعم المعذرة... "
حُملت الصحون... ووضعت على سفرتين منفصلتين في غرفة الطعام... وأدخل محمد كرتوناً من البرتقال... وآخر من الموز... وثالث من التفاح... ورتبها بطريقة بدائية على المائدة... قال فالح في اهتمام:
-" انتظر يا محمد... علينا أن نغسل التفاح "
-" يا رجل... كُل... وتوكَّل... على الله "
-" كل وتوكل... إي والله... صدقت... كل وتوكل على الله... هـ هـ !! "
كان الوقت يقارب العاشرة والنصف ليلا... اتجه فالح للضيوف في المجلس... وقال في حديث رسمي :
-" أهلاً يا جماعة... حياكم الله... تفضلوا إلى وليمة زواج أختي جواهر... بالشاب حسان"
كان جابر بجوار حسان... مال نحوه قليلاً... وقال:
- " تفضل يا شيخ حسان "
-" انتبه... أنا الآن لست شيخا... وإنما شاب "
قال جابر بصوت خافت:
-" صدقني... أنت أعظم شيخ "
-" جزاك الله خيرا... أيها الشائب... جابر "
هـ ... هـ ... هـ ...


15- طقوس اجتماعية

خلال نصف ساعة... تم للبطون نصف الجائعة... التهام ما أمكنها التهامه من الرز واللحم والفاكهة... وبدأ الرجال يقومون من حول المائدة... وكل منهم يقول:
-" جاد الله عليكم "
اكتمل المجلس بالضيوف من جديد... وبعد تناولهم للشاي... بدؤوا في الاستئذان... واحداً بعد الآخر.
أما حسان... فهو كالمشدوه في كل تصرفاته... إنه ترك قلبه في الغرفة المجاورة... وأخذ جسده إلى هنا... وعندما قام ليأكل... لم يكن لديه أدنى شهية للأكل... كان يحس أن لذة خفيفة تدغدغ وجدانه... رأسه يعتمل بآلاف الأفكار... والمستقبل يبدو جميلاً مشرقاً... وإحساس غريب... يجعله يتخيل صورة جواهر... اللؤلؤة النادرة... أو...الجوهرة النادرة... أو... الكم الغفير من الجواهر النادرة:
-" إنها حقاً جواهر... اسم على مسمى... الجواهر جميعا تجتمع في ذلك الجسم النحيل... لقد أحس بالطمأنينة تجاه الحياة... هذه الحياة ليست غابة موحشة... بل هناك كثير وكثير من الطيبين... والطيبات... يجدهم من بحث عنهم... نعم... ابتسام منهم... وجواهر أيضاً منهم... وأيضاً... ربما تلك المرأة الشريرة... التي لقيتها عند العجوز ضاحية... لعلها منهم... ربما... أوه كم أكرهها!... وأنا أيضاً... أرجو أن أكون منهم... ولكن... لماذا أكره تلك المرأة الشرسة... الشريرة... ثم أضعها معهم؟!... ربَّما ظلمتها... ربما كنت مخطئاً عليها... ربما فهمت ما قامت به بطريقة خاطئة... قد يكون لديها العُذْر... على كل... سامحها الله... وغفر لها... آه لو عرفتُ حقيقتها... وحقيقة مشاعرها نحوي... ربما كانت ستعجبني... وربما كانت هي زوجتي الثالثة... هـ... هـ"
نظر جابر إلى حسان... الجالس بجواره... دهش عندما رآه يضحك من دون سبب... وكزه برفق... ونظر إليه بتأنيب... وقال بهمس:
-" ليس هذا المكان... مكانا للضحك... من دون......"
لقد كانت أحاسيس حسان وهو يسبح بخياله في هذه الأفكار لا توصف... لقد نسي الأكل... الذي لم يستطع أن يتذوقه كما يتذوقه الناس... عندما قام الجميع للعشاء... ونسي ما يتكلم فيه الجالسون... من قضايا ذات أبعاد متشعبة... كل منهم يتكلم فيما لا يجيد... ولا أحد منهم يُصَدِّقُ الآخر... بل ربما يقتنع بالرأي المخالف... ثقة منه في كذب الجميع... ومع ذلك... فالجميع يتلذذون بهذه المجالس .
