رد: ( أنت لي ) رواية في غاية الروعة.......
( أنت لي ) رواية في غاية الروعة.......
الخاتمة:أنت لي!
انتهينا من التسوق, وعدنا نحمل حاجياتنا إلى الشقة. اليوم هو الثلاثون من شعبان وغدا هو أول أيام رمضان المبارك. نحن في موسم الشتاء, وصديقي العزيز يقيم في هذه الشقة الدافئة نسبيا وحيدا, ولا يجد أمامه غير الأطعمة المعلبة يتناولها على الفطور.
وبالرغم من أنني ألح عليه كي يشارك عائلتي موائد الشهر الكريم غير أنه يرفض. صديقي وأعرفه عزّ المعرفة!
"أين أضع هذه؟؟ في المخزن أم الثلاجة؟"
سألته وأنا أمسك بعلبة الزيتون الأسود فتناولها مني وقال:
"هات"
وفتحها وسكب بعض محتوياتها في طبق وقال:
"تفضل... شاركني العشاء الليلة"
ابتسمت وقلت:
"شكرا يا صديقي... أم فادي في انتظاري الآن..."
وتناولت بعض حبات الزيتون على عجل ثم قلت:
"إذن سأذهب الآن... هل تحتاج أي شيء؟؟"
فأجاب:
"ألف شكر"
وتصافحنا وغادرت شقته.
وليد يعمل موظفا في إحدى الشركات ويقيم في هذه الشقة منذ عدة أشهر بعد أن هجر المنزل الكبير الذي كان يقيم فيه وحيدا, واتفق مع عائلته على عرضه للبيع. كانت تلك خطوة مهمة في حياته وأنا من أوحى له بها وشجعه عليها وسهل له العثور على هذه الشقة, إذ أن وليد كان ليصاب بالجنون لو استمر في العيش وحيدا هناك؛ تحيط به أطياف أفراد عائلته... وذكرياتهم المؤلمة...
كان وليد بحاجة إلى مبالغ مادية يسد بها القروض الكبيرة التي كان قد استدانها من مؤسسة البحري ليغطي بها مصاريف سفر شقيقه وإقامته في الخارج...
باع سيارته الجديدة الفخمة, وسيارته القديمة التي علقت في شمال البلد, وكذلك سيارة وشقة أخيه, ومنزل عائلته في الشمال, بالاتفاق والتنسيق مع ذويه... واشترى هذه الشقة وسيارة متواضعة... وينتظر وصول عرض جيد لبيع المنزل ويحصل على نصيبه الشرعي منه فيتحسن وضعه المادي.
هل تتساءلون... عن السيدة أروى البحري؟؟
انفصل عنها بعد عودته من الخارج.
مر وليد بفترة عصيبة للغاية عند عودته للوطن, انفصاله عن خطيبته السابقة, انقطاعه عن العمل, تدهور وضعه المادي, والصحي والنفسي, واستدعائه من قبل السلطات مرات ومرات من أجل التحقيق في قضية اختفاء شقيقه سامر, المطلوب أمنيا.
لقد عاصرته في تلك الفترة.. وحاولنا أنا ووالدي دعمه بأقصى ما كان لدينا.. وكنت كلما زرته في ذلك المنزل رأيت الوجوم يخيم على وجهه.. وكلما حاولت مواساته وتشجيعه انهار وبثني همومه وانخرط يحكي لي ويصف.. كيف حبس شقيقه في هذه الغرفة أو كيف لفه كالجثة في تلك السجادة.. وكيف هاجمه رجال المباحث وأوسعوه ضربا وكيف امتدت أيديهم الخسيسة لتطال ابنة عمه.. وكان.. لا يزال يحتفظ بعكازها وهاتفها المحمول وأشياء كثيرة تخصها رفض التخلص منها...
لم تهدأ الأمور وتتحسن بعض الشيء إلا مؤخرا... ووليد الآن يحاول جاهدا أن يُشفي ويعود للعيش الطبيعي... يحاول أن يملأ حياته ويسد الفراغ الكبير الذي خلفه فراق كل من خطيبته السابقة, وشقيقه, وبالطبع... ابنة عمه.
