ازياء, فساتين سهرة


العودة   ازياء - فساتين سهرة و مكياج و طبخ > أقسام عامة > المواضيع المتشابهة للاقسام العامة
تسريحات 2013 ذيل الحصان موضة و ازياءازياء فكتوريا بيكهام 2013متاجر ازياء فلانتينو في باريسمكياج العين ماكياج دخاني makeup
المواضيع المتشابهة للاقسام العامة رواية إنتِ لي كاملة يوجد هنا رواية إنتِ لي كاملة هنا توضع المواضيع المتشابهة


 
قديم   #16

نودى نينو


رد: رواية إنتِ لي كاملة


رواية إنتِ لي كاملة


الحلقةالرابعةعشر
********

طريق العودة لم يكن بأقل مشقة من طريق الذهاب ...
ألا أني بسبب التعب و الإجهاد النفسي نمت معظم ساعات النهار الأول .

حطام الأشياء التي أراها من حولي لا يختلف عن حطام قلبي ... إلا أن الجماد لا ينزف دما

التلاوة المنبعثة من مذياع السيارة بصوت قارئ رخيم عذب هي الشيء الوحيد الذي خف على قلبي آلام التمزق و التقطع و الاحتراق ...

توالت الساعات ، و كنت أتابع باهتمام مزيف كل ما أسمعه من المذياع هروبا من التفكير في الطريق الذي ولى ... و الطريق القادم ...

في الماضي ... و المستقبل ...

بلغنا مدينتنا قبيل غروب الشمس الثالثة التي أنارت دربنا ...

" خذني إلى بيتي "

قلت ذلك و نحن أمام مفترق طرق ، يؤدي أحدهم إلى بيتي و آخر إلى بيت سيف

" الآن ؟ دعنا نزل بيتنا و نرتاح من عناء المشوار الطويل ... "

" أرجوك يا سيف ... إلى بيتي ... "

لم أكن هذه المرة أشعر بأي شوق أو حماس لدخول المنزل المهجور

و سيف هم ّ بالحضور معي أل أني قلت :

" لابد أن والديك في انتظارك الآن ... سأشكرك كما ينبغي لاحقا ، بلغهما تحياتي "

كان سيف قلقا بشأني و لكني صرفته ، و دخلت المنزل المظلم وحيدا .

رفعت يدي لإنارة المصباح ، بل المصابيح واحدا تلو الآخر فاكتشفت أن الكهرباء مقطوعة .

و على الضوء الباقي من آخر خيوط الشمس ، سرت في منزلي الكئيب الساكن و صعدت إلى الطابق العلوي ...

ذهبت رأسا إلى غرفة نومي ... أخرجت المفاتيح ، ثم فتحت الباب بطء ...

و خطوت خطوة إلى الداخل ...

سرعان ما عادت بي السنين إلى الوراء ...

حين كنت فتى مراهقا في بداية التاسعة عشر من العمر ... أجلس على هذا الكرسي أذاكر بشغف ...
يا إلهي !
لا تزال كتبي التي تركتها على المكتب في مكانها !
مفتوحة كما تركتها قبل ثمان سنين !

جلت بصري في الغرفة ... و فوجئت برؤية الأشياء كما هي ...

تقدمت خطوة بعد خطوة ...

السرير ... نفس البطانية و الأغطية التي كانت عليه قبل رحيل ...

اقتربت من المكتب ... إنه كتاب الرياضيات الذي كنت أقرأه آخر ليلة قبل الرحيل ، استعدادا لامتحان الغد !

و قلم الرصاص لا يزال موضوعا على الصفحة المفتوحة ...

و بقية الكتب مبعثرة على الطاولة تماما كما تركتها منذ ذلك الزمن ...

مدت يدي فلمست الغبار الذي يغطي الكتاب ، و كل شيء ...

فتحت الأدراج لألقي نظرة ... لا شيء تغير ! لا يبدو أن أحدا قد وطأ أرض هذه الغرفة مذ هجرتها

استدرت نحو سريري ... لطالما احتضني هذا السرير و امتص تعبي و أرقي ... ألا زال يصلح للنوم ؟ أ أستطيع رمي أثقال صدري و جسدي عليه ؟؟

كان أيضا غارقا في الغبار ... و مع ذلك رميت بجسدي المهموم عليه و سمحت لسحابة الغبار أن تحلق ... و تنتشر ... و تهاجم أنفي و تخنقني أيضا ...

داهمتني نوبة من العطاس إثر استنشاقي لغبار الزمن ، فنهضت و تلفت من حولي بحثا عن علبة المناديل
لابد أنها ستكون مدفونة تحت طبقات من الغبار هي الأخرى ...

لكن أنظاري التصقت فجأة بشيء يقف على أحد أرف مكتبتي القديمة ...

شيء أسطواني الشكل ، مغطى بطوابع و ملصقات صغيرة طفولية ...

و من بين تلك الملصقات ، يظهر جزء من كلمة مكتوبة عليه : ( أماني )

سرت بطء شديد ، بوصة بوصة ، نحو هذا الصندوق الصغير ...

أكان حلما أم حقيقة ؟؟

لقد رأيته أمامي مباشرة ، و لمسته بيدي ... و رجته ، و سمعت صوت قصاصات الورق تتضارب داخله !

صندوق أماني رغد ... لا يزال حيا ؟؟

أمسكت بالصندوق الأسطواني ، و قربته من عيني ، ثم من صدري ، و أرخيت جفني ، و سحبت نفسا عميقا مليئا بالغبار ...

رأيت الصغيرة مقبلة نحوي بانفعال و فرح ، حاملة كتابها بيدها :

" وليد اصنع صندوق أماني لي "

و رأيتها تساعدني في صناعته ...

ثم تغطيه بالملصقات الصغيرة ...

ثم تجلس هناك على سريري ، قرب المنضدة ، و تكتب أمنيتها الأولى ...

(( عندما أكبر سوف أتزوج ...... ؟؟ ))

عند هذا الحد ... ارتفع جفناي فجأة ، و انقبضت يدي بقوة ... ضاغطة على الصندوق بلا رحمة حتى خنقت أنفاسه ...

تدحرجت عبرة كبيرة حارقة من مقلتي اليمنى ، فاليسرى ، تبعها سيل عارم من الدموع الكئيبة التائهة ، تغسل ما علق بوجهي و أنفي من الغبار العتيق ...

شقت نظرتي طريقا سالكا بين الدموع ، مسافرة نحو صندوق الأماني المخنوق ... محرضة يدي ّ على التعاون للفتك به ... و تمزيقه كما تمزقت كل آمالي و أحلامي ... و صورة رغد و رسالتها ... و قلبي و روحي ...

لكني توقفت في منتصف الطريق ...

لم أعد أرغب في رؤية ما بداخله ...

فأنا أعرف كل شيء ...

( أريد أن أصبح رجل أعمال ضخم ! )

( أريد أن تصبح ابنة عمي رغد زوجة لي )

( يا رب اشف سامر و أعده كما كان )

( عندما أكبر سوف أتزوج .... ؟؟؟ )

سامر قطعا ...

كم كنتُ غبيا !

ضغطت على الصندوق بقوة أكبر فأكبر ... و لو كان شيئا مصنوعا من الحديد لتحطم في قبضتي ...

" أيتها الخائنة ... رغد "

رميت الصندوق بعنف بعيدا عني ... إلى أبعد زاوية في الغرفة ، ثم خرجت هاربا من الذكرى الموجعة

أول شيء التقيت به في طريقي كان غرفة رغد !

فهي الأقرب إلي ...

وقفت عند الغرفة لدقائق ... و يدي تفتش عن المفتاح بتردد ...

رفعت يدي ... و طرقت الباب طرقا خفيفا

ثم مدتها نحو المقبض و أمسكت به و بقيت في هذا الوضع لزمن طويل ...

سأفتح الباب بطء و حذر و هدوء ... قد تكون صغيرتي نائمة بسلام ... لا أريد إزعاجها

أريد فقط أن ألقي نظرة عليها كما أفعل كل ليلة ... لا أحب إلى قلبي من رؤيتها نائمة بهدوء كالملاك .. و ملامسة شعرها الناعم بخفة ...

نظرة أخيرة ... واحدة فقط ... أريد أن ألقيها على طفلتي ...

رغد ... لقد اشتقت إليك كثير! ... منذ أن رأيتك و أنت نائمة ... هنا قبل ثمان سنين ، و جفناك متورمان أثر البكاء الشديد الذي بكيته ذلك اليوم المشؤوم ...

أتذكرين كيف لعبنا يومها ؟؟

أتذكرين البطاطا التي أطعمتك إياها ...؟؟

ما كان يدريني أننا لن نلتقي بعد تلك اللحظة ...

و أنها كانت المرة الأخيرة التي أتسل فيها إلى غرفتك ، و ألقي عليك نظرة ، و أداعب خصلات شعرك ، و أقبل جبينك ...

ارتجفت رجلاي و كذا يداي و جسمي كله ، و فقدت أي قدرة على تحريك أي عضلة في جسدي ، حتى جفوني

لم أجسر على فتح الباب ...

عدت أطرقه و أنادي ...

" رغد ... صغيرتي ... افتحي ! أنا وليد ... "

لكنها لم تفتح

و أخذت أطرق بقوة أكبر ...

" افتحي يا رغد ... لقد عدت إليك "

و بقي الباب ساكنا جامدا ...

لم تعد رغد موجودة

و لم يعد وليد موجودا ...

و لم يعد لفتح هذا الباب ... أي داع ...

هويت على الأرض ... كسقف أزيلت أعمدته فجأة ... و رفعت ذراعي إلى الباب و صرخت ...

" رغد ... عودي إلي ... "













~ ~ ~ ~ ~ ~ ~










من تتوقعن زارنا قبل أسبوع ؟؟

إنها عائلة اللاعب الشهير ( نوّار ) !

و هل استنتجتم ما سبب الزيارة ؟؟

أجل !

مشروع زواج !

بصراحة أنا فوجئت بشدة ! لم أكن أعتقد أن الأمر سيسير حسبما كانت دانة ترسم ! و لكن يبدو أن هناك أمور أخرى لا أعلم عنها شيئا ...

زيارتهم كانت بعد رحيل وليد بثلاثة أسابيع ...

خلال الأسابيع الثلاثة تلك ، كان الجميع يعيش حالة كآبة و حزن مستمرين

لم تطلع أو تغرب علي شمس دون أن أفكر بوليد ... و بلقائنا الحميم ، ثم نظراته القاسية ، ثم رحيله المفاجئ ...

والدتي أصابها حزن شديد لازمت بسببه الفراش فترة من الزمن ...

أنا أيضا حزنت كثيرا جدا ...

أنا لم أكد أره ... لم أكد أشعر بوجوده ... إني لا أصدق أنه عاد بالفعل ... لقد كبرت على الاعتقاد بأنه لن يعود ...

و حقيقة ... هو لم يعد ...

" رغد ! ألم تنهي حمّامك بعد ؟؟ "

جاءني صوت دانة من الخارج ، تحثني على الخروج بأقصى سرعة ... كنت لا أزال أمشط شعري القصير المبل أمام المرآة المغطاة بطبقة من الضباب !

فتحت الباب فانطلق بخار الماء متسربا للخارج ، و وجدت دانة واقفة و ذراعاها مضمومان إلى صدرها ، تنظر إلي بحنق !

" أهو حمام بخاري ؟ هيا اخرجي يكاد ضيوفي يصلون و أنا لم أستعد بعد ! "

سرت بطء شديد ، متعمدة الإطالة أقصى ما يمكن ... ! دانة تحدق بي بغضب و نفاذ صبر و تصرخ :

" أوه يا لبر ودك ! هيا أخرجي ! "

" لم كل هذا الانفعال !؟ كأنك ستقابلين جلالة الملكة ! "

" أنت لا تفهمين شيئا ! لا يمكنك أن تحسي بمثل أحاسيسي الآن ! لم تجربي ذلك و لن تجربيه ! "

قالت هذا ثم دفعتني قليلا بعيدا عن الباب ، و دخلت الحمام الغارق في البخار و صفعت بالباب بقوة !

ذهبت إلى غرفتي بكسل ... و أخذت أتابع تمشيط شعري المبل أمام مرآتي ...

هل تحس كل فتاة على وشك مقابلة أهل عريسها بكل هذا التوتر ؟؟
أنهم سيعلنون الموافقة الرسمية و يناقشون شروط العقد هذه الليلة ، و سنقيم حفلة صغيرة بعد أيام لعقد القران ...

دانة أصبحت لا تطاق بسبب توترها و عصبيتها ، لكنها سعيدة ! سعيدة جدا ...

أنا لم أجرب هذا الإحساس ... و لا أعرف كيف يكون ... إني فقط أعرف أني مخطوبة لابن عمي سامر لأني يجب أن أكون مخطوبة له ...
و سأتزوج منه لأني يجب أن أتزوج منه ...

سامر في الوقت الحالي مسافر إلى مدينة أخرى ، من أجل العمل

موضوع زواجنا تم تأجيل النقاش فيه ، بسبب حضور و رحيل وليد الذي أربك الأجواء ، ثم خطبة دانه التي شغلتنا أواخر الأيام ...

وليد لم يتصل بنا منذ رحيله ، و والدي يحاول جاهدا الاتصال به بطريقة أو بأخرى من أجل إبلاغه عن خطبة دانه و حفلة العقد

مجرد تفكيري بهذا الأمر يشعرني بالسعادة ... فوليد سيأتي و لا شك ... لحضور حفلة شقيقته و المشاركة فيها ...

ألقيت بالمشط جانبا و خرجت من الغرفة في طريقي إلى المطبخ ، و وصلني صوت دانه و هي تغني داخل دورة المياه !

أنا لم أغنِّ عند خطبتي !

حين وصلت ، كانت أمي تتبادل الحديث مع والدي بشأن دانه ... لكنهما توقفا عن الكلام لدى رؤيتي !

" أمي ... ماذا عن وليد ؟؟ "

فهو كان شغلي الشاغل منذ أن رحل ...
بل منذ أن وصل !
أمي و أبي تبادلا نظرة سريعة ، قال والدي بعدها :

" لقد استطعت التحدث إلى سيف ، و أوصيته بزيارة وليد بأسرع ما يمكنه ، و إبلاغه بأنتا نتظر مكالمة ضرورية منه "

فرحت بذلك ، و قلت تلقائيا :

" إذن سأعتكف عند الهاتف ! "

في ذات اللحظة رن هذا الأخير ، و قفزت مسرعة إليه !

" مرحبا ! هنا منزل شاكر جليل ... من المتحدث ؟ "

كانت ابتسامتي تعلو وجهي ، و حين وصلني صوت الطرف الآخر :

" رغد ! أهذه أنت ؟؟ "

تلاشت الابتسامة بسرعة ، و قلت بشيء من الخيبة :

" نعم ... سامر ، إنها أنا "

و بعد بضع عبارات تبادلناها ، دفعت بالسماعة إلى والدي :

" إنه سامر ... لن يحضر الليلة "

و انصرفت عن المطبخ .
حين سافر سامر ... لم أبك كما بكت أمي ...
و كما بكيت لسفر وليد ...

لم يكن هناك أي هاتف في غرفة نومي ، لذا جلست في غرفة المعيشة قريبة من التلفاز ، و كلما رن هاتف بادرت برفع السماعة قبل أن تنقطع الرنة الأولى !
و في كل مرة أصاب بخيبة أمل ....
لكن ...
لماذا أنا متلهفة جدا للتحدث إليه ؟؟

بعد فترة ، حضر الضيوف المرتقبون ، العريس و والداه و أفراد أسرته .. لو أؤلف كتابا في وصف دانه لسببت أزمة ورق !

سألخص ذلك بقول : كانت غاية في الجمال ، و الخجل ، و اللطف ، و السعادة !

تم الاتفاق على كل شيء ، و تعين تحديد ليلة الخميس المقبلة لعقد القران !

لم أجلس مع ضيفاتنا غير دقائق متفرقة ، و تمركزت عند الهاتف في انتظار اتصال من اتصل رجال العالم كلهم بيتنا سواه !

عند العاشرة و النصف ، استسلمت ...
و ذهبت في اتجاه غرفتي ..
مررت بغرفة دانه ، فوجدتها مشغولة بإزالة المساحيق و الإكسسوارات التي تزين بها شعرها !

" كنت جميلة ! "

نظرت إلي بغرور ، و قالت :

" اعرف ! "

ثم استطردت :

" و سأكون أجمل في الحفلة ! علي أن أذهب للسوق غدا لشراء الحاجيات ! "

" عظيم ! أنا أيضا سأشتري فستانا جديدا و بعض الحلي ! "

ابتسمت دانه بسعادة ، و قالت :

" كم أنا متوترة و قلقة ! ستكون حفلة رائعة "

ثم أضافت بعض الخبث :

" أروع من حفلتك "

لم أكن في السابق أتضايق كثيرا لتعليق كهذا ، إلا أني الآن شعرت بالانزعاج ... قلت :

" أنا لم تقم لي حفلة حقيقية ... لم يكن يوما مميزا "

قالت :

" وضعي أنا يختلف ! سأتزوج من أشهر لاعبي الكرة في المنطقة ، و أغناهم أيضا ... شيء مميز جدا ! ... والدي وعدني بليلة لا تنسى ! "

أصابني كلامها بشيء من الخذلان و الحزن ، فأنا لم يعمل والدي لأجلي شيئا يذكر ليلة عقد قراني ... هممت بالانصراف ، توقفت قبل أن أغلق الباب ، و سألت :

" هل سيكون وليد موجودا ؟؟ "

شيء ما برق في عينيها و قالت :

" نعم ، بالتأكيد سيكون موجودا ... لا يمكنه أن يتخلى عني أنا ! "

ذهبت إلى غرفتي و أنا حزينة ...
فوليد لم يتصل
و دانه تسخر مني
و من الطريقة التي تمت خطبتي بها ...
رغم أنها كانت أكثر من أقنعني بأنه لابد لي من الزواج من سامر ...
فهو أقرب الناس إلي ، و هو يحبني كثيرا ، و هو مشوه بشكل يثير نفور
بقية الفتيات ...
و بسببي أنا ...