أخيراً اختلطت أفكار حسان بأصوات بقية الحاضرين وهم يستأذنون للانصراف... وقام حسان معهم للانصراف... كان لا يفكر فيما يفعل... أصبحت حركاته مبرمجة مثل حركاتهم... لأن علقه ليس في موقعه الصحيح... وهم في الواقع يفكرون عنه... لكن الشيخ جابر أمسكه بيده وقال:
-"اجلس يا حسان"
بالفعل جلس حسان... وبعد ذهاب جميع الضيوف... قام جابر مستأذناً... وقام حسان معه مستأذناً... قال له جابر :
-" اركد... إلى أين؟ "
- " إلى منزلي "
-" منزلك؟... هل جننت؟... هذا منزلك "
-" ماذا؟...كيف؟ "
-" أليست جواهر زوجتك؟ "
-" ماذا تقصد؟... لم أفهم! "
ابتسم جابر... وابتسم فالح... وقال جابر:
-" أقصد أنك ستبيت هنا... عند زوجتك جواهر "
-"أبيت... هنا؟... ماذا تقول؟... لا...لا... لا... أرجوك يا جابر... هذا مستحيل... صعب جداً"
-" بل ستبيت... المسألة ليست على كيفك "
-" عجيب!... أنت تمزح!... وزوجتي ابتسام... هل فكرت في ذلك؟... بالطبع لم تفكر... ماذا ستقول عني؟ "
-" سهل... اتصل عليها... وأخبرها أنك ستنام في الخارج... لأمر طارئ... اطلب منها ألا تقلق من أجلك "
-" هذا أمر صعب... ثم ... أنا لم أتجهز نفسياً "
-" لا يا حسان... يجب أن تأخذ الأمور ببساطة "
-" لعلها هي لم تتجهز "
-" اطمئن لقد أخبرني فالح أنها جاهزة... ليس لديها أي مانع في أن تكون الدُّخلة هذه الليلة "
استمر حسان يفكر قليلاً... وعندها قام فالح وهو يقول:
-" أنا الآن أستأذنكم يا جماعة... البيت بيتك يا حسان... ونحن في خدمتك"
-" ماذا تقصد؟ "
-" لقد أصبحتَ ربَّ هذا المنزل... بالتأكيد... ونحن ضيوف عندك "
قال جابر وهو ينظر لحسان :
-" يا جماعة انتظروا... بقى شيء مهم... لم تفعله يا حسان "
-" أمر مهم!... وما هو؟... اعذروني... ولكن... هل هو هام في الزواج ؟"
-" جداً... جداً... إنه أحد مستلزمات الزواج "
-" وما هو ؟ "
-" المهر يا حبيبي... هل تريد الزواج بدون مهر؟ "
ضرب حسان رأسه بيده... وقال :
-" المهر... أوه... لقد نسيت... حسبي الله عليك!... أقصد... حسبي الله ونعم الوكيل... والله مشكلة... لقد أنسيتني يا شيخ كل شيء... إنك تقوم بكل التصرفات... وأنا مجرد تابع... لم أكن قادراً حتى على التفكير... ما الحل يا ترى؟ "
-" لا عليك لقد احتطت للأمر... وعندما ذهب ابني محمد ليحضر المأذون... طلبت منه أن يصرف مبلغاً من المال... من جهاز الصراف... ويشتري طقماً من الذهب... وهذه " 2000" ريال... أظنها كافية مع طقم الذهب... سلمها في يد جواهر... ما رأيك يا فالح؟... هذا عدل "
-" رأيي... والله... أنت عظيم يا عم جابر... لابد أنك سعيد جداً بعمل الخير... ليتني كنت مثلك!"
-" أستغفر الله... خذ يا حسان... هذا طقم الذهب "
ومدَّ جابر كيساً صغيراً... تناوله حسان وهو مندهش... قال جابر:
- " وأنا الآن أستأذنك... يا حسان "
وضع جابر يده في يد فالح... وانصرفا.