يقضي أوقاته بين العمل نهارا والدراسة في المعهد ليلا, ونتبادل الزيارات أو نمر ببعض المعارف أو بالنادي الرياضي أو نتنزه عند الشاطئ في بعض أيام العطل. كنت أحاول أن أساعده ما أمكنني... حتى يجتاز الفترة الحرجة من حياته ويبدأ من جديد. ولذا عندما اتصل بي سامر يوم أمس وسألني عن عنوان شقة وليد... توجست خيفة.
أخبرني سامر بأنهم سيحضرون لقضاء شهر رمضان في الوطن... وأنهم يريدون مفاجأة وليد. وليد كان يتحاشى الاتصال بأهله إلا قليلا لأن ذلك يقلب عليه المواجع حسبما يقول. لم أشأ أن أوتّره ولا أن أفسد المفاجأة فكتمت النبأ عنه... لكنني في خشية من أن تعيده هذه الزيارة أدراجه إلى الوراء..
الحرب لم تضع أوزارها بعد لكن الحكومة تبدلت ووضع البلد بشكل عام يسير للأفضل وبعض الأسر المهاجرة عادت إلى الوطن مؤخرا.
حالما وصلت إلى منزلي أخبرتني أم فادي بأن أحدهم قد اتصل قبل قليل يسأل عني وأنه ترك رقم هاتفه لأتصل به في أقرب وقت.
اتصلت بالرقم, فإذا بذلك الشخص هو لاعب كرة القدم الشهير... نوّار!
*********
طبق من الفاصوليا الساخنة... وشريحة لحم مقلية.. مع أصابع البطاطا المقلية... وبعض الخبز والزيتون والتمر!
آه وماذا بعد؟؟
نعم... العصير!
انتهيت من توزيع الأطباق على المائدة المربعة الشكل والصغيرة الحجم, المتربعة في آخر الصالة أمام المطبخ مباشرة, وجلست على أحد المقاعد الأربعة التي تحيط بجوانبها.
هذا جيد الإفطار في غرة الشهر الكريم.. لك الحمد يا رب والشكر...
كنت أشعر بجوع شديد... وأعددت وجبتي هذه على عجل بعد عودتي من المسجد... وما كدت أنطق بالبسملة حتى سمعت قرع الجرس...
"ومن يكون هذا الآن!؟"
استغربت... فأنا لا أتوقع زيارة من أحد وخصوصا في هذه اللحظة... كما وأن الأشخاص الذين يزورونني في شقتي معدودون... ولا أظن أحدهم يهتم لتناول فطور كهذا معي!
قمت عن المائدة وذهبت إلى الباب وسألت:
"من هناك؟؟"
فجاء صوت رجولي يقول:
"هل أنت وليد؟؟ افتح من فضلك"
لم يكن الصوت غريبا... لا ليس غريبا... لكنه صوت لم أسمعه منذ زمن...أنا مشتبه... لا لست أكيدا... من هذا؟؟
"من هناك؟؟"
وجاءني الآن صوت نسائي حاد:
"افتح يا أخي!"
صوت... دانة! صوت دانة؟؟!!
مستحيل!!!
للوهلة الأولى وجمت... تسمرت على موضعي... فأنا لا أريد لحالة الجنون تلك أن تعتريني مجددا... لا أريد أن أعود إلى التهيؤات والتخيلات ...لا ... أبدا...
عاد الصوت النسائي يقول:
"هل أنت وليد شاكر أم ماذا؟؟"
نعم غنه صوت دانة!
فتحت الباب بسرعة غير مصدق... وإذا بي أرى دانة... شقيقتي الوحيدة... تقف بالفعل أمام عيني!!!
"وليد! أخي الحبيب!"
قالت ذلك وارتمت في حضني بقوة وأطبقت عليّ بذراعيها... اندفعت خطوة إلى الوراء وأنا أحملق فيها غير مصدق أنها بالفعل شقيقتي...
"يا شقيقي يا حبيبي كم اشتقت إليك! كل عام وأنت بخير عزيزي"
تقول ذلك وهي لا تزال تطوقني بذراعيها بقوة وتمرغ وجهها في صدري... ابتعدت بعد ذلك لتنظر إلي... فتيقنت بالفعل من أنها... أنها شقيقتي دانة!
"أوه! دانة!! أي مفاجأة!! لا أكاد أصدق... لا أصدق..."