~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





فيما كنت أسخن بعض الفاصوليا على لهيب الموقد في المطبخ ، حضر صديقي سيف .

لم أكن أتوقع زيارته ،كانت الساعة السادسة مساءا ، لكني سرت بها

" تفضل ! إني أعد بعض الفاصوليا ... عشاء مبكر ! ستشاركني فيه "

قلت ذلك و أنا أقوده إلى المطبخ ...

حينما وصل و شم رائحة الفاصوليا قال بمرح :

" تبدو شهية ! سأتناول القليل فقط ، فلدي ضيوف على العشاء هذا المساء "

وضعت مقدارين منها في طبقين صغيرين ، مدت بأحدهما نحو صديقي و قلت :

" جرب طهو أو بالأحرى تسخين يدي ! "

تناول سيف بعضها و استساغ الطعم ... ثم قال :

" لكنها لا تقارن بأطباق والدتي ! يجب أن تشاركنا العشاء الليلة يا وليد "

ابتسمت ابتسامة باهتة ، و لم أعلق ...

" هيا يا وليد ! سأعرفك على زملائي و أصدقائي في العمل "

قلت :

" كلا لا يمكني ، لدي ارتباطات أخرى "

سيف نظر إلي باستنكار ...

" أية ارتباطات ؟؟! "

ابتسمت و قلت :

" سآخذ الأطفال إلى الملاهي ! فقد وعدتهم بذلك "

سيف كان يحرك الملعقة باتجاه فمه ، فتوقف في منتصف الطريق و قال :

" أي أطفال ؟؟ "

قلت بابتسام و أنا أقلب الفاصوليا في الطبق لتبرد قليلا :

" رغد و دانة و سامر ! سأجعلهم يستمتعون بوقتهم ! "

أعاد سيف الملعقة و ما حوت على الطبق ... و ظل صامتا بضع ثوان ...

" ما بك ؟ ألم يعجبك ؟ "

أعني بذلك الفاصوليا

سيف تنهد ثم قال :

" وليد ... ما الذي تهذي به بربك ؟؟ "

تركت الملعقة تنساب من يدي ، و قد ظهرت علامات الجدية على وجهي الكئيب و قلت :

" أتخيل أمورا تسعدني ... و تملأ فراغي ... "

هز سيف رأسه اعتراضا ، و قال :

" ستصاب بالجنون إن بقيت هكذا يا وليد ! بل إنك أصبت به حتما ... ينبغي أن تراجع طبيبا "

دفعت بالكرسي للوراء و أنا أنهض فجأة و استدير موليا سيف ظهري ...
سيف وقف بدوره ، و تابع :

" لا تفعل هذا بنفسك ... أتريد أن تجن ؟؟ "

استدرت إلى سيف ، و قلت :

" ما الفرق ؟ لم يعد ذلك مهم "

" كلا يا وليد ... لا تعتقد أن الدنيا قد انتهت عند هذا الحد ... لا يزال أمامك المستقبل و الحياة "

قاطعته بحدّة و زمجرت قائلا :

" المستقبل ؟؟ نعم المستقبل ... لرجل عاطل عن العمل متخرج من السجن لا يحمل سوى شهادة الثانوية المؤرخة قبل ثمان سنين ! و يخبئ بعض النقود التي استعارها من أبيه في جيب بنطاله ليشتري بها الفاصولياء المعلبة فيسد بها جوعه ... نعم إنه المستقبل "


سيف بدأ يتحدّث بانفعال قائلا :

" تعرف أن فرص العمل في البلد ضئيلة بسبب الحرب ، لكني سأتدبر الأمر بحيث أتيح الفرصة أمامك للعمل معي ... "

قلت بسرعة :

" معك ؟ أم عندك ؟؟ "

استاء سيف من كلمتي هذه و همّ بالانصراف .

استوقفته و قدمت إليه اعتذاري ...

لقد كان اليأس يقتلني ... و لا شيء يثير اهتمامي في هذه الدنيا ...

قال سيف :

" المزيد من الصبر ... و سترى الخير إن شاء الله "

ثم تقدّم نحوي و قال :

" و الآن ... تعال معي ... فالأشخاص الذين سيتناولون العشاء معنا سيهمك التعرف إليهم "

لكني رفضت ، لم أشأ أن أظهر أمام رجال الأعمال و أحرج صديقي ، لكوني شخص تافه خرج من السجن قبل أسابيع ...

" كما تشاء ... لكنك ستحضر غدا ! عشاء خاص بنا نحن فقط ! "

أومأت إيجابا ، إكراما لهذا الصديق الوفي ...

قال سيف :

" يا لك من رجل ! لقد أنسيتني ما جئت لأجله ! "

" ما هو ؟؟ "

" تلقيت اتصالا من والدك اليوم ، يريد منك أن تهاتفه للضروة "

شعرت بقلق ، فلأجل ماذا يريدني والدي ؟؟

" أتعرف ما الأمر ؟؟ "

" لا فكرة لدي ، لكن عليك الاتصال بهم فورا "

و أشار إلى الهاتف المعلق على الجدار ...

قلت :

" الخط مقطوع ! "

" حقا ؟؟ "

" كما كانت الكهرباء و المياه أيضا ! تصور أني عشت الأيام الأولى بلا نور و لا ماء ! "

ضحك سيف ثم قال :

" معك أنت يمكني تصور كل شيء ! هل تريد هاتفي المحمول ؟ "

" لا لا ، سأتصل بهم من هاتف عام "

سار سيف نحو الباب مغادرا ، التفت قبل الانصراف و قال :

" موعدنا غدا مساءا ! "

" كما تريد "


و عدت إلى طبقي الفاصوليا التي بردت نوعا ما ، و أفرغتهما في معدتي ...

لم يكن في المنزل أي طعام ، و كنت اشتري المعلبات و التهم منها القدر الذي يبقيني حيا ...

تعمدت عدم الاتصال بأهلي طوال الأسابيع الماضية ، و عشت مع أطيافهم داخل المنزل

حاولت البحث عن عمل و لكن الأمر كان أصعب من أن يتم في غضون بضع أسابيع أو أشهر ...

في ذلك المساء ذهبت إلى أحد المحلات التجارية لشراء بعض الحاجيات ، قبل أن أجري المكالمة الهاتفية .

حين حان دوري للمحاسبة ، أخذ المحاسب يدقق النظر في ّ بشكل غريب !

نظرت إليه باستغراب ، فقال :

" ألست وليد شاكر ؟؟ "

فوجئت ، فلم يبد ُ لي وجه المحاسب مألوفا ... قلت :

" بلى ... هل تعرفني ؟؟ "

قال :

" و هل أنساك ! متى خرجت من السجن ؟؟ "

عندما نطق بهذه الجملة أثار اهتمام مجموعة من الزبائن فأخذوا ينظرون باتجاهي ...

شعرت بالحرج ، و تجاهلت السؤال ... فعاد المحاسب يقول :

" ألم تعرفني ؟ لقد كنت ُ زميلا للفتى الذي قتلته ! عمّار "

أخذ الجميع ينظر باتجاهي ، و شعرت بالعرق يسيل على صدغي ...

جاء صوت من مكان ما يقول :

" أ تقول أن المجرم قد خرج من السجن ؟؟ "

تلفت من حولي فرأيت الناس جميعا ينظرون إلي بعيون حمراء ، يقدح الشر من بعضها ، و ينطلق الازدراء من بعضها الآخر ...

شعرت بجسمي يصغر ... يصغر ... يصغر ... ثم يختفي ...

خرجت من المكان بسرعة ... دون أن آخذ حاجياتي ، و ركبت سيارتي و انطلقت مسرعا تشيعني أنظار الجميع ...

لقد أصبحت ذا سمعة سيئة تشير إلي أصابع الناس بلقب مجرم ...

توقفت عند أحد الهواتف العامة ، و اتصلت بمنزل عائلتي في المدينة الأخرى ...

كانت الساعة حينئذ الحادية عشر ... و رن الهاتف عدة مرات و لم يجب أحد ...

و أنا واقف في مكاني أراقب بعض المارة ، تخيلتهم ينظرون إلي و يتحدثون سرا ...

ربما كانوا يقولون : إنه وليد المجرم !

و مرت مني سيارة شرطة تسير بطء ...

شعرت برعشة شديدة تسري في جسدي لدى رؤيتها ، كانت النافذة مفتوحة و أطل منها الشرطي و أخذ ينظر باتجاهي

كدت أموت فزعا ... و تخيلته مقبلا نحوي ليقبض علي و يزج بي في السجن من جديد ...

شعور مرعب مفزع ...

ظلت يدي تضغط على أزرار عشوائية ، تتصل ربما بالمريخ أو المشتري ، دون أن أملك القدرة على التحكم بها ... حتى ابتعدت السيارة شيئا فشيئا و استعدت بعض الأمان ...

أعدت الاتصال بمنزل عائلتي و بعد ثلاث رنات أو أربع ، أجاب الطرف الآخر ...

" نعم ؟ "

لم أميز الصوت في البداية ، لكنه عندما كرر الكلمة أدركت أنها كانت رغد ...

" نعم ؟ من المتحدث ؟؟ "

كان فكي الأسفل لا يزال يرتجف أثر رؤية سيارة الشرطة ... و ربما سمعت رغد صوت اصطكاك أسناني بعضها بعض ...

قربت السماعة من فمي أكثر ، و بيدي الأخرى أمسكت بفكي و طرف السماعة كمن يخشى تسرب صوته للخارج ...

ربما سمع رجال الشرطة صوتي و عادوا إلي !

قلت :

" أنا وليد "

لم أسمع أي صوت فظنت أن الطرف الآخر قد أقفل السماعة ، قلت :

" رغد ألا زلت ِ معي ؟؟ "

" نعم "

ارتحت كثيرا لسماع صوتها

أو ربما ... تعذبت كثيرا ...

" وليد كيف حالك ؟ "

" أنا بخير ، ماذا عنكم ؟ "

" بخير . كنت أنتظرك ، أقصد كنا نتظر اتصالك "

قلت بقلق :

" ما الأمر ؟؟ "

رغد قالت :

" لقد نام الجميع ، والدي يريد التحدث معك ، يجب أن تحضر "

أقلقني حديثها أكثر ، سألت :

" ما الخطب ؟؟ "

" إنه موضوع زواج دانه ! لن أخبرك بالتفاصيل و إلا وبختني ! يجب أن تحضر قبل مساء الأربعاء المقبل "


كان أمرا فاجأني ، و هو أكبر من أن أناقشه مع رغد و رغد بالذات على الهاتف في مثل هذا الوقت ... و المكان ...

لذا اختصرت المكالمة بنية الاتصال نهار اليوم التالي لمعرفة التفاصيل ...

" حسنا ، سأتصل غدا ... إلى اللقاء "

" وليد ... "

حينما سمعت اسمي على لسانها ارتجف فكي أكثر مما كان عند رؤية سيارة الشرطة ....

خرجت الكلمة التالية مبعثرة الحروف ...

" ن ... عم ... ص ... غي ... رتي ؟؟ "

" عد بسرعة ! "

و التي عادت بسرعة هي ذكريات الماضي ...
و الذي طردها بسرعة هو أنا
لم أكن أريد لشيء قد مات أن يعود للحياة ...

قلت :

" سأرى ، وداعا "

و بسرعة أيضا أغلقت السماعة ...
كم شعرت بقربها ... و بعدها ...


حينما عدت إلى المنزل ، وقفت مطولا أمام غرفة رغد أحدق بابها ... حتى هذه اللحظة لم أجرؤ على فتحها هي بالذات من بين جميع غرف المنزل الموحش ...

دخلت إلى غرفتي الغارقة في الظلام ، و تمدت على سريري بهدوء ...

( عد بسرعة ... عد بسرعة ... عد بسرعة ... )

ظلت تدور برأسي حتى حفرت فيه خندقا عميقا !

سمعت طرقا على الباب ... طرقا خفيفا ... جلست بسرعة و ركزت نظري ناحية الباب ... كان الظلام شديدا ...

شيئا فشيئا بدأ الباب ينفتح ... و تتسل خيوط الضوء للداخل

و عند الفتحة المتزايدة الحجم ، ظهرت رغد !

رغد وقفت تنظر إلي و وجهها عابس ... و الدموع منحدرة على خديها الناعمين ...

هتفت ...

" رغد ! "

بدأت تسير نحوي بخطى صغيرة حزينة ... مدت ذراعي و ناديتها :

" رغد تعالي ... "

لكنها توقفت ... و قالت :

" وليد ... عد بسرعة "

ثم استدارت عائدة من حيث أت

جن جنوني و أنا أراها تغادر

قفزت عن سريري و ركضت باتجاهها و أنا أهتف :

" رغد انتظري ...
رغد لقد عدت ...
رغد لا تذهبي "

لكني عندما وصلت إلى الباب كانت قد اختفت ...

أسرعت إلى غرفتها أطرق بابها بعنف ...
كدت أكسره ، أو أكسر عظامي ... لكنه ظل موصدا ...
كما هي أبواب الدنيا كلها أمام وجهي ...


أفقت من النوم مذعورا ، فوجدت الغرفة تسبح في الظلام و الباب مغلق ...
لم يكن غير كابوس من الكوابيس التي تطاردني منذ سنين ...

و رغم أنها تعذبني ، إلا أنها تمنحني الفرصة لرؤية صغيرتي التي حرمت منها منذ سنين ... و لم يعد لها وجدود ...

في اليوم التالي ، اتصلت بوالدي و عرفت منه تفاصيل الموضوع ... و لكم أن تتصورا اللهفة التي كان هو و أمي و دانة أيضا ... يخاطبوني بها

أختي الصغيرة ... التي كبرت بعيدا عن أنظاري و رعايتي و اهتمامي ، أصبحت عروسا

" وليد يجب أن تحضر و تجلب لي هدية أيضا ! "

و الآن ... و بعد مرور شهر واحد من هروبي منهم ، و عزلتي في المنزل، صار علي أن أعود إليهم من جديد ... أجر أذيال الخيبة و الفشل ...

في المساء ، ذهبت لسيف و أخبرته بما جد من أمري ، و أخبرني بأنه استطاع تدبير وظيفة لي في الشركة التي يعمل فيها و يملك جزءا منها

و بدأ أول أبواب الدنيا ينفتح أمامي أخيرا ...

" يجب أن تعود بأسرع ما يمكن لتباشر العمل "

 
قديم   #17

نودى نينو


رد: رواية إنتِ لي كاملة


رواية إنتِ لي كاملة


الحلقةالخامسةعشر





أكاد أطير من الفرح ... لأن وليد سيأتي اليوم ...

إني منذ وقعت عيناي عليه يوم حضوره قبل شهر ، و أنا أحس بشيء غريب يتحرك بداخلي !

أهي كريات الدم في عروقي ؟؟

أم شحنات الكهرباء في أعصابي ؟؟

أم تيارات الهواء في صدري ؟؟

بين الفينة و الأخرى ، أخرج إلى فناء المنزل ... و أترقب حضوره

متى سيصل ؟؟

سامر أيضا سيعود هذه الليلة ، فمنذ سافر للمدينة الأخرى قبل أسابيع من أجل العمل لم نره ...

استدرت للخلف ، فإذا بأمي واقفة عند المدخل الرئيسي ، تنظر إلي !

" رغد ... ما ذا تفعلين ؟؟ "

اضطربت قليلا ، ثم قلت :

لا شيء ...

والدتي ابتسمت ، و قالت :

" لقد قال سامر إنه سيصل ليلا ! لا تُقلقي أعصابك ! "

شعرت بغصة في حلقي و كدت أختنق !

إني لم أر سامر منذ أسابيع ... و أعلم أنه سيعود ليلا ... لكني ... لكني كنت أرتقب وليد !

كان هذا يوم الأربعاء ... ، و في هذا المساء سيتم عقد قران دانة ...

إنها مشغولة جدا هذا اليوم ، و كذلك هي أمي ... و الاضطراب يسود الأجواء ...

" تعالي و ساعدينا ! "

ألقيت نظرة على الباب الخارجي للمنزل ، و مضيت مذعنة لطلب أمي !

كانت دانة تجفف شعرها بمجفف الشعر الكهربائي المزعج ، قلت :

" فيم أساعدك ؟؟ "

و يبدو أن صوته الطاغي منعها من سماعي ، فكررت بصوت عال :

" دانة فيم أساعدك ؟؟ "

انتبهت لي أخيرا ، و قالت :

" تعالي رغد و جففي هذا المتعب ! "

دانة كان لها شعر طويل و كثيف مع بعض التموج ، على العكس من شعري القصير الأملس الناعم !

تناولت المجفف الساخن من يدها و بدأت العمل !

صوت هذا الجهاز قوي و أخشى أن يعيق أذني عن سماع صوت جرس الباب !

مرت الدقائق و أنا أحاول الإسراع من أجل العودة للفناء !

" رغد ! جففي بأمانة ! "

قالت ذلك دانة و هي تنظر إلي عبر المرآة ... فابتسمت !

فستان دانة كان جميلا و أنيقا جدا ، و موضوعا على سريرها بعناية
لدانة ذوق رائع جدا في اختيار الملابس و الحلي و أدوات التجميل !


لدى عبور هذه الفكرة برأسي تذكرت طقم الحلي الذي رأيته ليلة الأمس و أثار إعجابي الشديد و أردت اقتنائه ، غير أن نقودي لم تكن كافية فأجلت الأمر لهذا اليوم

" يجب أن أذهب مع آبى لشراء ذلك الطقم قبل أن يحل الظلام ! "

" حقا ستشترينه ؟ إنه باهظ الثمن ! "

" طبعا سأشتريه ! ماذا سأضع هذه الليلة إذن ؟؟ "

" لم لا تضعين العقد الذي أهدتك إياه والدتي قبل أسابيع ؟؟ "

لم تعجبني الفكرة ، فلقد رأته لمياء شقيقة نوّار ، خطيب دانة يوم حفلة تخرجي !

إنها أمور نكترث لها نحن الفتيات !

أو على الأقل ، معظمنا !

قلت :

" بل سأشتري شيئا جديدا ! يليق بقرانك ! "

و ضحكنا !