16- فستان... الشرعة

كل الأمور سارت على ما يرام... وبكل سهولة... والفضل في ذلك يرجع لجابر... جزاه الله خيراً... وأكثر الله من أمثاله!.
جواهر الآن جالسة في غرفتها... يدها متجهة إلى السماء... كانت تقول لنفسها:
-" الحمد لله... إن نظرة واحدة أنظرها إلى وجه حسان... كفيلة بإسعادي عاماً كاملاً... إنه رجل طاهر... عيناه تومضان ببريق الإيمان"
في تلك الأثناء... ودون مقدمات... اشتعلت في نفس جواهر... نيران مباغتة... قد ظَنَّت أنها انطفأت كلياً... إنها بعض هواجسها السابقة... هل من الممكن... أن يكون حسان... منافقاً... يلبس مُسُوح الضأن... على قلب ذئب ضارٍ؟!... لكن جواهر لم تسمح لنفسها الاستمرار في أفكارٍ مزورة... هزت رأسها بعنف... واستعاذت من الشيطان... وردَّدت:
-" سيماهم في وجوههم"
وسرعان ما تبدد ذلك الوسواس... وابتسمت جواهر ابتسامةَ الرضا من جديد .
أرخت ظهرها على ظهر المقعد قليلا... ونظرت إلى السقف... وسمحت لنفسها بالتأمل:
-" ما أكبر سعادتي!... صحيح أن ثوبي زهيد جداً... والفرح الذي أقيم في زواجي هذا... أكثر تواضعاً... ولكنني سعيدة"
جواهر تذكرت الشرعة الجميلة... التي لبستها في زواجها الأول... لقد كانت بقيمة سبعة آلاف ريال... تذكرتها بألم... ولكنها سرعان ما شعرت بسعادة بالغة... عندما تذكرت أنها أحرقت تلك الشرعة... بعد طلاقها من زوجها الأول... ابتسمت وهي تتذكر النار تُحيل الشرعة البيضاء إلى سائل من البلاستيك... لا قيمة له... وحدثت نفسها:
-" شرعتي الأولى... تماماً مثل زواجي الأول... بدون قيمة... بدون طعم... بدون ملح... مظاهر براقة... كاذبة... تلك الشرعة لم يستفد منها أحد... إلا أنا... في ليلة واحدة"
نظرت جواهر في ثوبها الذي تلبسه... مسحت بلطف على صدرها... وسحبت هواء عميقا وهي تقول:
-"إنه فستان لا يساوي مئة وخمسين ريالاً... ولكن له قيمة كبيرة... كم أحبه!... لقد استفدت منه كثيراً... لبسته مرَّات ومرات... وها أنا الآن ألبسه... بالطبع... قيمة الشيء ليست في ثمنه... وإنما في مدى فائدته لصاحبه... ها أنا أستقبل زوجي... حسان... بهذا الزِّي المتواضع... أنا متفائلة... أرجو أن يكون زواجي بحسان... كثوب فرحي هذا... يمنحني الكثير... الكثير من المعاني الحقيقية... نعم يا حسان... أنا أستقبلك الآن... لم أمنحك جمالا في الفستان... الذي أستقبلك به... ولكن... أرجو أن أمنح القيمة الحقيقية... للجمال... جمال الباطن... أنا سعيدة لأني لم أكلف نفسي شراء شرعة... أو فستان غالي الثمن... إنني أريد أن أكون جميلة في نظرك... لا بملابسي... ولكن بحبي وإخلاصي... سأجرب... وكلي أمل في أن أنجح"


17- جمال باهر

قامت جواهر إلى المرآة... وقفت أمامها... وبدأت تطالع نفسها:
-" ما هذا؟!... لقد أصبحتِ الآن... أكثر نضارة يا جواهر"
بالفعل... لقد غيرت ملامحَ جواهر تلك الساعاتُ الأربع... التي بدأت منذ رأت فيها حسان... وعَرَفَتْ أنه هو بعينه... الرجل الذي دخل أعماق قلبها دون استئذان... وتفرد بالسيطرة عليه... ولم يسمح لها أن تبدي أي مقاومة... إلا بما اصطنعته من الكراهية والبغضاء الكاذبة.
وهاهي جواهر... الآن... لقد رجعت للوراء عشر سنين... إنها الآن... ودون مجاملة... بنتٌ لخمس عشرة سنة.
جواهر... دهشت من منظرها الساحر:
-" هل صحيح... أنني أنا... جواهر... صاحبة هذا الوجه الجميل... يا سلام... الله... ما أجملني!"
تناولت جواهر بعض أدوات التجميل البسيطة... أجرتها على وجهها بكل هدوء... وفي لمحة بصر... تحولت إلى حورية صغيرة... بدأت تدور حول نفسها في دلال... أحسَّت بشيء من الغرور... وتفحَّصت فستانها باهتمام:
-" أوه... إنه يحتاج إلى القليل من الأناقة... الحقيقة... أنه لا يتناسب مع... مع... تسريحة شعري... ولا مع لون الكحل"
انطلقت جواهر إلى خزانة الملابس.... إنها تشعر بفرحة خفية... تملك عليها كلَّ دنياها... وتُشعرها أنها تحيا من جديد... دقات وجودها... وأن نبض أنوثتها بدأ يسري في شرايينها... بعد أن دخلت تلك الشرايين... في عصور مديدة من التخشب.
اختارت جواهر فستاناً أكثر أناقة... لبسته... وانطلقت للمرآة... بدأت تنظر... ثم دارت حول نفسها...قبَّلت يدها... وألقت بالقبلة على صورتها في المرآة... وكانت تتراقص خفة... قالت في نفسها:
-" لاشك أنك يا حسان محظوظ... بهذه الزوجة الجميلة... ولكن... لماذا تأخر... ولم يأتِ حتى الآن؟... هل أنتظره هنا؟... لا... لا... أمر صعب... سأنزل لاستقباله هناك... حتماً... لقد ذهب كل الضيوف... ولم يبق إلا هو... سأذهب إليه... وآخذه بيده"
وفي أثناء ذلك الحوار الخاص... طُرق الباب... ورفرف قلب جواهر.


