في ظلال القران
في ظلال سورة الماعون
إنها تبدأ بهذا الاستفهام الذي يوجه كل من تتأتى منه الرؤية ليرى:(أرأيت الذي يكذب بالدين ?)وينتظر من يسمع هذا الاستفهام ليرى إلى أين تتجه الإشارة وإلى من تتجه ? ومن هو هذا الذي يكذب بالدين , والذي يقرر القرآن أنه يكذب بالدين . . وإذا الجواب:(فذلك الذي يدع اليتيم . ولا يحض على طعام المسكين)!
وقد تكون هذه مفاجأة بالقياس إلى تعريف الإيمان التقليدي . . ولكن هذا هو لباب الأمر وحقيقته . . إن الذي يكذب بالدين هو الذي يدفع اليتيم دفعا بعنف - أي الذي يهين اليتيم ويؤذيه . والذي لا يحض على طعام المسكين ولا يوصي برعايته . فلو صدق بالدين حقا , ولو استقرت حقيقة التصديق في قلبه ما كان ليدع اليتيم , وما كان ليقعد عن الحض على طعام المسكين .
إن حقيقة التصديق بالدين ليست كلمة تقال باللسان ; إنما هي تحول في القلب يدفعه إلى الخير والبر بإخوانه في البشرية , المحتاجين إلى الرعاية والحماية . والله لا يريد من الناس كلمات . إنما يريد منهم معها أعمالا تصدقها , وإلا فهي هباء , لا وزن لها عنده ولا اعتبار .
وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث في تقرير هذه الحقيقة التي تمثل روح هذه العقيدة وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل .
ولا نحب أن ندخل هنا في جدل فقهي حول حدود الإيمان وحدود الإسلام . فتلك الحدود الفقهية إنما تقوم عليها المعاملات الشرعية . فأما هنا فالسورة تقرر حقيقة الأمر في اعتبار الله وميزانه . وهذا أمر آخر غير الظواهر التي تقوم عليها المعاملات !!
ثم يرتب على هذه الحقيقة الأولى صورة تطبيقية من صورها:
فويل للمصلين , الذين هم عن صلاتهم ساهون , والذين هم يراؤون ويمنعون الماعون إنه دعاء أو وعيد بالهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . . فمن هم هؤلاء الذين هم عن صلاتهم ساهون !
إنهم (الذين يراءون ويمنعون الماعون). .
إنهم أولئك الذين يصلون , ولكنهم لا يقيمون الصلاة . الذين يؤدون حركات الصلاة , وينطقون بأدعيتها , ولكن قلوبهم لا تعيش معها , ولا تعيش بها , وأرواحهم لا تستحضر حقيقة الصلاة وحقيقة ما فيها من قراءات ودعوات وتسبيحات . إنهم يصلون رياء للناس لا إخلاصا لله . ومن ثم هم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدونها .ساهون عنها لم يقيموها . والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها . وإقامتها لا تكون إلا باستحضار حقيقتها والقيام لله وحده بها .
ومن هنا لا تنشئ الصلاة آثارها في نفوس هؤلاء المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . فهم يمنعون الماعون . يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية . يمنعون الماعون عن عباد الله . ولو كانوا يقيمون الصلاة حقا لله ما منعوا العون عن عباده , فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله . .
وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام حقيقة هذه العقيدة , وأمام طبيعة هذا الدين . ونجد نصا قرآنيا ينذر مصلين بالويل . لأنهم لم يقيموا الصلاة حقا . إنما أدوا حركات لا روح فيها . ولم يتجردوا لله فيها . إنما أدوها رياء . ولم تترك الصلاة أثرها في قلوبهم وأعمالهم فهي إذن هباء . بل هي إذن معصية تنتظر سوء الجزاء !
وننظر من وراء هذه وتلك إلى حقيقة ما يريده الله من العباد , حين يبعث إليهم برسالاته ليؤمنوا به وليعبدوه . . .
إنه لا يريد منهم شيئا لذاته سبحانه - فهو الغني - إنما يريد صلاحهم هم أنفسهم . يريد الخير لهم . يريد طهارة قلوبهم ويريد سعادة حياتهم . يريد لهم حياة رفيعة قائمة على الشعور النظيف , والتكافل الجميل , والأريحية الكريمة والحب والإخاء ونظافة القلب والسلوك .
فأين تذهب البشرية بعيدا عن هذا الخير ? وهذه الرحمة ? وهذا المرتقى الجميل الرفيع الكريم ? أين تذهب لتخبط في متاهات الجاهلية المظلمة النكدة وأمامها هذا النور في مفرق الطريق ?
|