لمحت والدتي مقبلة من ناحية الباب فأوقفت تشغيل الجهاز و قلت بسرعة :

" هل حضر ؟ "

ثم أضفت بسرعة ، تغطية على الحقيقة :

" أقصد والدي ؟ أريد أن يصحبني لسوق المجوهرات ! "

قالت والدتي :

" ماذا تودين من سوق المجوهرات ؟؟ "

" سأشتري عقدا جديدا أرتديه الليلة ! "

بدا على والدتي بعض الاستياء ... ثم قالت :

" أليس لديك ما يناسب ؟ سأعيرك مما عندي إن شئت "

عرفت من طريقة كلامها أنها لا تريد مني شراء المزيد .

أعدت تشغيل الجهاز و واصلت تجفيف شعر دانة الطويل حتى انتهيت ... بصمت ...
بعدها خرجت من الغرفة قاصدة الذهاب إلى غرفتي ، إذ أن بي شحنة استياء أريد إفراغها ...

و أنا أمر من والدتي قالت :

" رغد اذهبي للمطبخ و أتمي تحضير الكعك ، سأوافيك بعد قليل "

أذعنت للأمر ... و قضيت قرابة الساعة في عمل المطبخ الممل ، حتى أت والدتي وتقاسمنا العمل ...

بعد فترة همت بالانصراف ، فبالي مشغول بانتظار وليد ، و حين رأتني أمي سائرة نحو الباب :

" إلى أين رغد ؟؟ "

" سأذهب للاستحمام ! "

" انتظري ! تعرفين ما من مساعد لي غيرك اليوم ... ! اغسلي الأطباق و الصواني و رتبي الأواني في أماكنها ، ثم تولي كي و طي الملابس ! العمل كثير هذا اليوم ! "

شعرت بالضيق ! لم أكن أحب العمل في المطبخ و كنت أتولى أقل من ثلث العمل المقسم بيننا نحن الثلاث ، أمي و دانة و أنا ، لكني اليوم مضطرة للتضحية بنعومة يدي !

أثناء ترتيبي للأواني سمعت صوتا مقبلا من جهة مدخل المنزل الرئيسي

ربما يكون وليد !

أسرعت بوضع الأواني على عجل فانزلق من يدي بعضها و تحطم على الأرضية الملساء الصلبة !

" أوه رغد ! ماذا فعلت ! "

والدتي نظرت إلي بانزعاج ، فزاد ضيقي ..

" انزلقت من يدي ! "

و تركت كل شيء و هممت بالانصراف

" إلى أين ؟؟ "

" سأرى من عند الباب أمي ! "

و لم أكد أغادر ، إذ أن والدي قد وصل ، و دخل المطبخ يحمل الكثير من الأغراض

عدت إلى الأواني المحطمة أرفعها عن الأرض و أنظف الأرضية من شظايا الزجاج

ثم كان علي ترتيب الأغراض التي جلبها أبي في أماكنها المخصصة ... و الكثير الكثير قمت به فيما دانة في غرفتها ، تسرح شعرها و تتزين !

حالما انتهيت من جزء من عمل المطبخ ، قلت لوالدي و الذي كان يجلس على المقعد عند الطاولة يكتب بعض الملاحظات على ورقة صغيرة :

" أبي ... هل لا اصطحبتني إلى أحد محلات الحلي ؟ لي حاجة سأشتريها و أعود "

أمي نظرت إلي و قالت مباشرة :

" عدنا لذلك ؟ خذي ما تشائين من حلي و لا داعي لإضاعة المال و الوقت ! لدينا الكثير لنفعله الآن ! "

قلت :

" و لكن ... إنه جميل جدا و أريد أن أرتديه الليلة ! "

قالت :

" هيا يا رغد ! عوضا عن ذلك رتبي الملابس أو غرفة الضيوف و الصالة ... النهار يودعنا "

لم أناقش أمي ، بل نظرت إلى أبي و هو منهمك في تدوين كلمات على الورقة و قلت :

" أبي ... لن أتأخر ! سأشتريه و نعود فورا ! "

والدي قال دون أن يرفع عينيه عن الورقة :

" فيما بعد رغد ، لدي مهام أخرى أقوم بها الآن "

خرجت من المطبخ و أنا أشعر بالخيبة و الخذلان ... و ذهبت إلى الغرفة الخاصة بالملابس ، أكويها و أطويها و أرتبها ، و دمعة تتسل من بين حدقتي من حين لآخر ...

كنت أكوي فستاني الجديد الذي سأرتديه الليلة بشرود و أسى ...

لماذا علي أن أعمل بهذا الشكل !؟

لماذا لا يجلب والدي خادمة للمنزل ؟؟

هنا سمعت صوت جرس الباب يقرع ...

لابد أنه وليد !

تركت كل شيء بإهمال و طرت نحو باب المخرج ، في نفس اللحظة التي أقبل فيها والدي نحو الباب ...

قال :

" اذهبي و ارتدي الحجاب ، قد يكون وليد ! "

رجعت فورا إلى غرفة الملابس و سحبت حجابا لي من كومة الملابس
( المجعدة ) و لبسته كيفما اتفق ، و هرعت نحو المدخل ...

فتحت باب المدخل لأطل على الفناء الخارجي ، و أرى أبي و وليد متعانقين عند البوابة الخارجية ...

أقبلت أمي مسرعة و فتحت الباب و خرجت مهرولة إلى وليد ...

وقفت أنا عند الباب الداخلي أنظر و دموعي تفيض من عيني رغما عنها ...

لقد كان وليد واقفا بطوله و عرضه و جسده العظيم ، يحجب أشعة الغروب عن وداع ما غطاه ظله الكبير ، يضم والديه إلى صدره و ينهال برأسه البارز على رأسيهما بالقبل ...

وقفت أراقب ... و أنتظر ...

لقد طال العناق و الترحيب ... و لم يلتفت أو لم ينتبه إلي !
و فيما أنا كذلك ، و إذا بالباب يفتح ، و تنطلق منه دانة مسرعة كالقذيفة الموجهة نحو وليد !

تعانقا عناقا حميما جدا ، و دانة تقول بفرح :

" كنت واثقة من أنك ستحضر ! كنت واثقة من ذلك "

و وليد يضمها إلى صدره ثم يقبل جبينها و يقول :

" طبعا سآتي ! كم شقيقة لدي ؟؟ ... ألف مبروك عزيزتي "

كل هذه الحرارة المنبعثة من اللقاء الحميم أمام عيني جعلتني أنصهر !
و بدا أن دموعي على وشك التبخر من فرط حرارة خدي ّ
وليد !
من أي طينة خلقت أنت ؟؟ و لماذا تنبعث منك حرارة حارقة بهذا الشكل !
ألا تحس الأشجار أن الشمس قد ارتفعت بعد الغروب !؟
و أخيرا ، تحرك الثلاثة مقبلين نحوي ... نحو المدخل ...

أخيرا لامست نظراتي الجمرتين المتقدتين ، المتمركزتين أعلى ذلك الرأس ... مفصولتين بمعقوف حاد ، يزيدهما شرارا ... و حدة ... و اشتعالا !

توهج وجهي احمرارا و تلعثم قلبي في نطق دقاته المتراكضة ... و شعرت بجريان الأشياء الغريبة في داخلي ...
الدماء
سيالات الأعصاب
و الأنفاس !

و هو يخطو مقتربا ، و حجمه يزداد ... و رأسه يعلو ... و عنقي يرتفع !

سقطت أنظاري فجأة أرضا و كأن عضلات عيني قد شلت ! لم أستطع رفعهما للأعلى لحظتها ...

و جاء صوته أخيرا يدق طبلتي أذني ...

بل يكاد يمزقهما !

" كيف حالك صغيرتي ؟؟ "

و كلمة صغيرتي هذه تجعلني أحس أكثر و أكثر بصغر حجمي و ضآلتي أمام هذا العملاق الحارق !

رفعت عيني أخيرا بعض الجهد و أنا أضم شفتي مع بعضهما البعض استعدادا للنطق !

" بخير ... "

و لكن ... حين وصلت عيناي إلى جمرتيه ، كانتا قد ابتعدتا ...

لم يكن وليد ينظر إلي ، و لا حتى ينتظر جوابي !

لقد ألقى سؤاله بشكل عابر و أشاح بوجهه عني قبل أن يسمع حتى الإجابة ... و هاهي دانة تفتح الباب ... و هاهو يدخل من بعدها ... و يدخل والداي من بعده ... و ينغلق الباب من بعدهم !

وقفت متحجرة في مكاني لا شيء بي يتحرك ... حتى عيناي بقيتا معلقتين في النقطة التي ظنتا أنهما ستقابلان عيني وليد عندها ...

مرت برهة ... و أنا أحدق في الفراغ !

هل كان وليد هنا ؟؟

هل مر وليد من هنا ؟؟

هل رأته عيناي حقا ؟؟؟

لم أجد جوابا حقيقيا ...

بدا كل شيء كالوهم و الخيال !


أفقت من شرودي و استدرت ، و فتحت الباب فدخلت ... و وصلتني أصوات أفراد أسرتي من غرفة المعيشة ...
حركت قدمي بإعياء شديد متجهة إلى حيث هم يجلسون ...
كان وليد يجلس على مقعد كبير ، و هم إلى جانبيه ... لا أظن أن أحدا انتبه لوجودي ! وقفت عند مدخل الغرفة أراقبهم و جميعهم مسرورون و أنا تعيسة !

بعد قليل ، أمي قالت فجأة :

" أتشمون رائحة شيء يحترق ؟؟ "

الشيء الذي قفز إلى رأسي هو المقعد الذي يجلسون عليه ! ربما احترق من حرارة وليد !

و بالفعل شممت الرائحة !

" إنها قادمة من هناك ! "

و أشارت والدتي نحوي ... طبعا كانت تقصد من خارج الغرفة إلا أني ألقيت نظرة سريعة على ملابسي لأتأكد من أنها لا تقصدني !

و قفت أمي و كذلك وقف الجميع ، و أقبلت هي مسرعة قاصدة التوجه نحو المطبخ ...

لم تجد ما يحترق هناك ... ثم سمعت صوتها تنادي بقوة:

" رغد تعالي إلى هنا "

ذهبت إليها ، كانت في غرفة الملابس ... تفصل سلك المكواة عن مقبس الكهرباء !

صحت :

" أوه ! يا إلهي ! "

و أسرعت إلى الفستان الذي نسيت المكواة فوقه و خرجت مسرعة لاستقبال وليد !

" انظري ما فعلت ! سترتدينه الليلة محروقا بهذا الشكل ! "

أخذت الفستان و جعلت أدقق النظر في البقعة المحروقة ، و أعض شفتي أسفا و حسرة ...

" ماذا سأفعل الآن ؟؟ "

قلت بيأس ... فأجابت أمي بغضب :

" ترتدينه محروقا ! فنحن لم نشتره لنرميه "

عند هذا الحد ... و لم أتمالك نفسي ...

و انخرطت في بكاء شديد رغما عني ...

في نفس اللحظة التي كانت أمي تغادر فيها الغرفة كان البقية مقبلين يتساءلون عما حدث و ما احترق ...

والدي قال :

" ماذا حصل ؟؟ "

أمي أجابت باستياء :

" تركت فستانها يحترق ! و قبل قليل كسرت الأطباق ! لا أعرف متى ستكبر هذه الفتاة "

كان الأمر سيغدو مختلفا لو أن وليد لم يكن موجودا يرى و يسمع ...
كم شعرت بالحرج و الخجل ...
إني لست طفلة و مثل هذه الأمور لم تكن لتحدث لو أني لم أكن مضطربة و مشتة هذا اليوم ... كما و أن أمي لم تكن لتصرخ بوجهي هكذا لو لم تكن هي الأخرى مضطربة و قلقة ، بسبب الليلة ...

رميت بالفستان جانبا و أسرعت الخطى قاصدة الهروب و الاختفاء عن الأنظار ...

كان وليد يقف عند الباب و يسد معظمه ، و حين وصلت عنده لم يتحرك ...

كنت أنظر إلى الأرض لا أجرؤ على رفع نظري إلى أي منهم ، إلا أن بقاء وليد واقفا مكانه دون أن يتزحزح جعلني أرفع بصري إليه ....

الدموع كانت تغشي عيني عن الرؤية الواضحة ...

وليد نظر إلي نظرة عميقة دون أن يتحرك ...

" إذا سمحت ... "

قلت ذلك ، فتنحى هو جانبا ، و انطلقت أسير بسرعة نحو غرفتي ...

في غرفتي ، أطلقت العنان لدموعي لتفيض بالقدر الذي تريد
كان يومي سيئا ! كم كنت سعيدة في البداية !
و الآن ...
حزينة ... محرجة ... مجروحة الخاطر ... مخذولة ...
بدموع جارية ... و قلب معصور ... و فستان محروق ! و بلا حلي !


أكثر ما أثر بي ... هو الاستقبال البليد الذي استقبلني به وليد ...
و أنا من كنت أحترق شوقا لرؤيته !

غمرت وسادتي البريئة من أي ذنب بالدموع الحارة المالحة ... و بقيت حبيسة الألم و الغرفة فترة طويلة ....

بعد مدة سمعت طرق الباب ... قمت بتململ و فتحته ، فرأيت أمي ...

تحاشيت النظر إليها ، فأنا خجلة منها و لست مستعدة لتلقي أي توبيخ هذه الساعة ...

أمي قالت :

" رغد ! على الأقل ابدئي الاستعداد ! ألم تستحمي بعد ؟؟ "

وجدت نفسي أقول بغضب و انفعال :

" لن استحم ، و لن أحضر معكم و سأنام حتى الغد "

أمي صمت قليلا ثم قالت بنبرة عطوفة :

" يا عزيزتي لم أقصد توبيخك ، لكنك تتصرفين بشكل غريب اليوم ! هيا ابدئي الاستعداد ... "

رفعت رأسي إليها و قلت :

" بم ؟ لا فستان و لا حلي ! "

تنهدت أمي و قالت :

" ارتدي أي شيء ! ما أكثر ما لديك "

لم اقتنع ، فأنا أريد أن أظهر جديدة في كل شيء الليلة ! أليست ليلة مميزة؟ إنه عقد قران أختي دانه !

قلت :

" لن أحضر دون فستان جديد و مجوهرات ! دعوني أبقى في غرفتي فهذا أفضل و متى ما انتهيتم سأساعدكم في تنظيف المنزل "

و بكيت

بكيت بشدة ، و ليس سبب بكائي هو الفستان أو الأواني المكسورة ! إنه قلبي الذي يعتصر ألما من تجاهل وليد لي بهذه الطريقة !

لماذا فعل ذلك ؟؟

ألم أعد مهمة لديه ؟؟

ألم يعد بألا يسمح لدموعي بالانهمار ؟؟

إنه الذي يفجرها من عيني بغزارة هذه اللحظة ...

أعرف أن أمي تحبني و تدلني ، مثل أبي ... و هذا ما اعتدته منهما ... لذلك حين قالت :

" حسنا ... اذهبي بسرعة مع أبيك لشراء شيء مناسب على عجل "

لم أفاجأ ، بل مسحت دموعي مباشرة خصوصا و هي تنظر إلى الساعة بقلق ...

أخرجت حقيبتي من أحد الأدراج ... و قلت :

" لا أملك مبلغا كافيا "

ذهبت أمي و عادت بعد قليل تحمل بعض الأوراق المالية ، و قالت :

" سأخبر أبيك كي يشغل السيارة ، أسرعي رغد "

و ذهبت ، و ارتديت عباءتي و خرجت بعدها ...

و فيما أنا أجتاز الردهة ، إذا بها مقبلة نحوي تقول :

" لا فائدة يا رغد لقد خرج والدك ! "

كان والدي مشغولا طوال اليوم ، و ها قد غادر من جديد ...

أطلقت تنهيدة يأس مريرة و رميت بالحقيبة جانبا و قلت :

" قلت لك أني لن احضر ... دعوني و شأني "

و أوشكت على البكاء

أمي قالت :

" قد يعود بعد قليل ... "

لكني كنت قد فقدت الأمل !

جلست على المقعد و أسندت خدي إلى يدي في أسى ...

" أيمكني فعل شيء ؟؟ "

كان هذا صوتا رجاليا جعلني أسحب يدي فجأة من تحت خذي فينحني رأسي للأسفل ثم يرتفع للأعلى ...

للأعلى ...

للأعلى !

العملاق وليد !

أمي و وليد تبادلا النظرات ، ثم قالت أمي :

" نتظر أن يعود والدك ليصحبها إلى السوق ! "

قال :

" لدي سيارة ... إذا كان الأمر طارئا ... "

الأشياء الغريبة الثلاثة بدأت تجري في داخلي و تتسابق !

أمي قالت :

" أنت ... قدمت لتوك ! اذهب و نم قليلا في غرفة سامر ... "

" لست متعبا جدا "

" ... ثم أنك لا تعرف المنطقة ! "

قال و هو ينقل بصره بيني و بين أمي :

" لكنكما تعرفان ! "

أي نوع من الأفكار تعتقدون أني رأيتها ؟؟

مجنونة !

قالت أمي بتردد :

" إني مشغولة في المطبخ "

فاستدار وليد إلي و قال :

" و أنت ِ ؟أ تحفظين الطريق ؟؟ "

ربما كان سؤاله عاديا

أو ربما استهانة بي ! فهل أنا طفلة صغيرة لا أعر ف الطرق ؟؟

قلت :

" نعم ! طبعا "

ثم نظرت إلى أمي أحاول قراءة رأيها من عينيها ...

أمي بدت مترددة ... لكنها قالت بعد ذلك موجهة كلامها لي أنا:

" ما رأيك رغد ؟؟ "

أنا أقر قبل أن أفكر في أحيان ليست بالقليلة ! قلت :

" حسنا "

و وقفت و سحبت حقيبتي ...

التفت أمي نحو وليد و قالت :

" انتبه لها "

وليد دخل إلى غرفة المعيشة و أحضر مفتاح سيارته ، و الذي كان قد تركه على المنضدة ...

تقدمت نحو باب المنزل و وقفت في انتظاره ، حتى إذا ما أقبل فتحت الباب و خرجت قبله !

خطواتي أنا قصيرة و بسيطة ، كيف لها أن تضاهي خطواته الواسعة الشاسعة !؟

سبقني و خرج من البوابة الخارجية لفناء المنزل ... و سمعت صوت باب سيارة ينفتح ...