18- فكرة... غير مناسبة

حسان... ترتجف ركبتاه... إنه يمسك في يده علبة تحوي طقماً من الذهب... وهو ذاته... الطقم الذي أحضره جابر... وبعد أن طَرَقَ بابَ الغرفة التي تجلس فيها جواهر... أحس بحرج شديد... وبدأ يفكر:
-"ما كل هذه الجرأة... التي جعلتني أتقدم... وأصل إلى هنا؟"
انقدح في ذهن حسان فكرة... إنه يشعر ببعض الجوع... بالطبع... لم يأكل من العشاء قدرا كافيا:
-" ليتني نزلت إلى التموينات المقابلة... كي أحضر منها بعض العصيرات... والفاكهة... وبعض الحلوى... إنها ضرورية... بالطبع... في مثل هذا الموقف"
وحينما لم يسمع حسان رداً من جواهر... على طرقة للباب... استقر في نفسه أنها لم تسمع بذلك الطرق... استغل الفرصة... ونزل سريعاً للأسفل... وفعلاً... وصل إلى تموينات البيت السعيد... واشترى كل ما كان يريد شراءه... وعاد نحو المنزل.


19- المطاردة

أكمل حسان طريقه في صعود الدرج... وأخيراً... دخل غرفة الاستقبال... غسل وجهة في المغسلة... المجاورة للمدخل... وعاد ليجلس على مقعدٍ في طرف الغرفة... انتظر حسان قليلاً... ثم قام... وطرق باب الغرفة التي قابل فيها جواهر سابقاً... طرقه مرة أخرى... للأسف لم يكن من مجيب... أعاد الطرق مرات ومرات... وبدرجة أقوى... لم يجبه أحد... خشي أن تكون جواهر في حال سيئة... لماذا لم تجب؟... ماذا حصل؟... عاد ثانية ليقعد على نفس المقعد.
جواهر جالسة في غرفة نومها... لقد سمعت الطرق على الباب البعيد... ولكنها تظنه على باب غرفتها... كانت تقاسي معاناة الخجل... وكانت تقول بكل رفق:
-" تفضل"
بالطبع لم يسمعها حسان... أعادت الكلمة:
-" تفضل"
ولكن لا مجيب... بدأ القلق يساورها:
-" لماذا لم يدخل؟"
الواقع أن كلا منهما ينتظر الآخر... جواهر هنا في غرفتها الخاصة... وحسان هناك في غرفة الجلوس... وأخيراً قامت جواهر... لقد عزمت على مقابلة زوجها... ستفتح له الباب... كما فتحت له قلبها من قبل... وعندما فتحت الباب... لم تجد أحداً... لقد أصيبت بخيبة أمل... أدهشها صوت تلك الطرقات... قالت:
-" لعله الوهم ... نعم أنا واهمة... لابد وأن حسان في المجلس... والضيوف لم ينصرفوا بعد... اللهم طولك يا روح"
عادت جواهر... وجلست... مرت عشر دقائق أخرى وهي تنتظر... لقد نفذ صبرها... عزمت الآن على الذهاب والاطمئنان على زوجها... وفي الوقت ذاته... قام حسان ليبحث عن زوجته... اتجه كل منهما خارج الغرفة التي كان يجلس فيها... وفي منطقة ما من المنزل... التقت النظرات العطشى... التقت في صمت جميل... وانطلقت الابتسامات الحلوة... من ثغريهما وتقدما خطوات أكثر... وقبّل كل منهما الآخر... وجلسا على مقعد قريب... هناك... وقامت جواهر في لهفة... لتحضر العصير والفاكهة... وتَفَقَّدَ حسان عصيره... وفاكهته التي اشتراها... لم تكن بجواره... لقد نسيها تماماً... إنها ولاشك في المجلس... قالت جواهر بعد أن أحضرت العصير والحلوى:
-" تعال إلى الغرفة الأخرى"
- " ولكن... هل أساعدك في حمل أي شيء؟ "
- " شكراً إنها خفيفة "
- " إذن أحملك أنت "
كان حسان جريء هذه المرة... لقد حمل جواهر بذاتها... وجواهر في الوقت ذاته... تحمل العصير والحلوى... سارا يضحكان حتى وصلا غرفة جواهر الخاصة... وجلسا هناك على مقعدين متقابلين... وبدأ الحديث الشيق... وتأكد لكل منهما... أنه الجزء المتبقي من الآخر.