قلت ذلك وضممتها إلي وقبلت جبينها بحنان... عند ذلك سمعت صوتا يقول:
"ألن تدعونا للدخول؟؟"
فالتفت إلى صاحب الصوت فإذا به نوّار... وكان يبتسم, ويحمل في يدي الاثنتين مجموعة من الأكياس... وعلى كتفه حقيبة قماشية كبيرة...
تراجعت للوراء وأنا أقول:
"يا للمفاجأة... أنا مذهول! تفضلا... أهلا..."
فدخل نوّار ووضع الأكياس والحقيبة جانبا ثم أقبل نحوي فاقتربت منه كي أصافحه وأعانقه. رحبت به بحرارة... كانت دانة تقف إلى جانبي فمددت ذراعي إلى كل منهما وحثثتهما على الدخول مرحبا...
"أهلا وسهلا ومرحبا... كل عام وأنتما بخير... تفضلا... حقا... مفاجأة مذهلة"
فسارا للأمام واستدرت للوراء لأغلق الباب... وإذا بي أرى شيئا مهولا... مهولا جدا... أخرس لساني... وجعلني أتجمد في موضعي كالتمثال...
كفى يا وليد... أرجوك توقف... لا... أنت لم تكد تصدق أنك شفيت من حالة الأوهام الفظيعة تلك... أرجوك توقف... لا تعد للصفر من جديد... كلا...
أغمضت عينيّ... بقوة... حتى كدت أعصرهما بجفوني... رغبة مني في محو الوهم الذي رأيته يقف أمام الباب قبل ثوان...
"رغد... تعالي!"
فتحت عيني... بعد الذي سمعت... نظرت من جديد... حملقت جيدا... وكان الوهم... لا يزال واقفا... يحمل شيئا ما على ذراعيه... وينظر إليّ!!
أحسست بحركة من خلفي... ثم رأيت دانة تظهر أمامي... متجهة إلى الوهم... وسمعتها تقول:
"مفاجأة! أليس كذلك؟؟!"
ثم تمد يدها نحو الوهم... وتأخذ منه ذلك الشيء وتقربه مني...
نظرت إلى ذلك الشيء... حملقت فيه... فإذا به ينظر إلي... ويتثاءب!
كان طفلا في المهد...!!
أخذت عيني تدور بين الطفل... ودانة... والوهم... تدور... وتدور... وتدور... حتى أصابني الارتجاج في دماغي واستندت إلى الجدار المجاور خشية أن أقع...
"وليد"
كان... صوت شقيقتي دانة... يهتف بقلق...
"هل أنت بخير؟؟"
أقبل نوّار... تناول الطفل من يد دانة... واقتربت دانة مني وأمسكت بذراعي وسألت:
"ماذا أصابك؟؟ هل أنت بخير؟؟"
جذبت أنفاسا عميقة متتالية ثم قلت:
"إنه... الصيام"
ثم عدت انظر إلى الطفل... ثم إلى الوهم... بل هي رغد... لأن ما حولي الآن ليس وهما... أنا أحس به وأبصر به جيدا... إنها رغد... نعم رغد...
أقول لكم رغد...
هل تسمعون؟؟
هل تفهمون ذلك؟؟
رغد... فتاتي رغد... هي رغد... آه...
أنا... أنا لا أعرف ماذا أقول... لا أعرف ماذا أقول...
"تعال... هل أكلت شيئا؟؟"
كانت دانة... تمسك بي وتحثني على السير إلى الداخل... ثم تقول موجهة خطابها إلى رغد:
"أغلقي الباب وتعالي يا رغد"
فتنفذ الأخيرة ذلك... وتتبعنا إلى المقاعد... أنا أجلس على المقعد... ويجلس نوار إلى يساري واضعا الطفل في حضنه... وأختي ورغد... تجلسان في الجانب الآخر...
"أأنت على ما يرام أخي؟؟"
تسألني دانة, فأجيب:
"لا تقلقي... أنا بخير"
يقول نوّار:
"إذا لم تبدأ الفطور بعد؟ هذا جيد... أحضرنا معنا بعض الأطعمة كي نشاركك"
التفت إليه فأراه يبتسم... وحقيقة هذا الرجل دائما مبتسم... أسمع صوتا يصدره الطفل الصغير... فيداعبه نوّار بلطف...
لحظة!
لكن... لكن...
أين سامر؟؟؟
|