ما إن خرجت من البوابة ، حتى وقعت عيناي على سيارة وليد ... نفس السيارة التي كان يقودها منذ سنين ...

المرة الأخيرة التي ركبت فيها هذه السيارة كانت في أسوأ أيام حياتي ...

شعرت بقشعريرة شديدة تجتاحني و ثبت في مكاني و لم أجرؤ على المضي خطوة للأما ...

وليد شغل السيارة و انتظرني ... و طال انتظاره !

التفت نحو الباب فوجدي واقفة هناك بلا حراك

ضغط على بوق السيارة لاستدعائي لكني لم أتحرك

الشيء الذي تحرك هو شريط الذكريات القديمة البالية ... الموحشة البائسة ... التي طردتها من خيالي عنوة ...


وليد فتح الباب و خرج من السيارة و نظر باتجاهي و قال :

" ألن تذهبي ؟؟ "

تحركت قدماي دون إدراك مني و اقتربت من السيارة

مدت يدي فإذا بها تلقائيا تتوجه إلى الباب الأمامي ، فأجبرتها على الانحراف نحو الباب الخلفي ، فتحته و جلست على المقعد الخلفي
فيما وليد يجلس في المقدمة و إلى اليسار مني ... يكاد شعره الكثيف يلامس سقف السيارة !

عندما كنا صغارا ، أنا و دانة ... كنا نتشاجر من أجل الجلوس على المقعد الذي أجلس خلفه مباشرة الآن !

وليد انطلق بالسيارة نحو الشارع الرئيسي ثم سألني و هو يراقب الطريق :

" أين نتجه ؟ "

سار وليد بطء نسبيا يسألني عن الطرق و المنعطفات ، و أرشده إليها حتى بلغنا المكان المطلوب .

كان سوقا صغيرا مليئا بالناس ...

أوقف وليد السيارة ، فتحت الباب و خرجت و تقدمت للأما

وليد لم يخرج ، و سمعت صوته عبر نافذة الباب الأمامي المفتوحة يقول :

" كم ستبقين ؟؟ "

تعجبت ، فقلت و أنا أقرب وجهي من النافذة بعض الشيء :

" ألن تأتي معي ؟؟ "

وليد صمت قليلا ، و ربما ارتبك ، ثم قال :

" و هل يجب أن آتي معك ؟؟ "

قلت :

" نعم ! "

قال :

" سأنتظرك هنا ... هذا أفضل "

بقيت واقفة في مكاني لحظة ، فعاد يقول :

" هل يجب أن أرافقك ؟؟ "

قلت :

" أو تعيدني للبيت "

و تراجعت للوراء و مدت يدي قاصدة فتح الباب الخلفي ...

وليد فتح بابه و نزل و دار حول السيارة نصف دورة حتى صار إلى جانبي

قلت :

" من هنا "

و سرنا نحو بوابة المجمع الصغير ، هو مجمع اعتدنا أنا و دانة و أمي شراء حاجياتنا منه






حينما بلغنا المتجر المقصود ، و هو متجر للملابس ، و كان يعج بالكثيرين، دخلته و توجهت نحو زاوية معينة ...

التفت إلى الخلف فوجدت وليد واقفا في الخارج ينظر من خلال زجاج المتجر ...

عدت أدراجي إليه بسرعة ... ثم قلت :

" ألن تدخل معي ؟؟ "

وليد بدا مترددا حائرا ... ربما هو غير معتاد على ارتياد الأسواق !

لذا تحرك بطء ...

لأني قمت بزيارة المتجر يوم أمس فأنا أعرف ما يوجد و ما يناسب ، لذا لم استغرق سوى دقائق حتى اشتريت فستانا مختلفا عن فستاني المحروق !

إنه أجمل و أغلى !

حينما هممت بالمحاسبة أخرج وليد محفظته ، و دفع الثمن !

كم أنا خجلة منه ! آمل ألا يفعل ذلك في متجر المجوهرات !

لم يكن وليد يتحدث ، بل كان يسير على مقربة مني بصمت و اضطراب ...

أنا أيضا كنت خرساء جدا !

أقبلنا نحو متجر المجوهرات ، و كان الآخر مزدحما بالناس ، و معظمهم سيدات

دخلناه و أخذت عيناي تفتشان عن الطقم الجميل الذي أغرمت به يوم أمس ... لم يكن موجودا في مكانه فخشيت أن تكون سيدة ما قد سبقتني بشرائه !

جلت بصري في المتجر حتى وجدت ضالتي ، التفت للوراء فلم أجد وليد ...

تلفت يمنة و يسرة و لم أجده ...

أقبل صاحب المتجر يسألني :

" ماذا أعجبك سيدتي ؟ "

أسرعت مهرولة نحو الباب و نظرت من حولي فوجدت وليد واقفا يتأمل بعض التحف المعروضة في متجر مجاور ...

" وليد "

نادينه و أنا مقبلة إليه أحث الخطى ...

التفت إلي :

" هل انتهيت ؟ "

" لا "

تعجب ! و قال :

" إذن ؟؟ "

قلت :

" لا تبتعد عني "

بقى متعجبا برهة ثم أقبل معي و عدنا لذلك المتجر ...

اشتريت الطقم الباهظ الثمن و حين سمع وليد بالسعر اضطرب قليلا

فتح محفظته ليلقي بنظرة على ما بداخلها إلا أني أسرعت بإخراج النقود من حقيبتي و دفعتها إليه

قبل أن نغادر المتجر قال وليد :

" أي شيء يصلح هدية صغيرة لدانة ؟ فأنا لا أعرف ماذا تحب ! "

أما أنا فاعرف ماذا تحب !

اعتقد أن الرجال لا يحتارون كثيرا في اختيار هدية لامرأة ! لأن المجوهرات موجودة دائما ... و تت دائم ... و غالية دائمة ... و نعشقها دائما !

اخترت شيئا جميلا و بسيطا ، و معتدل السعر ، فاشتراه وليد دون تردد

خرجنا بعد ذلك من المتجر متجهين نحو البوابة ، و أثناء ذلك عبرنا على أحد محلات الأحذية الرجالية فقال وليد :


" سألقي نظرة "


و سار خطى سريعة نحو المدخل ...

كان في المتجر عدد من الرجال و الأطفال ...

و أنا أرى وليد يبتعد ... و يهم بدخول المتجر ... و المسافة بيننا تزداد خطوة بعد خطوة ... و الناس يتحركون من حولي ... ذهابا و إيابا ...
و رجال يدخلون ... و رجال يخرجون ... و وليد يكاد يختفي بينهم ، ناديت بصوت عال :

" وليد "

و رغم الازدحام و الضوضاء الصادرة من حركة الناس و كلامهم ، سمعني وليد فالتفت إلي ...


أنا أسرعت الخطى المضطربة باتجاهه ... و هو اقترب خطوتين ... و حين أصبحت أمامه قلت :

" لا تتركني وحدي "

وليد يعلوه الاستغراب ، قال مبررا :

" سألقي نظرة سريعة فحسب ... لدقيقة لا أكثر "

عدت أقول :

" لا تتركني وحدي "

عدل وليد عن فكرة إلقاء تلك النظرة ، و قال :

" هل تريدين شيئا آخر ؟؟ "

قلت :

" كلا "

قال :

" إذن ... هيا بنا "


عندما عدنا إلى المنزل ، و قبل أن يفتح لنا الباب بعد قرع الجرس ، التفت إليه و قلت :

" شكرا ... وليد "



لكن أذهلني الوجوم المرسوم على وجهه !

كأنه مستاء أو أن مرافقتي قد أزعجته

إني لم أطلب منه ذلك بل هو من عرض المساعدة !

دخلنا إلى الداخل ، فتوجه هو تلقائيا نحو المطبخ ، فسرت خلفه ...

والدتنا كانت لا تزال منهمكة في العمل ، حين رأتنا بادرت بسؤالي :

" هل وجدت ما أردت ؟؟ "

و أخذت تنظر إلى الكيس الذي أحمله ...

" نعم "

و فتحت الكيس ، و أخرجت منه كيسا آخر صغير يحتوي على علبة المجوهرات ...

ما أن رأتها أمي حتى هزت رأسها اعتراضا و استنكارا ... فهي لم تكن تشجعني على شراء المزيد ، فقلت بسرعة مبررة :

" إنه طقم رائع جدا ! انظري ... "

و قربته منها فتأملته و قالت :

" نعم رائع و لكن ... "

لم تتم الجة ، بل قالت :

" و لكنك اشتريته على أية حال ! "

ابتسمت ابتسامة النصر !

و التفت نحو وليد الذي كان يتابع حديثنا و قلت :

" أليس رائعا ؟ ما رأيك ؟؟ "

وليد بدا مضطربا بعض الشيء ، ثم قال :

" لا أفهم في هذه الأمور ، لكن ... نعم رائع "

و توجه نحو أحد المقاعد و جلس باسترخاء ...

أمي قالت :

" بني ... اذهب و استرخ في غرفة سامر لبعض الوقت ! إنك مجهد "


الآن وليد ينظر باتجاه والدتي ، و لا أقع أنا في مجال الرؤية لديه ... باستطاعتي أن ادقق النظر في أنفه المعقوف دون أن يلاحظ !

ما حكاية هذا الأنف يا ترى !؟

أخذت أتخيل شكل وليد قبل أن يسافر ... كم يبدو مختلفا الآن !

" رغد ألن تستعدي ؟؟ "

انتبهت على صوت والدتي تكلمني ، أجبت باضطراب و كلي خشية من أن تكون شاهدتني و أنا أتأمل ذلك الأنف !

" حاضر ، نعم سأذهب "

و انطلقت نحو غرفتي ...





~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~







بعد أن غادرت رغد ، هممت بالذهاب إلى غرفة أخي سامر و تأدية الصلاة ثم الاسترخاء لبعض الوقت ...

إني متعب بعد مشوار الحضور الطويل

نظرت إلى فتحة الباب لأتأكد من أن رغد قد ابتعدت ، ثم قلت :

" أمي ... لم كانت رغد تبكي ؟؟ "

أمي كانت تزين قالب الكعك بطبقة من الشيكولا ، و كانت الكعكة شهية المنظر !


قالت أمي :


" لأنها أحرقت فستانها كما رأيت ! تصور ! لقد اشترته يوم الأمس بمبلغ محترم ... ! "


صمت برهة ثم قلت :

" و الآخر أيضا غال الثمن ، و حتى هذا الطقم "

ابتسمت والدتي و قالت :

" إنها تبذر النقود ، هذا أحد عيوبها ! "

أوه هكذا ؟ جيد ... !
لقد عرفت شيئا جديدا عن طفلتي ... أصبحت مبذرة للمال أيضا ؟؟ و ماذا بعد ...؟؟


قلت بتردد :

" هل ... هل ... تحسنون معاملتها ؟؟ "

رفعت أمي بصرها عن الكعكة و نظرت نحوي باستغراب ... ثم قالت :

" طبعا ! بالتأكيد ! بل إننا ... ندللها كثيرا ! "

تنهدت بارتياح نسبي ، و عدت أقول :

" إذن ... لماذا كانت تبكي ؟؟ "

أمي تعجبت أكثر ، و قالت :

" قلت لك ... بسبب الفستان ! "

قلت :

" لا أمي ... أعني قبل ذلك "

" قبل ذلك ؟؟ "

" عندما خرجت لاستقبالي فور وصولي ... "





في غرفة أخي سامر ، و الذي سيصل بعد قليل قادما من المدينة الأخرى حيث يعمل ، اضطجعت على السرير و سبحت في محيط لا نهائي من الأفكار ...

الشيء الذي أثار قلقي هو الطريقة التي وبخت فيها والدتي رغد بعد وصولي بقليل ...

فهل حقا يحسن الجميع معاملتها و يدللها ؟؟

لم أتحمل رؤيتها تبكي ...

عندما كنا في منزلنا القديم ، لم أكن لأسمح لأحد بأن يحزنها بأي شكل من الأشكال ، مهما فعلت

كانت دانه دائما تتشاجر معها أو تضربها ، و كنت دائما أقف في صف صغيرتي ضد أي كان ...
ترى ... هل تذكر هي ذلك ؟؟ أم أني أصبحت من الماضي المنسي ... و الأحلام الوهمية ... و الذكريات المهجورة ؟؟


حاولت النوم و لم استطع ، لذا عدت إلى غرفة المعيشة فوجدت والديّ و رغد هناك ...

تبادلنا بعض الأحاديث عن عريس دانة ، و هو لاعب كرة ذاع صيته و اشتهر في الآونة الأخيرة ...


قلت :


" و لكن ألا تفكر في متابعة دراستها ؟ إنها لا تزال صغيرة على الزواج ! "

قال أبي :

" لا تريد الدراسة ، و هو عريس جيد ! كما و أنها في سن مناسب ! فليوفقهما الله ! "

لحظات و إذا بسامر يحضر ، و يحظى بترحيب لا يقل حرارة عن ترحيبهم بي ...

بدأ سامر بأكبرنا ، ثم حين جاء دوري ، صافحني بحرارة و شوق كبيرين جدا ... و أطال عناقي الأخوي ...

أشعرني هذا بقربه مني ، بعدما فرقت السنين بيننا ... و بأني لازلت أملك عائلة تحبني و ترغب في وجودي في أحضانها ...

شيء رفع من معنوياتي المتدهورة

لكن ...

سرعان ما انحطت هذه المعنويات و اندفنت في لب الأرض تحت آلاف الطبقات من الحجر و الحديد و الفولاذ ، حين أقبل إلى رغد يصافحها و يضمها إلى صدره و يقبل جبينها بكل بساطة ...

لو كنت بركانا ... أو قنبلة ... أو قذيفة نارية ، لكنت انفجرت لحظتها و دمرت كوكب الأرض بأسره و نسفته نسفا و حولته إلى مسحوق غبار

لكني كنت وليد

أو بالأصح ...

شبح وليد ...

ما الذي دعاني لتمالك نفسي ؟؟ لا أعرف ...

لقد كان باستطاعتي أن أحطم رأس أي مخلوق يقف أمامي شر تحطيم

و لو ضربت الجدار بقبضتي هذه لسببت زلزالا مدمرا و لهوى السقف و قضى علينا جميعا ...

لكني اكتفيت بان أحفر أسناني من شدة الضغط ، و أمزق أوتار يدي من قوة القبض ...



ليت أمي لم تلدك يا سامر

ليتك تتحول إلى أي رجل آخر في العالم ، لكنت استأصلت روحك من جسدك و مزقتك خلية خلية ...


" أين العروس ؟؟ "

سأل أخى و هو لا يزال ممسكا بيد رغد ...


" في غرفتها ! تتزين ! "

قالت رغد ، فقال :

" سأذهب لرؤيتها "

و شد رغد يحثها على السير معه ... و ذهب الاثنان و غابا عن ناظري ...

ليتني لم أعد

أي جنون هذا الذي جعلني أعود فاحترق ؟؟ إني أكاد انفجر

هل يحس أحد بي ؟؟

سمعت أمي تقول :

" ما بك وليد ؟ أ أنت متعب بني ؟؟ "

متعب ؟؟

فقط متعب ؟؟

ابتعدوا عني و إلا فأني سأحرقكم جميعا !

رميت بجسدي المشتعل على المقعد و أخذت أتنفس بعمق أنفاس متلاحقة عل الهواء يبرد شيئا مما في داخلي

مرت لحظة صامته إلا عن تيار الهواء المتلاعب في صدري

أمي و أبي لا يزالان واقفين كما هما ... و أنا أشعر بحر شديد و أكاد أختنق ....

رفعت رأسي فإذا بهما يراقباني ... أظن أن وجهي كان شديد الاحمرار و يتصب عرقا ...

القلق كان باد على وجهيهما

قلت :

" الجو حار ... "

أمي سارت نحو المكيف و زادت من قوة دفعه للهواء ...

التفت إلى أبي و قلت :

" و هذان ؟؟ متى ارتبطا ؟؟ "

لم يجب أبي مباشرة ، ثم قال :

" عقدنا قرانهما قبل ما يزيد عن السنوات الثلاث "

مزيد من الاختناق و الضيق ... كأن الهواء قد سحب من الغرفة تماما ...

قلت :

" ألا ترى يا والدي أنهما لا يزالان صغيرين ؟ على الأقل رغد ... صغيرة جدا "

أبي قال :

" إننا لن نزوجهما قريبا على أية حال ، فرغد تود الالتحاق بالجامعة أولا و لا أدري إن كان سامر سيفلح في إقناعها بغير ذلك "

أثارت الجملة اهتمامي ، قلت :

" غير ذلك ؟؟ "

قالت أمي :

" قد نزوج الثلاثة في ليلة واحدة قريبا ! "

و ابتسمت ، ثم قالت :

" و يأتي دورك ! "

وقفت مستاء ، و يممت وجهي شطر المطبخ فأنا أحس بعطش شديد و بحاجة لنهر كامل ليرويني و يخمد نيراني ... و تركت والدي ّ في حيرة من أمرهما ...

 
قديم   #18

نودى نينو


رد: رواية إنتِ لي كاملة


رواية إنتِ لي كاملة


تتمه

تم عقد القران و انتهت الليلة بسلام أخيرا !

لقد بذلت جهودا مضاعفة في تنظيف المنزل بعد مغادرة الضيوف !

أما دانه فكان القلم مرفوعا عنها هذا اليوم !

طلبت من أمي أن تذهب للراحة و توليت أنا ، مع سامر تنظيف الأطباق ...

أما الرجل الناري فلا علم لي بأي أرض يحترق هذه الساعة !

كنت واقفة أمام صنبور الماء البارد أغسل الأطباق ، و سامر إلى جانبي ...

سألته :

" كيف بدا العريس ؟؟ "

أجاب :

" مهذبا و خلوقا و بشوشا ! "

قلت :

" لا يعجبني ! "

ابتسم سامر و قال :

" و لكن لم ؟؟ "

أجبت :

" لا أعرف ! لكني أجده ثقيل الظل ! إنه مغرور و يتحدث عن نفسه بزهو و خيلاء أمام الكاميرات ! كيف تتحمل دانه زوجا كهذا ؟؟ "


سامر ضحك ، فضحكت معه ...