20- لحظات لا تُنسى

حسان يرتشف شيئا من كوب العصير... قد أسند ظهره للمقعد... ومدَّ ساقيه للأمام... وجواهر هناك... تبدو وكأنها في حالة تأهب... إنها تقرأ كل شيء حولها... لحظات سعيدة سريعة... تقوم بعملية تنظيف لماضيها الملبد... نظرت إلى المرآة المعلقة هناك في الجدار... كادت تقوم لتهنئ نفسها على هذه اللحظات الجميلة:
-"الحمد لله... يخاف الله... وحسن الخلق"
الكلمات الجميلة تتقاذفها الأفواه الحلوة... قالت جواهر:
-" وجودنا مع بعضنا... يعتبر قمة الرومانسية "
-" أنت رائعة يا جواهر... وكلامك رائع "
بدأت السهرة بين العصفورين في القفص الذهبي .


21- لحظة بمئة سنة

جواهر تجلس على طرف السرير... وتُرَبِّتُ على كتف زوجها النائم... وتقول:
-" اصح يا نائم... اصح يا نائم... "
-" ماذا يا ابتسام؟... ماذا تريدين ؟ "
-" ابتسام!... صباح الخير... أنا جواهر ... "
-" جواهر؟... بسم الله الرحمن الرحيم... من جواهر؟.... "
حسان فتح عينيه... ونظر... لقد تذكر الآن أنه في منزل جواهر... ابتسم... وابتسمت قائلة :
-" هيا... الفطور جاهز "
مر وقتٌ قصير... وجلس الحبيبان على المائدة... الفطور يشعر بانفتاح الشهية:
-" إممممــــه"
البيض... عيون... والزيتون... والجبن... وأشياء أخرى... ولكن... الأجمل في كل ذلك... الخبز... خبز البر البلدي... المصنوع في الفرن... بالطبع كان بيد جواهر:
-" باسم الله"
بدأ الجميع... في تناول رزق الله... يد جواهر تمتد إلى فم حسان... كثيرا... ويد حسان تمتد إلى فم جواهر... بشكل أقل... ولكن...الجميع سعداء... واللحظات هنا ثمينة... إنها بمئة سنة... قليلة هي اللحظات الثمينة في حياة الإنسان... ولكن الإنسان حتما سيصادفها... وإن صادفها... فعليه ألّا يسمح لأحد أن يسلِبها منه... لأنها ملكه وحده.
وبعد الانتهاء من الفطور... قام حسان مستأذناً... كان يريد الذهاب إلى ابتسام... شَيَّعته جواهر... وقبل أن يخرج... نظر إلى المرآة القابعة بجوار الباب... تمعن نفسه... كان أكثر حيوية ونشاطاً... ونظرت جواهر أيضاً للمرآة... إنها بجواره... بدت صورتها إلى جوار صورته... ابتسم لها حسان... وقال :
-" لن أذهب إلى ابتسام "
-" ماذا... خيراً إن شاء الله... لماذا "
-" قررت أن أذهب أنا وأنت للنـزهة... سنتناول الغداء هذا اليوم سوياً "
-" ولكن... قد يُغضب ذلك... زوجتك"
-" أنت أيضا زوجتي يا جواهر... ابتسام سوف يكون لها يوم آخر للنزهة... إنها تستحق ذلك... ثم أنا بالفعل... أحب العدل"
-" مادام الأمر كذلك... سأكون سعيدة جداً... ولكن... أنت ستكون ضيفي... يا الله... سأعود للحياة... اسمع يا حسان... ستكون ضيفي... في أكبر فندق... في البلد "
-" هـ... هـ... فندق !!... فندق ماذا ؟"
-" الفندق الذي تختاره "
-" أنا لا أحب الفنادق... ولا أحب الترويح الصناعي... أنا أحب الترويح الحقيقي "
-" الحقيقي!... ماذا تقصد؟ "
-" سنخرج للطبيعة الطلقة... للهواء النقي... وأنتِ ستكونين ضيفتي... ولكن على طريقتي... الخاصة... التي تبدو أقرب إلى طبائع البدو "
" ماذا؟... هل أنت بدوي؟... هـ.... هـ... "
-" نعم أنا أعرابي... سأحضر الحطب... وأشعل النار... وأحمل قوسي... وأضع فيه سهما من كنانتي... وأصطاد غزالا... أو... أو تيساً مذبوحاً... وأشويه نصف استواء... ثم نلتهمه ... "
تراقصت السعادة في قلبيهما... ثم انطلقت جواهر مسرعة... وأعدت جميع أغراضها... ولحقت بحسان... الذي سبقها للسيارة .