قال :

" ليس المهم رأيك أنت به ! المهم رأي العروس به ! "

ثم غير نبرة صوته حتى غدت أكثر لطفا و رقة ، و قال :

" و رأيك بي أنا ... "

ارتبكت .. و اضطربت تعبيرات وجهي ، و أخفيت نظراتي في حوض الغسيل !

وصلنا هذه اللحظة صوت حركة عند الباب ، فالتفتنا للخلف فإذا به وليد ...

و صدقوني ، شعرت بماء الصنبور يحرقني !

تبادلنا النظرات ...

قال وليد :

" هل لي بلحاف ؟ سأنام في غرفة الضيوف "

نظف سامر يده و استدار نحو وليد قائلا :

" أوه كلا يا أخي ، بل ستنام في غرفتي و على سريري ، سأنام أنا على الأرض أو في غرفة الضيوف أو أي مكان ! "

لم يظهر على وليد أنه يرحب بالفكرة أو حتى سماعها !

قال :

" أريد لحافا لو سمحت "

كان وجهه جامدا صارما ، و رغم أن سامر كان يبتسم ، ألا أن وليد كان عابسا ...

قال سامر :

" أرجوك استخدم غرفتي ! أنا سأسافر بعد الغد على أية حال "

قال وليد :

" و أنا كذلك . هل لا أحضرت لحافا الآن ؟؟ "

وليد شخص غريب ... نعم غريب !

نحن لا نعرفه ! و لا نعرف كيف هي طباعه و لا كيف كانت حياته في الخارج ... ربما كان صارما جدا ... قلما رأيته يبتسم مذ عودته !

انتهى الأمر بأن نام وليد في غرفة الضيوف ، على المقعد الكبير ، الذي نمت عليه ذلك اليوم ! أتذكرون ؟؟

توقعت أن أجد صعوبة في النوم ... طالما تفكيري مستعمر من قبل وليد ... ألا أني نمت بسرعة مدهشة !

في اليوم التالي ، اجتمعت العائلة في غرفة الطعام لتناول الفطور الصباحي ، في ساعة متأخرة من الصباح !

أعددنا الأطباق في غرفة المائدة ، و جاء الجميع ليتخذوا مقاعدهم ...

كالعادة جلس والداي على طرفي المائدة ، و دانة إلى يمين أبي ، و سامر إلى يساره ، و هممت بالجلوس على مقعدي المعتاد يمين أمي ، لكني انتظرت وليد ...

وليد حرك ذات المقعد و قال :

" مقعدك ... "

و تركه و ذهب للجهة المقابلة و جلس إلى يسار أمي ...

جلست أنا على مقعدي المعتاد ، و صار وليد مواجها لي ... وضع يسمح للأشعة المنبعثة من ناحيتة لاختراقي مباشرة !

فجأة ، وقف وليد ... و خاطب دانة قائلا :

" هل لا تبادلنا ؟؟ "

و تبادلا المعقدين ...

ربما رأى الجميع هذا التصرف عاديا ... و فسروه بأن وليد يرغب بالجلوس قرب والده .... أو أي تفسير آخر ... ألا أني فسرته بأن وليد لا يرغب في الجلوس مقابلا لي ...

صار هذا الوضع هو الوضع الذي نجلس عليه خلال الأيام التي قضاها وليد معنا ...

وليد كان يلتزم الصمت ، و أنا أريد أن أسمع منه أخباره ، و لا أجرؤ على طرح الأسئلة عليه ...

بين لحظة و أخرى ، ألقي نظره باتجاهه ، لكن أعيننا لم تلتق مطلقا ...

بعد الفطور ، ذهب الجميع إلى غرفة المعيشة ، والدي يطالع الصحف و سامر يقلب قنوات التلفاز ، و دانه شاردة الذهن ... فيما وليد و أمي يتبادلان الحديث ، يشاركهما البقية بتعليق أو آخر من حين لآخر

تركت الجميع كما هم ، و ذهبت إلى غرفة الضيوف لرفع اللحاف و ترتيب ما قد يكون مضطربا ...

دخلت الغرفة ، فوجدت اللحاف مطويا و موضوعا على المقعد الكبير ، و على المنضدة المجاورة وجدت سلسة مفاتيح وليد ، و محفظته ...

مشيت بخفة حتى صرت أمام المنضدة و جعلت أحدق في المحفظة بفضول !

و انتقل فضولي من عيني إلى يدي ، فمدتها و نظرت من حولي لأتأكد من أن أحدا لا يراقبني !

انفتحت المحفظة المثنية ، فظهرت بطاقة وليد الشخصية و فيها صورة حديثة له !
بأنفه المعقوف !
و الآن ... ما هي الفكرة المجنونة التي قفزت إلى رأسي ؟
سأرسمه !
لم أدع أي فرصة لعقلي ليفكر ، و أخذت المحفظة و طرت مسرعة إلى غرفتي

و بدأت أرسم رسمة سريعة خفيفة لمعالم وجهه و أنظر للساعة في وجس و خوف ...

ما أن انتهيت ، حتى أسرعت الخطى عائدة بالمحفظة إلى غرفة الضيوف ... و توقفت فجأة و اصفر وجهي و ارتجفت أطرافي ... حين رأيت وليد في الغرفة مقبلا نحو الباب ، يحمل في يده سلسلة المفاتيح ...

أول شيء وقعت عينا وليد عليه هو محفظته التي تتربع بين أصابع يدي !

رفع وليد بصره عن المحفظة و نظر إلي ، فأسرعت بدفن أنظاري تحت قدمي قال باستنكار :

" أظن أنها ... تشبه محفظتي المفقودة تماما ! "

ازدردت ريقي و تلعثمت الكلمات على لساني من شدة الحرج و الخجل ...

قال وليد :

" خائنة ... مبذرة ... و ماذا بعد ؟ هل تسرقين أيضا ؟؟ "


رفعت نظري إليه و فغرت فاهي بذهول ... من هول ما سمعت !

 
قديم   #19

نودى نينو


رد: رواية إنتِ لي كاملة


رواية إنتِ لي كاملة


الحلقةالسادسةعشر





لقد قضيت خمسة أيام في بيت عائلتي ، كان يمكن أن تكون من أجمل أيام حياتي ... لكنها كانت من أسوأها

كنت أود الرحيل عنهم في أقرب فرصة ، لكني اضطرت كارها للبقاء بإلحاح من أبي و أمي

سامر غادر يوم الجمعة ، و قد ودعته وداعا باردا ... و غادرت أنا صباح الثلاثاء التالي باكرا .

خلال تلك الأيام الخمسة ...
كنت أتحاشى الالتقاء برغد قدر الإمكان و لا أنظر أو أتحدث إليها إلا للضروة
و هي الأخرى ، كانت تلازم غرفتها معظم الوقت و تتحاشى الحديث معي ، خصوصا بعد أن قلت لها :

" هل تسرقين ؟ "

اعترف بأني كنت فظا جدا ألا أني لم أجد طريقة أفضل لأعبر بها عن غضبي الشديد و مرارتي لفقدها

في آخر الأيام ، طلبت مني والدتي اصطحاب رغد إلى المكتبة لتشتري بعض حاجياتها .

لم أكن لأفعل ذلك ، غير أني شعرت بالحرج ... إذ أن والدي كان قد عاد قبل قليل من العمل و يسترخي ... فيما أنا أنعم بالراحة و الكسل ، دون مقابل ...
و ربما كان ذلك ، نوعا من الإعتذار ...
في ذلك اليوم كان نوار في زيارة مطولة لشقيقتي ، و مدعو للعشاء معها !


ذهبنا أنا و رغد إلى تلك المكتبة العظمى المترامية الأطراف ...
رغد توجهت إلى الزاوية الخاصة بيع أدوات الرسم و التلوين و خلافها ... و بدأت تتفرج و تختار ما تريد ...

و على فكرة ، علمت أنها رسامة ماهرة ...
لكم كانت تعشق التلوين منذ الصغر !

أخذت أتفرج معها على حاجيات الرسم و التلوين ... ثم انعطفت في طريقي ، مواصلا التفرج ... و لم يعد باستطاعتي رؤية رغد أو باستطاعتها رؤيتي

شغلت بمشاهدة بعض الرسوم المعلقة أعلى الحائط و ما هي إلا ثوان حتى رأيت رغد تقف بجواري !

قلت :

" رسوم جميلة ! "

" نعم . سأشتري الألوان من هناك "

و أشارت إلى الناحية الأخرى التي قدمنا منها ... فعدت معها ...
انهمكت هي باختيار الألوان و غيرها ، فسرت أتجول و أتفرج على ما حولي حتى بلغت زاوية أخرى فانعطفت ...

مضت ثوان معدودة ، و إذا بي أسمع صوت رغد يناديني مجددا ...
استدرت للخلف فرأيتها تقف قربي !
و بيني و بينها مسافة بضع خطوات
تخيلت أنها تريد قول شيء ، فسألتها :

" هل انتهيت ؟؟ "

قالت :

" لا "

تعجبت !

قلت :

" إذن ؟؟ "

قالت :

" لا تبتعد عني "

يا لهذه الفتاة !

قلت :

" حسنا ! "

و مضيت ُ معها إلى حيث كانت أغراضها موضوعة على أحد الأرف
رأيتها تأخذ أغراضا أخرى كثيرة ، فتلفت من حولي بحثا عن سلة تسوق ، و لم أجد . ذهبت لأبحث عن سلة فإذا بي أسمعها تناديني :

" وليد "

قلت :

" سأحضر سلة لحمل الأغراض "

فإذا بها تترك ما بيدها و تأتي معي !

عدنا مجددا للأغراض ، و تابعت هي اختيار ما تشاء، و تجولت أنا حتى بلغت ناحية الكتب ...
الكثير من الكتب أمام عيني !
يا له من بحر كبير ! كم أنا مشتاق للغطس في أعماقه !
لم أكن قد قرأت ُ كتابا منذ مدة طويلة ... أخذت أتفرج عليها و أتصفح بعضها ... و انتقل من رف إلى آخر ، و من مجموعة إلى أخرى ... حتى غرقت في البحر حقا !

كانت أرف الكتب مصفوفة على شكل عدة حواجز تقسم المنطقة ...
و الكثير من الناس ينتشرون في المكان و يتفرجون هنا أو هناك ...

دقائق ، و إذا بي أسمع صوت رغد من مكان ما !
كان صوتها يبدو مرتبكا أو قلقا ... لم أكن في موقع يسمح لي برؤيتها ... فسرت بين الحواجز بحثا عنها و أنا أقول :

" أنا هنا "

و لم أسمع لها صوتا !
أخذت ُ ألقي نظرة بين الحواجز بحثا عنها
ثم وجدتها بين حاجزين ...

" أنا هنا ! "

حينما رأتني رغد أقبلت نحوي مسرعة تاركة السلة التي كانت تحملها تقع على الأرض و حين صارت أمامي مباشرة فوجئت بها تمسك بذراعي و ترتجف !

كانت فزعة !!

وقفت أمامي ترتعش كعصفور مذعور !

نظرت إليها بذهول ... قلت :

" ما بك ؟؟ "

قالت و هي بالكاد تلتقط بعض أنفاسها :

" أين ذهبت ؟ "

أجبت :

" أنا هنا أتفرج على الكتب ! ... ما بك ؟؟ "

رغد ضغطت على ذراعي بقوة ... و قالت بفزع :

" لا تتركني وحدي "

نظرت ُ إليها بشيء من الخوف ، و القلق ... و الحيرة ...

فقالت :

" لا تدعني وحدي ... أنا أخاف "

لكم أن تتصورا الذهول الذي علاني لدى سماعي لها تقول ذلك ... و رؤيتها ترتجف أمام عيني بذعر ...

لقد ذكرني هذا الموقف ، باليوم المشؤوم ...

قلت :

" أ أنت ِ ... بخير ؟؟ "

فعادت تقول :

" لا تتركني وحدي ... أرجوك ... "

لم يبدُ لي هذا تصرفا طبيعيا ... توترتُ خوفا و قلقا ... و تأملتها بحيرة ...

سرنا باتجاه السلة ، فأردت سحب ذراعي من بين يديها لحمل السلة و إعادة المحتويات إلى داخلها ... لكنها لم تطلقها بسهولة ...
و عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر ثم بدأت بالبكاء ...

لم يكن موقفا عاديا ، لذا فإن أول شيء سألت أمي عنه بعد عودتنا للبيت :

" ما الذي جعل رغد تفزع عندما تركتها في المكتبة و ابتعدت قليلا ؟؟ "

أمي نظرت إلي باهتمام ... ثم قالت :

" ماذا حدث ؟؟ "

" لا شيء ... ذهبت ألقي نظرة على الكتب و بعد دقائق وجدتها ترتجف ذعرا ! "

عبس وجه والدتي ، و قالت :

" و لماذا تتركها يا وليد ؟ قلت لك ... انتبه لها "

أثار كلام أمي جنوني ، فقلت :

" أمي ... ماذا هناك ؟؟ ما لأمر ؟؟ "

قالت أمي بمرارة :

" لديها رهبة مرضية من الغرباء ... تموت ذعرا إذا لم تجد أحدنا إلى جانبها ... إنها مريضة بذلك منذ سنين ... منذ رحيلك يا وليد ! "

لقد صدمت بالنبأ صدمة هزت كياني و وجداني ...

أخبرتني أمي بتفاصيل حدثت للصغيرة بعد غيابي ... و الحالة المرضية التي لازمتها فترة طويلة و الذعر الذي ينتابها كلما وجدت نفسها بين غرباء ...
لم يكن صعبا علي أن أربط بين الحادث المشؤوم و حالتها هذه
و كم تمنيت ...
كم تمنيت ...
لو أن عمّار يعود للحياة ... فأقتله ... ثم أقتله و أقتله ألف مرة ...
إنه يستحق أكثر من مجرد أن يقتل ....

قالت أمي :

" و عندما توالت الهجمات على المنطقة ، اشتد عليها الذعر و المرض ... و وجدنا أنفسنا مضطرين للرحيل مع من رحل عن المدينة ... لم يكن الرحيل سهلا ، لكن العودة كانت أصعب ... قضيت معها فترات متفرقة في المستشفى ... لم تكن تفارقني لحظة واحدة ! بمشقة قصوى ذهب والدك و شقيقك لزيارتك في العاصمة ، تاركين الطفلة المريضة و أختها في رعايتي في المستشفى ، إلا أنهما منعا من الزيارة و أبلغا أن الزيارة محظورة تماما على جميع المساجين ! "

و أمي تتحدث و أنا رأسي يدور ... و يدور و يدور ... حتى لف المجرة بأكملها
تساؤلات كان تملأ رأسي منذ سنين ، و جدت إجابة صاعقة عليها دفعة واحدة ...
أسندت رأسي إلى يدي ...

رأتني أمي أفعل ذلك فقالت :

" بني ... أ أنت بخير ؟؟ "

رفعت يدي عن رأسي و قلت :

" و لماذا ... لماذا زوجتموها لسامر و هي بذلك السن المبكر جدا ؟؟ "

قالت :

" لمن كنت تظننا سنسلم ابنتنا ؟؟ إنها تموت ذعرا لو ابتعدت عنا ... هل تتصور أنها تستطيع الخروج من هذا المنزل ؟؟ لا تخرج في مكان عام إلا بوجود أبيك أو سامر ... كانت ستزوجه إن عاجلا أم آجلا ... فرفعنا الحرج عنهما لبقائهما في بيت واحد "

قلت :

" لكن يا أمي ... إنها ... إنها .... "

و لم تخرج الكلمة المعنية ...

أتممت :

" إنها صغيرة جدا ... ما كان يجب أن تقروا شيئا كهذا ... "

و تابعت :

" كان يجب ... كان يجب ... إن ... "

و لم أتم ...

ماذا عساي أن أقول ... ؟؟ لقد فات الأوان و انتهى كل شيء ...

لكن الأمور بدت أكثر وضوحا أمامي ...

هممت بالذهاب إلى غرفة سامر التي أستغلها ، من أجل تنفس الصعداء وحيدا ...

توقفت قبل مغادرتي لغرفة المعيشة حيث كنا أنا و أمي ...

التفت إليها و قلت :

" أ لهذا لم تخبروها بأني دخلت السجن ؟؟؟ هل أخبرتموها أني ... لن أعود ؟؟ "

والدتي قالت :

"أخبرناها بأنك قد تعود ... و لكن ... بعد عشرين عاما ... و قد لا تعود ... "

كانت أمي تبكي ...
بينما قلبي أنا ينزف ...

قلت :

" و لكني عدت ... "

والدتي مسحت دموعها وابتسمت ، ثم تلاشت الابتسامة عن وجهها ... و نظرت إلي باهتمام و قلق ...

قلت :

" و يجب أن أرحل "

و تابعت طريقي إلى غرفة سامر ...

فضول لم استطع مقاومته ، و قلق شديد بشأنها دفعني للاقتراب من غرفة رغد المغلقة ... و من ثم الطرق الخفيف ...

" أنا وليد "

بعد قليل ... فتح الباب ...
كنت أقف عن بعد ... أطلت رغد من الداخل و نظرت إلي
رأيت جفونها الأربعة متورمة و محمرة أثر الدموع

قلت :

" صغيرتي ... أنا آسف ... "

ما إن قلت ذلك ... حتى رفعت رغد يديها و غطت وجهها و أجهشت بكاءا
زلزلني هذا المشهد ... كنت أسمع صوت بكائها يذبذب خلايا قلبي قبل طبلتي أذني ّ

قلت بعطف :

" رغد ... "

رغد استدارت للخلف و أسرعت نحو سريرها تبكي بألم ...

بقيت واقفا عند الباب لا أقوى على شيء ... لا على التقدم خطوة ، و لا على الانسحاب ...

" رغد يا صغيرتي ... "

لم تتحرك رغد بل بقيت مخفية وجهها في وسادتها تبكي بمرارة ... و يبكي قلبي معها ...

" رغد ... أرجوك كفى ... "

ثم قلت :

" توقفي أرجوك ... لا احتمل رؤية دموعك ! "

و لم تتحرك رغد ...

تقدمت خطوة واحدة مترددة نحو الداخل ... و نظرت إلى ما حولي بقلق و تردد ...

المرآة كانت على يميني ، و حين تقدمت خطوة رأيت صورتي عليها ... و حين التفت يسارا ... رأيت صورتي أيضا !

فوجئت و تعلقت عيناي عند تلك الصورة !

لقد كانت رسمة لي أنا على لوحة ورقية ، لم تكتمل ألوانها بعد !

نقلت بصري بين رغد الجالسة على السرير تغمر وجهها في الوسادة ، و صورتي على الورقة !
كيف استطاعت رسمي بهذه الدقة !؟ و بمظهري الحالي ... فأنفي محفور كما هو الآن !
كيف حصلت على صورة لي لترسمها ، أم أنها رسمتها من خلال المرات القليلة العابرة التي نظرت فيها إلي ... !؟

" يشبهني كثيرا ! أنت بارعة ! "

ما إن أنهيت جملتي حتى قفزت رغد بسرعة ، و عمدت إلى اللوحة فغطتها بورقة بيضاء بسرعة و ارتباك !

ثم بعثرت أنظارها في أشياء كثيرة ... بعيدا عني ... و أخذت تفتح علب الألوان الجديدة التي اشترتها من المكتبة باضطراب ...

رجعت للوراء ... لم أكن أملك فكرة لما علي فعله الآن ! ماذا علي أن أفعل ؟؟
أظن ... أن علي الخروج حالا

الجملة التي ولدت على لساني هذه اللحظة كانت :

" أحب أن أتفرج على رسوماتك ! "

و لكن أهذا وقته !
رجعت خطوة أخرى للوراء و أضفت :

" لاحقا طبعا ... إذا سمحت ِ "

رغد توجهت نحو مكتبتها و أخرجت كراسة رسم كبيرة ، و أقبلت نحوي و مدتها إلي ...
في هذه اللحظة التقت نظراتنا
كان بريق الدموع لا يزال يتلألأ في عينيها الحمراوين ، ينذر بشلال جارف ...
أخذت الكراسة ....
و قلت و قلبي يتمزق :

" لا تبكي أرجوك ... "

لكن الدمعة فاضت ... و انسكبت ... و انجرفت ... تقود خلفها جيشا من الدموع المتمردة ...

" رغد ... سألتك ِ بالله كفى ... أرجوك ... "

" لا أستطيع أن أتغلب على ذلك ... كلهم مرعبون ... مخيفون ... أشرار ... يريدون اختطافي "

و انفجرت رغد في بكاء مخيف ... هستيري ... قوي ... و ارتجفت أطرافي ذعرا و غضبا و قهرا كدت أصرخ بسببه صرخة تدوي السماء ...
أراها أمامي كما رأيتها ذلك اليوم المشؤوم ... و أضغط على الكراسة في يدي و أكاد أمزقها ...
تمنيت لو أستطيع تطويقها بين ذراعي بقوة ... كما فعلت يومها ... لكني عجزت عن ذلك
تمنيت لو ...
لو أخرج جثة عمار من تحت سابع أرض ... و أقتله ، ثم أمزقه قطعة قطعة ... خلية خلية ... ذرة ذرة ...
لو يعود الزمن للوراء ... لكنت قتلته في عراكي معه آخر مرة ... و لم أدع له الفرصة ليعيش و يؤذيك ...

إني كنت ُ السبب ...
نعم أنا السبب ...
و قد انتقم مني أبشع انتقام ...
و أي انتقام ؟؟
ثمن بقيت أدفعه منذ ذلك اليوم ، و حتى آخر لحظة في حياتي البائسة ...
ما ذنب صغيرتي في كل هذا ...؟
خسئت أيها الوغد ...

هنا أقبلت أمي التي يبدو أنها سمعت بكاء رغد ... و وقفت إلى جانبي لحظة تنقل نظرها بيني و بين رغد ، ثم تقدمت إلى رغد

" عزيزتي ؟؟ "

رغد ارتمت بقوة في حضن والدتي ... و هي تبكي بألم صارخ ... و تقول بين دموعها :

" لا تتركوني وحدي ... لا تتركوني وحدي ... "

أمي طوقت رغد بحنان و أخذت تربت عليها بعطف و تهدئها ...

ثم نظرت إلى باستياء و قالت :

" لماذا يا وليد ؟؟ "



في غرفة سامر ، أجلس على السرير ، أقلب صفحات كراسة رغد ...
الكثير من الرسومات الجميلة ...لأشياء كثيرة ... ليس من بينهم صورة لأحد أفراد العائلة غير دانة !
صورة لها و هي صغيرة و غاضبة !
و العديد من صور أشياء خيالية ... و أشباح !
لا أعرف ما الذي تقصده بها ...
كانت ساعتان قد انقضتا مذ خرجت من غرفتها تاركا إياها تهدأ في حضن والدتي
الآن أسمع طرقا على الباب

" تفضل "

و دخلت والدتي

" وليد ... العشاء جاهز "

تركت الكراسة على السرير و خرجت مع أمي قاصدين غرفة الطعام . قبل أن نصل، همست أمي لي :

" وليد ... لا تثر ذلك الأمر ثانية رجاءا "

فأومأت برأسي موافقا .
و لم أسمح لنظراتي أن تلتقي بعيني رغد أو للساني أن يكلمها طوال الوقت .

بعد ذلك ، ذهبت مع أبى نتابع آخر الأخبار عبر التلفاز ، في غرفة المعيشة

لا يزال الدمار ينتشر ... و الحرب التي هدأت نسبيا لفترة مؤقتة عادت أقوى و أعنف ... و أخذت تزحف من قلب البلدة إلى الجهات الأربع ...
تم غزو مدينتين أخرين مؤخرا ، لم تكن الحرب قد نالت منهما حتى الآن ... و تندرج المدينة الصناعية التي نحن فيها الآن ، في قائمة المدن المهددة بالقصف ...

كنت مندمجا في مشاهدة لقطات مصورة عن مظاهرات متفرقة حدثت صباح اليوم في مدن مختلفة من بلدنا .... و رؤية العساكر يضربون المدنين و يقبضون على بعضهم ...

منظر مريع جعل قلبي ينتفض خوفا ... و أثار ذكريات السجن المؤلمة المرعبة ...

في هذا الوقت ، أقبلت رغد تحمل مجموعة من الكراسات و اللوحات الورقية ، و جاءت بها إلي !

" تفرج على هذه أيضا ... هذا كل ما لدي "

وضعتُ الكراسات على المنضدة المركزية ، و جلست رغد على مقعد مجاور لمقعدي ... تراقبني و تنتظر تعليقاتي حول رسوماتها الجميلة ...

إن عيني كانت على الرسومات ، إلا أن أذني كانت مع التلفاز !

بعدما فرغت من استعراض جميع الرسومات قلت :

" رائعة جدا ! أنت فنانة صغيرتي ! أهذا كل شيء ؟؟ "

رغد ابتسمت بخجل و قالت :

" نعم ... عدا اللوحة الأخيرة "

و أخفت أنظارها تحت أظافر يديها !
لماذا قررت رغد رسمي أنا ؟ و أنا بالذات !؟؟
إنها لم ترسم أحدا من أفراد عائلتي ... فهاهي الرسومات أمامي و لا وجود لسامر مثلا فيما بينها !

قلت :

" متى تنهينها ؟ "

لا زالت تتأمل أظافرها و كأنها تراهم للمرة الأولى !

قالت :

" غدا أو بعد الغد ... "

قلت :

" خسارة ! لن أراها كاملة إذا ! "

رفعت رغد عينيها نحوي فجأة بقلق ، ثم قالت :

" لماذا ؟ "

أجبت :

" لأني ... سأرحل غدا باكرا ... كما تعلمين ! "

اختفى صوت الأخبار فجأة ، التفت إلى التلفاز فإذا به موقف ، ثم إلى أبي ، و الذي كان يحمل جهاز التحكم في يده ، فرأيته ينظر إلي بعمق ... و إلى أمي فوجدتها متسمرة في مكانها ، تحمل صينية فناجين و إبريق الشاي ...

و كنت شبه متأكد ، من أني لو نظرت إلى الساعة لوجدتها هي الأخرى متوقفة عن الدوران !

حملق الجميع بي ... فشعرت بالأسى لأجلهم ... كانت نظرات الاعتراض الشديد تقدح من أعينهم

أول من تحدث كان أمي :

" ماذا وليد ؟؟ و من قال أنك سترحل من جديد ؟؟ "

صمت قليلا ثم قلت :

" قلت ذلك منذ أتيت ... انتهت الزيارة و لابد لي من العودة "

قال والدي مقاطعا :

" ستبقى معنا يا بني "

هزت رأسي ، و قلت :

" و العمل ؟؟ ماذا أفعل بقائي هنا ؟؟ "

و دار نقاش طويل حول هذا الموضوع ، و بدأت أمي بالبكاء ، و رغد كذلك !

و حين وصلت دانة و التي كانت لا تزال تتناول العشاء مع خطيبها في غرفة الضيوف ، و جاءت تسأل أمي عن الشاي ، و رأت الوجوم على أوجهنا ثم عرفت السبب بكت هي الأخرى !

أردت أن أختصر على نفسي و عليهم آلام الوداع .. سرعان ما قلت :

" سأخلد للنوم "

و ذهبت إلى غرفة سامر
أخذت أقلب كراسة رغد مجددا ...
كم أثارت ذكريات الماضي ... كم كانت شغوفة بالتلوين ! لقد كنت ألون معها بساطة ! كم أتمنى لو ... تعود تلك الأيام ...

جمعت أشيائي في حقيبة سفري الصغيرة التي جئت بها من مدينتي
ضبطت المنبه ليوقظني قبل أذان الفجر بساعة ...

كنت أريد أن أخرج دون أن يحس أحد بذلك ، لئلا تبدأ سلسلة عذاب الفراق و ألم الوداع ... كالمرة السابقة ...
و حين نهضت في ذلك الوقت ، تسلت بهدوء و حذر خارجا من المنزل ...

كان السكون يخيم على الأجواء ... و الكون غارق في الظلام الموحش ... إلا عن إنارة خافتة منبعثة من المصباح المعلق فوق الباب

خرجت إلى الفناء الخارجي ، و كان علي أن أترك الباب غير موصد ... و سرت إلى البوابة الخارجية ... فإذا بي أسمع صوت الباب يفتح من خلفي ..

استدرت إلى الوراء ... فإذا بي أرى رغد تطل من فتحة الباب !

صمدت في مكاني مندهشا !

رغد أخذت تنظر إلى و إلى الحقيبة التي في يدي ... ثم تهز رأسها اعتراضا ... ثم تقبل إلي مسرعة ...

" وليد ... لا ... لا ترحل أرجوك "

حرت و لم يسعفني لساني بكلمة تناسب مقتضى الحال ... سألتها :

" لم ... أنت مستيقظة الآن ؟؟ "

رغد حدقت بي مدة ، و بدأت الدموع تنحدر من محجريها ...

" أوه ... كلا أرجوك ! "

قلت ذلك بضيق ، فأنا قد خرجت في هذا الوقت خلسة هروبا من هذا المنظر ...

إلا أن رغد بدأت تبكي بحدة ...

" لا تذهب وليد أرجوك ... أرجوك ... ابق معنا "

قلت :

" لا أستطيع ذلك ... أعني ... لدي عمل يجب أن أعود إليه "

و في الحقيقة ، لدي واقع مر يقف أمامي ... علي أن أهرب منه ...

رغد تهز رأسها اعتراضا و استنكارا ... ثم تقول :

" خذني معك "

ذهلت لهذه الجملة المجلجلة ! و اتسعت حدقتا عيني دهشة ...

رغد قالت :

" أريد أن أعود إلى بيتنا "

" رغد !! "

دخلت رغد في نوبة بكاء متواصل ، خشيت أن يخترق صوتها الجدران فيصل إلى البقية و يوقظهم ... و نبدأ دوامة جديدة من الدموع ...

قلت :

" رغد ... أرجوك كفى ... "

رغد قالت بانفعال ، و صوتها أقرب للنوح منه إلى الكلام :

" أنا ... وفيت بوعدي ... و لم أخن اتفاقنا ... لكنك كذبت علي ... و لم تعد ... و الآن بعد أن عدت ... تبادر بالرحيل ... و تنعتني أنا بالخائنة ؟ إنك أنت الخائن يا وليد ... تتركني و ترحل من جديد "

كالسم ... دخلت هذه الكلمات إلى قلبي فقتلته ... و زلزلتني أيما زلزلة ...

قلت مندهشا غير مستوعب لما التقطت أذناي من النبأ الصاعق :

" لم ... لم ... تخبري أحدا ... ؟؟ "

رغد هزت رأسها نفيا ...

قلت بذهول :

" و لا ... حتى ... سامر ؟؟ "

و استمرت تهز رأسها نفيا و بألم ...

فشعرت بالدنيا هي الأخرى تهتز و ترتجف من هول المفاجأة ... تحت قدمي ّ

قالت :

" كنت ُ أنتظر أن تعود ... لكنهم أخبروني أنك لن تعود ... و لا تريد أن تعود ... و كلما اتصلت بهاتفك ... وجدته مقفلا ... و لم تتصل لتسأل عني و لا مرة طوال هذه السنين ... لماذا يا وليد ؟؟ "

لحظتها تملكتني رغبة مجنونة بأن أضحك ... أو ... أو حتى أن أتقيأ من الصدمة !
لكن ...
ما الجدوى الآن ...
كبتّ رغبتي في صدري و معدتي ، و رفعت نظري إلى السماء ... أُشهد ملائكة الليل على حال ٍ ليس لها مثيل ...

و حسبي الله و نعم الوكيل ...

سمعت صوت تغريد عصفور شق سكون الجو ... و نبهني للوقت الذي يمضي ...

و الوقت الذي قد مضى ...

و الوقت القادم المجهول ...

كم سخرت الدنيا مني ... فهل من مزيد ؟؟؟

" صغيرتي ... أنا ذاهب ... "

رغد ظلت تنظر إلي و تبكي بغزارة ... و لم يكن باستطاعتي أن أمسح دموعها ...

استدرت موليا إياها ظهري ... لكن صورتها بقيت أمام عيني مطبوعة في مخيلتي ...

سرت خطى مبتعدا عنها ... نحو البوابة الرئيسية للفناء ، و فتحتها ...

قلت :

" اقفلي الباب من بعدي .. "

دون أن التفت نحوها ... فهو دوري لأذرف الدموع ... التي لا أريد لأحد أن يراها و يسبر غورها ...

" وليد "

و كعصفور يطير بحرية ... بلا قيود و لا حدود ... و لا اعتبار لأي شيء ... أقبلت نحوي ...

استدرت ... و تلقيت سهما اخترق صدري و ثقب قلبي ... و بعثر دمائي و مشاعري في لحظة انطلقت فيها روحي تحلق مع الطيور المرفرفة بأجنحتها ... احتفالا بمولد يوم جديد ...






منذ الساعة التي أجريت فيها المقابلة الشخصية ، و طرح علي السؤال عن خبراتي و مؤهلاتي و عملي في السابق ، أدركت أن الأمر لن يكون يسيرا ...
حصلت على الوظيفة رغم ذلك بتوصية حادة من صديقي سيف ، الذي ما فتئ يشجعني و يحثني على السير قدما نحو الأمام

و خلال الأشهر التالية ، واجهت الكثير من المصاعب ... مع الآخرين .

بطريقة ما انتشر نبأ كوني خريج سجون بين الموظفين ، و تعرضت للسخرية و المعاملة القاسية من قبل أكثرهم

كنت أعود كل يوم إلى المنزل مثقلا بالهموم ، و عازما على عدم العودة للشركة مجددا ، إلا أن لقاءا قصيرا أو مكالمة عابرة مع صديقي سيف تنسيني آلامي و تزيح عني تلك الهموم ...

أصبح صديقي سيف هو باختصار الدنيا التي أعيشها ...

توالت الأشهر و أنا على هذه الحال ، و كنت أتصل بأهلي مرتين أو ثلاث من كل شهر ... اطمئن على أحوالهم و أحيط علما بآخر أخبارهم

علمت أن رغد التحقت بكلية الفنون و أن دانه قد حددت موعدا لزفافها بعد بضعة أشهر .. و أن والديّ يعتزمان تأدية الحج هذا العام ...

أما سامر ، فقليلا جدا ما كنت أتحدث إليه ، حين أتصل و يكون صدفة متواجدا في المنزل ، إذ انه كان يعمل في مدينة أخرى ...

في الواقع ، أنا من كان يتعمد الاتصال في أيام وسط الأسبوع أغلب الأوقات .

لقد تمكنت بعد جهد طويل ، من طرد الماضي بعيدا عن مخيلتي ، إلا أني لازلت احتفظ بصورة رغد الممزقة موضوعة على منضدتي قرب سريري إلى جانب ساعتي القديمة ألمها ثم أبعثرها كل ليلة !

حالتي الاقتصادية تحسنت بعض الشيء ، و اقتنيت هاتفا محمولا مؤخرا ، إلا إني تركت هاتف المنزل مقطوعا عن الخدمة .

أما أوضاع البلد فساءت عما كانت عليه ... و أكلت الحرب مدنا جديدة ...
و أصبح محظورا علينا العبور من بعض المناطق أو دخول بعض المدن ...

في مرات ليست بالقليلة نتبادل أنا و سيف الزيارة ، و نخرج سوية في نزهات قصيرة أو مشاوير طويلة ، هنا أو هناك ...

في إحدى المرات ، كنت مع صديقي سيف في مشوار عمل ، و كنا نتأمل مشاهد الدمار من حولنا ...

الكثير الكثير من المباني المحطمة ... و الشوارع الخربة ...

مررنا في طريقنا بأحد المصانع ، و لم يكن من بين المباني التي لمستها يد الحرب ... فتذكرت مصنع والدي الذي تدمر ...

قلت :

" سبحان الله ! نجا هذا من بين كل هذه المباني المدمرة ! ألا يزال الناس يعملون فيه ؟؟ "

أجاب سيف :

" نعم ! إنه أهم مصنع في المنطقة يا وليد ! ألا تعرفه ؟ "

" كلا ! لا أذكر أني رأيته مسبقا ! "

ابتسم سيف و قال :

" إنه مصنع عاطف ... والد عمّار ... يرحمهما الله ! "

دهشت ! فهي المرة الأولى التي أرى فيها هذا المبنى ... !