22- موقع ابتسام

ركب الزوجان السيارة... وانطلقا... وبعد السير لمسافة قصيرة... بدا وأن جواهر مستعدة لتقول كلاما ما... تجهزت لذلك... ثم قالت:
- " حبيبي... ما اسم زوجتك الأولى؟"
-" أوه... لماذا هذا السؤال؟... لننسَ الآن"
-" لماذا؟... هل تخشى مني؟"
- " كلا... ولكن... أنتن معشر النساء... أسهل سهل... وأصعب صعب!"
- " صفها لي... إذن"
-" أصدقك القول... وأرجو ألاَّ يزعجك... الواقع... أنني أحبها حباً كبيراً... إنها جزء غالٍ من حياتي... هي قطعة مني "
-" هل هي متدينة مثلك؟ "
-" أنا؟... على كل... أنا لا أشعر أنني متدين... بشكل كبير... أحس بالتقصير "
-" يكفي أنك... حسن الخلق... يكفي أنك لا تحمل الحقد... ولا الحسد... ولا تتكبر "
-" صدقيني... ابتسام متدينة... متدينة بحق... إنها تقوم في بعض الليالي... وتصلي ركعتين... وتوقظني"
-" هل تقوم أنت... عندما تدعوك للصلاة؟"
-" أقوم... ربما... أقوم مجاملة في بعض الأحيان... وأما أكثر الأحيان... فأنا أفضل النوم "
-" هل هي تحبك كما تحبها؟ "
-" أظن أنها تحبني أكثر مما أحبها... إنها دائماً تكاد تطير من الفرح... كلما دخلت المنزل "
-" تصدق يا حسان... لقد أصبحت أحبها... أحبها أنا أيضاً "
-" تحبينها!... كيف... وأنت لم تريها حتى الآن؟ "
-" من وصفك لها... أحببتها... أيضاً لأنك تحبها... لقد أصبحت أحب كل شيء تحبه "
-" هل أصدقك القول يا جواهر؟ "
-" تفضل... قل وبدون حرج "
-" لم أتوقع ذات يوم... أن يقع في قلبي حب آخر... غير حبي لابتسام... الآن اكتشفت أن قلبي يتسع ويتسع... لقد فُتحت فيه أبواب واسعة... وبدت آفاق جديدة... لقد امتد قلبي كالأفق... لتَحِلّي أنت مجاورة لابتسام... صدقيني... وبدون أن تضايقيها... إن قلب الرجل يتسع لحب كبير... ومتعدد... ولا يضايق شيء منه شيئاً آخر...ولا جزءٌ منه... جزءاً آخر"
-" يا سلام... هذه نظرية عظيمة... ستُدون باسمك "
-" لن يصدقني أحد... عندما أطرح هذه النظرية "
-" أنا أُصَدِّقُكَ... عندما أسمعها منك... في أي وقت "
-" الأهم أن تصدقني ابتسام "