أخذت أتأمله بشرود ... ثم ، انتبهت لكلمة علقت في أذني ...

" ماذا ؟ رحمهما الله ؟؟ "

سألت سيف باستغراب ، معتقدا بأنه قد أخطأ في الكلام ... قال سيف :

" نعم ... فعاطف قد توفي العام الماضي ... رحمه الله "

 
قديم   #20

نودى نينو


رد: رواية إنتِ لي كاملة


رواية إنتِ لي كاملة


الحلقةالسابعةعشر










بين يوم و آخر ، يحضر نوار لزيارة دانة أو الخروج معها للعشاء في أحد المطاعم أو للتنزه ... أو شراء مستلزمات الزفاف و عش المستقبل !

" إلى أين ستذهبان اليوم ؟؟ "

سألتها ، و هي ترتدي عباءتها استعدادا للخروج ، قالت :

" إلى محلات التحف أولا ، ثم إلى الشاطئ ! سأعود ليلا ! "

قلت :

" الشاطئ ؟ رائع ! كم أشتاق الذهاب إليه ! "

قالت بمكر :

" تعالي معنا ! "

نظرت إليها باستهتار ثم أشحت بوجهي عنها ... قلت :

" كنت سأفعل لو أن خطيبك لم يكن ليرافقنا !"

قالت بخبث :

" نذهب وحدنا ؟ أنا و أنت ؟؟ "

" نأخذ أبي و أمي ! ما رأيك دانة ؟؟ اصرفيه و دعينا نذهب نحن الأربعة ! "

" لا تكوني سخيفة ! "

و انصرفت عني ترتب عباءتها أمام المرآة ...

قلت :

" في كل يوم تخرجين معه ! لم لا تتنازلي عن هذا اليوم لنخرج معا ؟؟ إني أشعر بالملل "

قالت :

" غدا يعود سامر و اذهبي معه حيث تريدين ! "

و غدا هو موعد زيارة سامر ، الذي يأتي مرة أو مرتين من كل شهر ... ليقضي عطلة نهاية الأسبوع معنا ...
لكن ...

لكني لا أشعر بالحماس للذهاب معه ...

حين أقارن بين وضعي و وضع دانة أشعر بفارق كبير ... إنها منذ لحظة ارتباطها تعيش سعادة و بهجة متواصلة ... و تستمتع بحياتها كل يوم

خطيبها رجل ثري و يغدق عليها الهدايا و الهبات !

كل يوم أذهب أنا للكلية ثم أعود و أقضي وقتا لا بأس به في الواجبات و في الرسم ، بينما تستمتع دانه بالنزهات و الرحلات مع خطيبها المغرور ...
و في أحيان أخرى تقضي ساعات طويلة في التحدث معه عبر الهاتف !
حين يتصل سامر فإن حديثنا لا يستغرق غير دقائق ...
فهل كل المخطوبين مثل دانه سواي أنا ؟؟

قلت أستفزها :

" و على كل ... فخطيبك شخص مغرور و بغيض ! لا أعرف كيف تحتملين البقاء معه كل هذه الساعات ! "

التفت دانه نحوي و نظرت إلي بخيلاء و قالت :

" مغرور ؟ و حتى لو كان كذلك ! يحق له ... فهو أشهر و أغنى لاعب في المنطقة ! أما بغيض ... فلا تعني شيئا ! فهو رأيك في جميع الرجال ! "

و صمت لحظة ثم قالت :

" و ربما حتى سامر ! أنت خالية من الرومانسية يا رغد ! و لا تعرفين كيف تحبين أو تدلين خطيبك ! "

و هنا سمعنا صوت جرس الباب ، فانطلقت دانه مسرعة تحثني على الخروج من غرفتها ، ثم تقلق الباب ... و تغادر ...

ربما نسيت دانه ما قالت حتى قبل أن تغادر ، لكن كلماتها ظلت تدق مسمارا مؤلما في قلبي لوقت طويل ...

أنا فعلا لا أشعر باللهفة للقاء سامر ! لكنه دائما يشتاق إلي ... و في الآونة الأخيرة ، بعد أن انتقل إلى مدينة أخرى ، صار يعاملني بطريقة أشد لطفا و حرارة كلما عاد

ذهبت إلى غرفتي و أنا متأثرة من جملة دانه الأخيرة هذه ... فهل أنا فعلا خالية من الرومانسية ؟؟
و هل بقية الفتيات يتصرفن مثل دانه ؟؟
أنا لم أحتك مباشرة بصديقة مخطوبة فأنا أول من خطبت من بين صديقاتي رغم أني أصغرهن سنا !

أردت طرد هذه الأفكار عن رأسي ، فعمدت إلى كراساتي ... و أقبلت على الرسم ...

شيء ما دعاني لأن أفتش بين لوحاتي المتراكمة فوق بعضها البعض عن صورة وليد !

لا تزال الصورة كما هي ... منذ رحل ... لم أملك أي رغبة في إتمام تلوينها ...
لست من النوع المتباهي بنفسه ، لكن هذه اللوحة بالذات ... رائعة جدا !

وليد ... له وجه عريض ... و جبين واسع ... و شعر كثيف ... و عينان عميقتا النظرات ... و فك عريض منتفخ العضلات ... و أنف معقوف حاد !

إنه أكثر وسامة من نوّار الذي تتباهى دانه به !

و من سامر المشوه طبعا ...

لم أكن لأرسم شيئا مشوها كوجه سامر ... إنه لا يصلح عملا فنيا ...

في لقائي الأخير بوليد ..عند رحيله ليلا ... بكيت كثيرا جدا ... ربما أكثر مما بكيت يوم علمت أنه سافر للدراسة دون وداعي قبل سنوات ...

أوصدت الباب و دخلت ، و العبرات منزلقة بانطلاق على خدي الحزين

فوجئت برؤية والدتي تقف عند النافذة المشرفة على الفناء ، و التي تسمح للناظر من خلالها أن يرى البوابة ، و من يقف عند البوابة ، و ما يحدث قرب البوابة !

لم أعرف لحظتها ما أفعل و ما أقول ... أصابني الهلع و الخرس ... أمي اكتفت برشقي بنظرات مخيفة و حزينة في آن واحد ، ثم انصرفت ...

منذ ذلك الحين و هناك شيء ما يقف بيني وبينها ... لا أعرف ما كينونته و لا أجله

في المساء ، زارتني ابنة خالتي نهلة ، و طبعا سارة معها فهي تلازمها كالذيل ليلا و نهارا !

كنت أرغب في التحدث مع نهلة عن أمور تشغل تفكيري و تحيرني ... و أشياء لا أستطيع التحدث عنها لشخص آخر ... و لكن كيف لي أن أصرف هذه الصغيرة المتطفلة ؟؟

" ساره ... هل تحبين الذهاب إلى غرفتي و التفرج على رسوماتي ؟؟ يمكنك أيضا رسم ما تشائين ! "

" سأذهب حين تذهب أختي "

أوه ... كيف لي أن أصرفها ...؟؟

" إذن ... ما رأيك بمشاهدة فيلم هزلي جديد مدهش ... أحضره أبي يوم أمس ؟ اذهبي لغرفة المعيشة و تفرجي مع أمي ! "

"سأبقى معكما "

نهلة نظرت إلي نظرة استنتاج ، ثم قالت لشقيقتها :

" عزيزتي ساره ... شاهدي الفيلم و نحن سنأتي بعد قليل ! "

" سأذهب حين تذهبان "

يا لها من فتاة مزعجة ! ألا أستطيع أن أنفرد بصديقتي لبعض الوقت ؟؟

قالت نهلة :

" لا بأس رغد ! فهي لا تكترث لما نقول ! ... أهناك شيء ؟؟ "

ترددت ، و لكني بعد ذلك أطلقت لساني لقول أمور لم أظن أن سارة ستفهمها ... فهي إلى كونها لا تزال صغيرة ، و غبية لحد ما !

قلت :

" سامر سيأتي غدا ! "

قالت :

" و ...؟؟ "

قلت :

" سيفتح موضوع زواجنا من جديد ، كما في كل مرة ! إنه يريد أن نتزوج مع دانه ... و يبدو أن والدتي اقتنعت بالفكرة و صارت تشجعني عليها ... "

قالت :

" و أنت ؟؟ "

تنهدت ثم قلت :

" تعرفين ... إني أريد أن أنهي دراستي أولا ... و ... و ... أعرف رأي وليد "

نهلة ترفع حاجبا ، و تخفض آخر ... و تميل إحدى زاويتي فمها بمكر !

" و أعرف رأي وليد ! و إذا قال وليد : الزواج ممنوع !؟ "

قلت بسرعة :

" لن أتزوج ! "

قالت :

" و إن قال : الزواج واجب !؟ "

لم أرد ... نهلة تأملتني برهة ، ثم قالت :

" رغد ! و لماذا تنتظرين رأي وليد ؟؟ إنه ليس ولي أمرك أو المسؤول عنك ! "

استأت من هذه الحقيقة الموجعة ...
فلطالما كان وليد مسؤولا عني منذ الصغر ... و لطالما قال أنه لن يتخلى عني ... و لطالما اعتبرته أهم شخص في حياتي ... إلى أن غاب ...

قلت :

" لكنه ... لكنه ... أكبرنا ... و أنا أحترم رأيه كثيرا ... و ... سأعمل بما يقول "

نهلة قالت :

" ألا يزال كما كان في الماضي ؟ أذكر أنه كان طويلا و قويا ! كان يلعب معك كثيرا سابقا ! "

ابتسمت ، و توسعت الشعيرات الدموية في وجهي ! و قلت بخجل :

" إنه كذلك ! لكن ... لا مزيد من اللعب فقد أصبح رجلا كبيرا ! "

قالت :

" صحيح ! على فكرة هل تزوج ؟؟ "

الشعيرات التي كانت متفتحة قبل ثوان انقبضت و خنقت الدماء في داخلها ...

أيقظت جملة سارة في نفسي شيئا كان نائما بسلام ... قلت بارتباك أمحو السؤال و أطرده من الوجود :

" لا ... لا "

قالت نهلة :

" إذن لابد أنه يفكر في الزواج الآن ! بعدما عاد للوطن و استقر في العمل ! "

ثم أضافت مداعبة :

" هل تريدين عروسا له ؟؟ جميلة و جذابة و رائعة مثلي !؟ "

قلت بحنق بدا معه جليا استيائي من الفكرة :

" لا تكوني سخيفة يا نهلة ! "

استغربت نهلة استيائي هذا ، ثم قالت :

" إنه كبير على أية حال ! و لا يناسب فتاة تصغره بتسع سنين ! "

فكرة أخرى أن يتزوج وليد رافقت الفكرة الأولى خالية من الرومانسية في اللعب بالمضرب و الكرة في رأسي طوال الساعات التالية !

قلت :

" إنه ... لا يفكر في الإقامة هنا ... أتمنى لو نعود إلى بيتنا السابق ... معه "

قالت :

" ماذا عن خطيبك ؟؟ هل سيستقر هو الآخر في المدينة الأخرى ؟؟ "

قلت :

" لا أعرف ... ! عمله هناك ... و لابد له من البقاء هناك "

" و إن تزوجتما ؟؟؟ ستنتقلين للعيش معه حتما ! "

لم تعجبني الفكرة !
لا أريد أن أبتعد عن أهلي ... إني لا أستغني عنهم ... أريد البقاء في بيتهم ...

" سأنتظر رأي وليد "

تقوس حاجبا نهلة دهشة و قالت بلاهة :

" رأي وليد ؟؟ في أن تقيمي مع زوجك أو مع والديك ؟؟ "

قلت بغضب :

" حمقاء ! أعني في أن نؤجل موضوع الزواج لوقت لاحق ... فربما تتغير الأوضاع ... "

" عليكم أن تقروا بسرعة ! فموعد زواج دانه يقترب ! أين هي على فكرة ؟؟ "

" دانه ؟ خرجت كالعادة تتنزه مع خطيبها ! "

ابتسمت نهلة ... لكني أزحت ابتسامتها جانبا بسؤالي :

" نهلة ...هل يشعر جميع المرتبطين بسعادة مميزة عندما يتنزهون مع بعضهم البعض ... أو يتبادلون الهدايا ... أو المكالمات الهاتفية ؟؟ "

طبعا نهلة اندهشت ، و قالت :

" أكيد ! طبعا ! "

صمت لثوان ، ثم قلت :

" لكني لا أشعر بشيء كهذا ! إني أتحدث معه كما أتحدث معك ! لا شيء مميز ... ليس كما تكون دانه حين تتحدث مع خطيبها أو تخرج معه ! غاية في السرور ! "

فوجئت نهلة بكلماتي هذه ... ة قالت :

" أنت ِ ... لا تحبينه ؟؟ "

قلت بسرعة :

" بالطبع ... أحبه ! "

نظرت نهله نحو سارة البليدة ... ثم قالت :

" كما تحب دانه خطيبها ؟؟ "

" لا ! كما تحبين أنت ِ حسام ! "

دانة عادت تسأل :

" ليس كما تحب امرأة ٌ رجلا ؟؟ "

توترت من سؤالها ... و بعثرت نظراتي فيما حولي ... و وقع سهم منها على سارة ، و التي كانت تنظر إلينا بلادة و غباء مزعجين !

قلت بعصبية :

" و كيف يجب أن تحب امرأة رجلا ؟؟ "

قالت نهلة بأسى :

" أوه يا عزيزتي ! رغد ! إنك لا تزالين طفلة ! "



عادت دانه من سهرتها الخارجية عند العاشرة و النصف ...

كنت أشاهد الفيلم الذي أحضره والدي مؤخرا ، و حين دخلت غرفة المعيشة رمت بحقيبة يدها على المقعد و تهالكت عليه بتنهد ...

" لم لم تنامي بعد رغد ! عادة ما تنامين باكرا جدا ! "

لم ألتفت إليها ، و أجبت :

" سأتابع الفيلم حتى النهاية "

صمت لحظة ، ثم قالت :

" سأريك شيئا "

و سحبت حقيبتها ، و منها أخرجت علبة مجوهرات صغيرة ، و فتحتها لتريني الخاتم الذهبي الرائع الذي بداخلها ...

" رائع ! كم ثمنه ؟؟ "

رفعت رأسها و نظرت إلي من طرف عينيها و قالت :

" كم ثمنه ؟؟ لا أعرف طبعا ، و لكن بالتأكيد باهظ ... أهداني إياه خطيبي الليلة ! كم هو رائع ! "

قلت و أنا أتأمل هذه التحفة المبهرة :

" نعم ! رائع هنيئا لك ! "

قالت دانة :

" حقا ! هل غيرت رأيك فيه أخيرا ! "

قلت :

" الخاتم ؟؟ "

" بل خطيبي يا نبيهة ! "

حدقت بها قليلا ثم قلت :

" بغيض و مغرور ... "

ثم أشحت برأسي عنها ...

و إن كان بغيضا في عيني ، فهو في عينيها شيء رائع ... و مميز !

لم تكترث دانة لقولي ، و أخذت تنقل الخاتم من إصبع لإصبع بسرور و دلال !

" دانه ... "

" نعم ؟ "

كنت أريد أن أسألها ... و شعرت بالخجل ... و لزمت الصمت !

دانة نظرت إلي باستغراب :

" نعم رغد ؟؟ ماذا أردت القول ؟؟ "

ترددت قليلا ثم قلت بحياء و بصوت منخفض و نبرة متوترة :

" هل ... تحبين نوّار ؟ "

دهشت دانة من سؤالي ، لذا حملقت بي وهلة ، ثم قالت :

" ما هذا السؤال !؟ "

ندمت لأني طرحته ! إنه موضوع حساس لم أجرؤ من قبل على التحدث فيه مع أي كان ...
و لما لحظت دانة تراجعي الخجل ، قالت :

" نعم أحبه ! إنه شريك حياتي ... ! نصفي الآخر ! "

صمت قليلا ثم سألت :

" إذن ... كيف تشعرين حين يكون معك ؟؟ "

أنا بنفسي لاحظت ذلك ... رغم المساحيق التي تغطي وجهها إلا أن اللون الأحمر المتوهج طلى وجهها و هي تجيب على سؤالي :

" أشعر ... ؟؟ ... بالحرارة ! "

و أشارت إلى قلبها بيديها كلتيهما ...

الحرارة ... في صدري و جسمي كله ، هي شعور لم أحس به في حياتي ... إلا عندما اقتربت من شخص واحد فقط ...
هو وليد ... !





~ ~ ~ ~ ~ ~ ~




" وليد ! هل فقدت صوابك !!؟؟

قال سيف و هو فاغر فاه لأقصى حد من هول المفاجأة ...
لقد أخبرته بخبر فعلتي الجنونية الأخيرة ...

" نعم يا سيف ! استقلت و انتهى الأمر "

أخذ يهز رأسه و يضرب يدا بالأخرى من الغيظ و الأسف ...

" أرجوك يا سيف ... قضي الأمر ... لم أكن لأستطيع الاستمرار و الجميع ينظر إلي و يعاملني بهذا الشكل ... يحتقروني و يتحاشون الاقتراب مني و كأني وباء خطير "

" و ما لك و لهم ؟ وليد ! لم يكن الحصول على هذه الوظيفة بالأمر السهل ... لقد تسرعت "

استدرت بغضب ، و قلا بانفعال :

" فليذهبوا بوظيفتهم للجحيم "

أعرف أن العثور على عمل هو من أكثر الأمور صعوبة في الوقت الحالي ، لكني ضقت ذرعا بالهمزات و اللمزات التي يرمي بها الآخرون علي بقسوة ، لكوني قاتل و خريج سجون ...

كما و أني سمعت بعضهم يذكر صديقي سيف بالسوء بسبب علاقته الوطيدة معي ...
بقائي في العمل بشركته صار يهدد سمعته هو ... و أنا لم أكن لأرضى عليه بأي أذية ...
أليس هو الباقي لي من الدنيا ؟؟

تلا هذا صمت مغدق ...
سيف استاء كثيرا جدا من إقدامي على هذه الخطوة التي وصفها بالتهور ... ألا أني كنت أراها حلا لابد منه

قال :

" ما أنت فاعل الآن ؟؟ "

ابتسمت ابتسامة سخرية ...