23- هنا يكمن الدهاء

منظر خلاب... وأشجار عملاقة... وهواء عليل... يميل للبرودة... نوعا ما... والجبال هنا شاهقة للغاية... وسيارة حسان تنساب بكل هدوء... ولكنها بين الفينة والأخرى... تحتاج ل" نمرة أقوى"... تهتز أظهرهم مع كل نمرة... ثم يستمر السير... كل شيء على ما يرام... وجواهر لم تفارقها ابتسامتها... أبداً... منذ خرجت... قالت وهي تلقي ببصرها للبعيد:
-" قل لي يا حسان... لماذا لا نعيش جميعاً... في منزل واحد... في منزلي؟... أنا أريد أن تعيش ابتسام معنا "
-" أوه يا جواهر... أنت لا تعرفينها إذا غضبت... أعوذ بالله... إنها تتحول إلى بركان "
-" صحيح!... ألم تقل إنها متدينة؟ "
-" نعم متدينة... ولكن... قد يتجاهل الإنسان مبادئه السامية... عند حصول الأزمات... أرجو ألا يحصل ذلك... أبداً "
-" لماذا أنت خائف؟ "
-" مجرد عِلمها بأني تزوجت... قد يجعلها تنسى كل المودة "
-" مستحيل!... تنساها بهذه السهولة؟ "
-" وأكثر... أنا أعرف غَيرتَها... إنها تلقائياً ستقول... غدرت بي... ألقيت بحبي في البحر... طعنتني من الخلف... يا غادر... يا لئيم... وقد تذهب لمنزل أهلها... صدقيني... كأني أنظر إليها الآن... وهي تُرغي وتُزبد "
-" غريبة... هل يعقل فعل ذلك... من امرأة متدينة؟ "
-" لو كنت مكانها... بالله ماذا كنت ستفعلين؟ "
-" لم أفكر... ولكن... أظن أنني سأعرف حدودي وحقوقي... لن أطالبك بحقوق ليست لي "
-" أنتِ تقولين هذا الكلام... لأنك لم تخوضي التجربة "
-" أنا لم أخض التجربة!... كلا يا حسان... صدقني... أنا أكبر مُجربة في هذه الدنيا... إن حياة الوحدة التي عشتها... ومن قبلها حياة البؤس مع زوج لا يخاف الله... أقسى من أن يتحملها إنسان... أنا مسلمة... وما دمت كذلك... فيجب أن يسعدني خروج امرأة مظلومة... أو مقهورة... من وحدتها... ومن قهرها... الأنانية وحدها هي التي تحول دون الإنسان وإنسانيته... صدقني... لو علمت أنك تريد الزواج من زوجة ثالثة... وكانت تلك الثالثة تعاني ولو نصف ما كنت أعانيه... لأعنتك على الزواج بكل ما أملك "
-" جواهر... أرجوك لا تقولي هذا الكلام "
-" لماذا؟ "
-" إنني أحب ابتسام... وأريد أن يزيد حبِّي لها... أنت الآن تدخلينني في مناقصة "
-" أستغفر الله... ولكن... كل ما قلته... قلته لأني لا أظن أن ابتسام ستغضب كثيراً... ومع ذلك... فقد فكرت في جميع الترتيبات اللازمة... أولاً... أنا لست طماعة بأي حال... أنا أعرف ماليَ... وما عليَّ... لن أطلب منك خلال الأسبوع سوى زيارة أو زيارتين... أتمتع فيها برؤية وجهك المضيء... وأسمع صوتك... سيكون ذلك كافياً بالنسبة لوحدتي... قد نحدد الموعد... حسب شغلك"
ابتسم حسان وقال:
-" ما رأيك... لو أتيت هنا يومي السبت والثلاثاء... بعد صلاة العصر؟"
-" نعم... ونبقى سويا... إلى الساعة العاشرة... ذلك نعمة من الله... وجميع أيام الأسبوع أنت عند ابتسام... وكذلك يوم السبت والثلاثاء... تخرج من عملك وتذهب إلى منزلك هناك... وتتغدى... وتنام... وتأني هنا عصراً... ثم تعود إلى منزلك بعد العشاء... والأهم أن تتعشى من يديَّ... في هذين اليومين... أليس حلاً جميلاً ؟"
-" الحل جميل جداً... يا سلام... أنت طيبة يا جواهر... لقد تعلَّمتِ من الحياة أخلاقاً رائعة... ولكن... ألا يكون هناك حرج من وجود سيارتي أمام المنزل... ودخولي... وخروجي أيضاً"
-" أمام المنزل؟... سيارتك؟... صدقت... ولكن لا مشكلة... سأفكر في الأمر "
-" تفكرين؟... يا حبيبي... ليس كل مشكلة لها حل "
-" أنا حلالة المشاكل... صدقني... بتفكير بسيط... ستُحل المسألة "
-" فكري "
-" أم... فكر... فكر... معي ... "
-" .................... "
-" وجدتها "
-" وجدتها... هاتها بسرعة "
-" قل لي... هل منزلك واسع؟"
-" نوعا ما... هو شقة... إنه يشكو الضيق قليلا"
-" ممتاز... ذلك ما أردت "
-" لا أفهم "
-" ستفهم الآن... قل لي يا حسان... هل رأيت الغرفة الخارجية... التي في فناء منزلنا؟"
-" لا... لم أرها"
-" إنها غرفة واسعة إلى حد ما... يفتح بابها على الشارع... وفيها دورة مياه... ولها باب سري... يفتح على فناء المنزل... إنها عند تصميم المنزل... كانت معدة للسواق... لم يكن ثمة سواق... ثم استأجرها أحدهم... على عهد والدي... وجعل منها مكتبا لبيع العقارات... ثم تركها من مدة"
-" وما ذا سنفعل بالغرفة... هل ستحل الغرفة مشكلتنا؟"
-" نعم... أنت ستستأجر الغرفة مني... بشكل صوري... وتؤثثها بأثاث مكتب راقٍ... وستقول لزوجتك... إنك ستستأجرها لتضع فيه مكتبة لك... ولكي تستقبل فيها بعض أصحابك... وربما لتجعل منها مكتبا لبيع وشراء العقارات... وربما ستكتب عليها مكتب حسان... وعندها سيكون وقوف سيارتك أمراً طبيعياً... وحتى غيابك عن المنزل... سيكون أمرا مستحسنا... أو على أقل تقدير... أمراً مقبولاً "
-" يا الله... هل كل هذا الدهاء من إنتاج رأسك؟ "
-" ولم لا... ألست أهلاً له؟ "
-" إن كيدكن عظيم... حقاً... عقل كمبيوتري... تصدقين ... لقد أصبح لدي اقتناع كبير... بأن قضايا الشرق الأوسط... ربما وجدت حلاً... لو تدخل في حلها نساء مثلك"
-" أنت إذن من المناصرين لمشاركة المرأة... في المجالس البلدية... لا تكن مبالغاً "
-" أنا مندهش... ولكن... كم سأكون سعيدا لو عشتِ أنت وهي في منزل واحد! "
" أنا لا أعارض أبداً... ولكن... أنت تخاف من هذه القضية "


24- السعادة الحقيقية

قال حسان لجواهر...وهو يقود السيارة... بسرعة 30 كلم :
-" يجب أن نعود قبل صلاة العصر "
-" لماذا ؟ "
-" هناك أمر مهم عليَّ أن أقوم به... ستعرفينه فيما بعد "
-" جميل... وأنا كذلك... لدي بعض المسؤوليات... علي أن أقوم بها... ولكن... هل تسمح لي بذلك؟"
-" أسمح لك... لا... لا... لن اسمح... أو سأسمح لكِ... إن لم أسمح لك فلمن أسمح؟"
مر الوقت سلسا سريعا... جواهر تستمتع باللحظات... وتنتشي مع كل نبضة حياة في فؤادها... استمتعت اليوم متعة لم يقدر لها أن تستمتع بمثلها طيلة سبعة وعشرين عاما... لقد كانت تراقب حسان في كل خطوة يخطوها... وفي كل بسمة يبتسمها... الله... إنه يعمل بجد ونشاط... لقد اشترى تيساً صغيراً... جداً جداً... وذبحه بسكين حاد جداً... أدوات الرحلة جميعاً موجودة في شنطة سيارته... لقد ذبح التيس... وجواهر ساعدته في ذبحه... كان دم التيس يسيل... ودموع جواهر تسيل حزناً عليه... ولكنها سعيدة... في البداية... ناولها الكرش... لتنظفه... قالت:
-" ما هذا!... ألم تجد إلا الكرش؟ "
-" أنا المعلم... وأنتِ العامل... يجب أن تطيعي وبدون أي نقاش "
-" الأمر لله... "
-" وبعدها عليك أن تعدي الفطور"
-" الفطور؟ ألم نفطر في المنزل"
-" الفطور هنا يختلف... كبدة التيس المشوية... صحيح هو الفطور الثاني... ولكن لا مشكلة "
-" وماذا بعد ذلك... يا معلم؟"
-" والغذاء... نعم... الغداء جزء من لحم التيس المشوي"
-" وبقية اللحم؟"
-" لا عليك... سأتصرف به"
لقد قرَّر حسان أن يحمل بقية اللحم للمنزل... بالطبع... منزل جواهر... ولكن عندما رأى فقيراً يسير على جانب الطريق... استدعاه... وناوله اللحم.
مر الوقت خفيفا... لقد تسلق الزوجان صخورا طويلة... كانا كطفلين بريئين... بل وتسلقت جواهر مسافة أطرل... لقد بدت أكثر شقاوة... كما وصفها حسان... وتسلقت شجرة طويلة... نشبت في أعلاها... واضطر حسان لإحضار السلم... كي يساعدها على النزول... جواهر حفرت حفرة... وحفر حسان حفرة... كانت حفرة حسان أطول بقليل... لذا قامت جواهر بسرعة... وردمتها... أشياء أخرى وأخرى
</div></div></div></div>

 
قديم   #4

أم التوتة


رد: رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي


رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي

حلووووووووووووووووو

 
قديم   #5

•°o.O ڪـبريآآآآآآئي O.o°•


رد: رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي


رواية:التي أحرقت نقابها د.عبدالوهاب آل راعي

مجهود تشكرين عليه بصراحه

تسلمين حبيبتي والله يعطيك العافيه ..,,

 




الساعة الآن توقيت السعودية الرياض و الدمام و القصيم و جدة 07:30 AM.


 
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024,
vBulletin Optimisation provided by vB Optimise (Pro) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.

Search Engine Optimization by vBSEO 3.6.0