" أفتش من جديد "

نعم ... عدنا للصفر !

لو أني أتممت دراستي ، مثلك يا سيف ، لكنت الآن ... رجلا محترما مهابا ... أتولى إدارة إحدى الشركات كما كنت أحلم منذ الصغر ...

و فشلي في تحقيق أي من أحلامي ، هو أمر لا يجب أن تتحمل أنت مسؤولياته ، أو ينالك سوء بسبب علاقتك بي

سيف كان قلق ... أردت أن أغير الموضوع ، فقلت :

" اخبرني ... ما النبأ الجميل الذي تحمله ؟؟ "

و كان سيف قد أبلغني بأن لديه خبر جميل ، عندما وصل إلى بيتي قبل دقائق !

سيف قال :

" لقد ... عزمت على إتمام نصف الدين ! "

فاجأني الخبر ، و أسرني كثيرا ، فأمطرت صديقي بالتهاني القلبية ! إنه أول خبر سعيد أسمعه منذ شهور ...

" أخيرا يا رجل ! فليبارك الله لك ! "

" شكرا أيها العزيز ... العقبة لك ! متى يحين دورك ؟؟ "

دوري أنا !
إن مثل هذا الموضوع لم يكن ليخطر على بالي !
و هل يفكر في الزواج رجل خرج من السجن قبل شهور ، و بالكاد بدأ يتنفس الهواء ... و كان و عاد عاطلا عن العمل ! ...
و فوق كل هذا ... ذو جرح لم يبرأ بعد ...

قلت :

" قد تمضي سنوات و سنوات قبل أن تعبر الفكرة على رأسي مجرد العبور ! "

" لم يا رجل !؟ إننا في السابعة و العشرين ! وقت مناسب جدا ! "

قلت :

" لأجد ما يعيلني أولا ! كيف لي أن أتحمل مسؤولية زوجة و أطفال ! "

قال سيف :

" إنك تحب الأطفال يا وليد ! ألست كذلك ؟ "

" بلى ! ... "

" ستكون أبا عطوفا جدا ! "

و ضحكنا !

يمكني أن أضحك بين حلقات سلسة همومي التي مذ بدأت لم تنته ...


قضيت أسابيع أفتش عن عمل ... و فشلت
حتى أقاربي الذين لجأت إليهم طالبا الدعم ، خذلوني
لو كان سبب دخولي السجن شيء آخر ، لربما عاملني الناس بطريقة أفضل ...
كرهت الدنيا و كرهت نفسي و كرهت كل شيء من حولي ...
و بدأت نقودي التي جمعتها خلال الأشهر الماضية تنفذ ... و أعود للفقر من جديد ...
كنت جالسا في حديقة المنزل الميتة ... أدخن السيجارة تلو الأخرى ... غارقا في التفكير و الهموم ...

كانت الأرض أمامي قاحلة ... لا زرع فيها و لا حياة ...
تماما مثل حياتي ...

تزوج صديقي سيف بعد بضعة أشهر خطوبة ... و ينعم الآن بحياة جديدة ، و يتولى مسؤوليات أكبر ... و لم يعد متفرغا لي ...

حصلت على عمل بسيط جدا في أحد المحلات التجارية ... إلا أني لم استمر فيه بسبب المشاكل التي واجهتني ، لكوني موصوم بالإجرام و القتل ...

أصبحت بإحباط شديد ... و أنا افقد القليل الذي كنت قد حصلت عليه ... و ضاقت بي الدنيا ... كما و داهمني الإعياء و المرض ... فقررت الهروب من مدينتي إلى مكان ألقى فيه شيء من الاحترام و المودة
بعيدا عن السمعة المجروحة ... إلى حيث يوجد من يحبني و يرغب بوجودي و يتقبلني على ما أنا عليه من عيوب و وصم عار ...
إلى أهلي ....


كانت شهور عشرة قد انقضت منذ رحلت عنهم ...
كلما اتصلوا بي أو اتصلت بهم ، أخبرتهم بأني في أحسن حال ، بينما أنا في أسوئه

انفث الدخان السام من صدري ... و أفكر ... أ أعود إليهم ؟؟ أم لمن ألجأ ؟؟
أتخيل نفسي بينهم من جديد ... فتظهر صورة رغد لتحتل منطقة الخيال من رأسي ... فأبعدها و أبعد الفكرة ...

" لا ... لن أعود "

و أرمي بالسيجارة على الأرض ، و أدوسها بحذائي فتندفن تحت الرمال ... إلى جانب شقيقاتها ... في قبور متجاورة و مزدحمة ...

لماذا لا أموت أنا مثلها ؟؟

إلى متى أستمر في تدخين هذه الأشياء القذرة ؟؟

ألا يكفي السجن أن لوث سمعتي و ضيع مستقبلي ؟

أ أترك دروسه و مخلفاته تلوث صدري و تفسد صحتي ؟؟

أتذكر قول نديم لي ... لا تدع السجن يفسدك يا وليد ...

هل أنا شخص فاسد الآن ؟؟

نديم ...

ليتك معي الآن ... ...





فجأة ... تذكرت شيئا غاب عن مذكرتي تماما !

يوم وفاته ، نديم أوصاني بشيء ...

طلب مني أن أزور عائلته و أطمئن عليهم !

وقفت منفعلا ... يا للأيام ! لم يخطر هذا الأمر بالي من ذي قبل ...

و كيف له أن يجد فرصة للظهور فيما يحتل تفكيري أمور أخرى ...


ربما وفاء ً لذكرى صديق عزيز لطالما كان يدعمني في أسوأ أيام حياتي ...

أو ربما كان فراغا طويلا لم أجد معه ما أفعله

أو حتى هروبا من هذه المدينة و سمعتي المنحطة فيها

أيا كان الدافع ، فقد قررت يومها زيارة عائلة نديم !


نديم أخبرني بأنه يملك مزرعة في المدينة الشمالية ، و هذه المدينة بعيدة عن مدينتي و هي أقرب إلى المدينة الصناعية حيث يعيش أهلي ...


جمعت كل ما أحتاجه و ما قد أحتاجه ، و عزمت الرحيل ...


الهدف لم يكن زيارة عائلة نديم تنفيذا لوصيته التي مات يوم وفاته ، بقدر ما كان الفرار من الفشل الذريع الذي أعيشه في هذه المدينة

الآن أدرك لم قر والدي الرحيل ، و لم لا يفكر في العودة
لا بد أنه تعرض لمثل ما تعرضت له ... بسبب جريمتي النكراء ...

ذهبت لزيارة سيف في مسكنه الجديد ، و أبلغته أني راحل ...
كان وداعنا مؤلما إلا أنه قال :

" في أي وقت ... و كل وقت ... تشعر بأي حاجة لأي شيء ، تذكر أني موجود "

و دفع إلي مبلغا من المال قبلته على شرط أن أرده له في أقرب فرصة ... و لا أعلم كم تبلغ المسافة بيني و بين هذه الفرصة !

أقفلت أبواب المنزل الكئيب ... و تركت الذكريات القديمة سجينة ... تغط في سبات أبدي ...
بما فيها صندوق الأماني المخنوق ، و الملقى بلا اهتمام عند إحدى زوايا الغرفة
إن كتب لي أن أعود يوما ... فسأفكر في فتحه !

انطلقت مستعينا بالله و متوكلا عليه ... متجها إلى المدينة الشمالية ... لم أكن قد زرتها في حياتي من قبل ، إلا أني أعرف أن الطريق إلى المدينة الصناعية يؤدي إليها ، و أنها لا تبعد عن الأخيرة إلا قليلا

وصلت إلى المدينة الصناعية ... و شوقي سحبني نحو بيت عائلتي سحبا ...
كيف لي أن أعبر من هنا ... ثم لا أمر لألقي و لو نظرة عابرة على أهلي ..؟؟

كان الوقت عصرا ... أوقفت سيارتي إلى جانب سيارة أبي ، و السيارة الأخرى التي تبدو جديدة و آخر طراز !







مؤخرا صار سامر يأتي إلينا مرة واحدة في الشهر ... أصبح يعمل عملا مضاعفا و قلت حتى اتصالاته !

و حين جاء البارحة ، طلبت منه أن يصطحبني إلى الشاطئ هذا اليوم !

طبعا سامر فرح كثيرا بهذا الطلب ... و أنا كنت أريد أن أرفه عن نفسي و أقلد دانة !
إنها دائما تشعرني بأني لا أصلح امرأة !
الجميع من حولي يعاملوني على أني لا أزال طفلة !
إني الآن في الثامنة عشر من العمر ... و أحس بأني خلال الأشهر الماضية كبرت كثيرا !

لقد بدأت استخدم المساحيق بكثرة مثلها ، و أشتري الكثير من الحلي و الملابس... بالرغم من أني لا أجهز للزفا مثلها !

فكرة الزواج الآن لم أقتنع بها ... و لسوف أنتظر حتى أنهي دراستي و أكتسب صفات المرأة التي تعرف كيف تحب و تدل شريك حياتها !

أليس هذا هو المطلوب ؟؟

" هيا رغد ! الوقت يمضي ! "

سامر يناديني ، و هو يقف خلف الباب ، ينتظر خروجي ...
أجبت و أنا ارتدي شرابي ثم حذائي الجديد ذا الكعب العالي ، على عجل :

" قادمة ... لحظة "

و في ثوان كنت أفتح الباب ...
حين صرت أمامه راح يحدق بي باستغراب ، ثم قاد بصره إلى حذائي !

" رغد ! لقد طلت بسرعة ! لم تكوني هكذا البارحة ! "

ابتسمت و قلت و أنا أظهر حذائي الطويل من خلف عباءتي :

" إنها الموضة ! "

سامر ضحك و قال :

" و لكن يا عزيزتي هل ستسيرين بحذاء هكذا على الشاطئ ؟؟ "

" لا يهم ! أنا أريد أن أظهر أطول قليلا حتى لا يظني الناس طفلة ! "

" كما تشائين ! هيا بنا "

و خرجنا ، و مررنا بالمطبخ حيث وضعت سلة صغيرة تحتوي بعض الحاجيات فحملها سامر و هممنا بالانصراف ....

و إذا بدانة تقول :

" هل آتي معكما ؟؟ "

أنا و سامر تبادلنا النظرات ...

طماعة ! ألا يكفيها أنها تخرج مع خطيبها كل يوم فيما أنا جالسة وحيدة في المنزل ؟؟

قلت :

" لا ! إنها رحلة خاصة ! "

سامر ابتسم بخجل ، و دانه نظرت إلي من طرف عينها مع ابتسامة خبيثة أعرفها جيدا ... و أعرف ما تعنيه منها !

تجاهلتها و سرت مبتعدة ...

" انتبهي لئلا تنزلقي زرافتي ! "

و أخذت ْ تضحك !

قلت بحنق :

" ليس من شأنك "

و خرجت مسرعة ....
دانه تتعمد التعليق على أي شيء يخصني ... و دائما تعليقها عنه يوحي بعدم رضاها أو سخريتها منه !

إلا أنها تشعر بالغيرة من طولي الذي يسمح لي بارتداء أحذية كهذه ، و هي محرومة منها !

خرجنا على الفناء الخارجي و سامر يبتسم بسرور !

حتى و إن كانت نظارته السوداء الكبيرة تخفي عينيه ... كنت أعرف أنه يحدق بي !

اعتقد أنه سعيد جدا ... السعادة المميزة ... التي لم أذق لها أنا طعما حتى الآن ...

فيما نحن نقترب من الباب ، قرع الجرس !

تقدم سامر و فتحه ...

و توقفت الكرة الأرضية عن الدوران !

اعتقد أن شهابا قد ارتطم بها ... هنا خلف هذا الباب !

شعور مفاجئ ... و اصطدام مجلجل ... و حرارة محرقة شاوية ... و حمم ... و ضباب ... و اختناق ... و ارتجاف ... و عرق ... و ذهول ... كلها مجتمعه انبثقت فجأة من عند الباب و اجتاحتني ...

هل أصدق عيني ! ؟

هل يقف أمامي المارد الناري الضخم المرعب ... متمثلا في صورة ... وليد ؟؟؟

هتف سامر بذهول و بهجة عارمة :

" أخي وليد !! "

و تعانقا عناقا طويلا ...

يا لها من مفاجأة مذهلة !

اعتقد أنه كان علي الأخذ بنصيحة سامر و تغيير حذائي ... إني أوشك على الانزلاق ! لماذا فقدت توازني بهذا الشكل ؟؟

بعد لقائهما الحميم ... استدارا نحوي ...

حينما وقت عيناه على عيني ، طردهما بسرعة و غض بصره ... و قال بهدوء لا يتناسب و الحمم و البركاين و الانفجار و النيران الذي تولدت لحظه ظهوره من فتحة الباب :

" كيف حالك صغيرتي ؟ "

لقد حاولت أن أحرك لساني لقول أي شيء ... لكن بعد احتراقها ، فإن كلماتي قد تبخرت و صعدت للسماء !

طأطأت رأسي للأرض خجلا ... حين عبرت ذكرى لقائنا الأخير سريعة أمام عيني ! ...

الرجلان يقتربان ...

رفعت رأسي فإذا بعينيه تطيران من عيني إلى الشجرة المزروعة قرب الباب الداخلي ...

سمعته يقول :

" ألا يبدو أنها كبرت !؟ "

التفت إلى الشجرة ... صحيح ... لقد كبرت خلال الشهور الطويلة التي غاب فيها وليد عنا !

لكني سمعت سامر يضحك و يقول :

" إنه الكعب ! "

أدركت أنه كان يقصدني أنا ! كم أنا غبية !

قال وليد :

" أ كنتما ... خارجين ؟؟ "

قال سامر :

" أوه نعم ... لكن يمكننا تأجيل ذلك لما بعد ... تعال للداخل ستطير أمي فرحا ! "

قال وليد :

" أرجوكما امضيا إلى حيث كنتما ذاهبين ! إني سأبقى في ضيافتكم فترة من الزمن ! "

مدهش !

عظيم !

ممتاز !

و أقبلا نحو الباب الداخلي ، و دخلنا نحن الثلاثة ...

كانت مفاجأة مذهلة أحدثت في بيتنا بهجة لا توصف ...

عشر شهور مضت ... و هو بعيد ... لا يتصل إلا قليلا ... و حين يتصل يتحدث مع الجميع سواي ... و إن تحدث معي صدفة ، ختم جمله المعدودة بسرعة ...

لكنه الآن موجود هنا !

أنا فرحة جدا !

علمنا في وقت لاحق أنه مر منا قبل ذهابه إلى المدينة الشمالية لأمر خاص ...

" كم ستظل هناك ؟؟ "

سألته أمي ، فأجاب :

" لا أعرف بالضبط ، ربما لبعض الوقت ... سأفتش عن عمل هناك فقد أجد فرصة أفضل ! "

دانة قالت :

" و ماذا عن عملك في المدينة ؟؟ "

وليد اضطربت تعبيرات وجهه ، و قال :

" تركته "

ثم غير الموضوع لناحية أخرى ...

فجأة سألني :

" كيف هي الكلية ؟؟ "

أنا تلفت من حولي بادئ الأمر ... كأني أود التأكد من أن وليد يتحدث إلي أنا !

بالطبع أنا !

لا يوجد من يدرس بالكلية غيري الآن !

قلت بصوت خفيف خجل :

" الحمد لله ... تسير الأمور على ما يرام "

قال سامر :

" أنها مجتهدة و نشيطة ! و مغرمة بالفن أكثر من أي شيء آخر ! حتى مني ! "

الجميع أخذوا يضحكون ...

سواي أنا و وليد ...

أنا لم تعجبني هذه الجملة ... أما وليد ... فلا أعرف لم اكفهر وجهه هكذا ... ؟؟

قالت دانة :

" إذن فقد أفسدت رحلتك الخاصة أيتها البغاء الصغيرة ! "

و استمرت في الضحك ...

أنا استأت أكثر ...

وليد سأل دانة :

" أية رحلة ؟ "

أجابت :

" كانا يودان الذهاب للشاطئ ! سامر لا يأتي غير مرة في الشهر و خطيبته متلهفة لقضاء وقت ممتع و متميز معه ! إنها تغار مني ! "

و رفعت رأسها بتباهي ...

ربما كانت تقصد مداعبتي ، لكني حملتها محمل الجد ... و وقفت فجأة ، و استأذنت للانصراف ...

ذهبت إلى غرفتي مستاءة ... و غاضبة ...





~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





قلت :

" يبدو أنها تضايقت ... "

فجميعنا لاحظ ذلك ... أما زالت دانه على ما كانت عليه منذ الطفولة ؟؟

نظرت إلى شقيقتي باستياء ... و كذلك كان سامر ينظر إليها ...

قالت :

" كنت أداعبها فقط ! "

سامر قال :

" لكنها انزعجت منك ! سأذهب إليها "

و غادر من فوره ...

أنا طبعا لم أملك من الأمر من شيء ...

قلت لدانة :

" أحقا كانا يودان الذهاب للشاطئ ؟ أنا آسف أن حضرت و أفسدت مشروع نزهتهما ! "

" لا تكترث وليد ! فهي فكرت في الذهاب فقط لأني أوحيت لها بأن تذهب ! إنها لا تحب الخروج من المنزل خصوصا للأماكن العامة "

التزمت الصمت و لم أعلق على جملتها الأخيرة ...

قالت :

" ما رأيكم أن نذهب جميعا غدا لنزهة عند الشاطئ ! كم سيكون ذلك رائعا ! "

نزهة عند الشاطئ ؟ يبدو حلما ! إني لم أقم بكهذا نزهة منذ سنين !

و يبدو أن الفكرة قد راقت للجميع ...

سألت :

" و ماذا عن نوّار ؟؟ "

قالت :

" في البلدة المجاورة ! إنها مباريات حاسمة ! ألا تتابع الأخبار ؟؟ "

في الواقع ، أخبار كرة القدم ليست من أولويات اهتماماتي !

تحدثنا عن أمور عدة ... و شعرت براحة كبيرة ... هنا حيث أحظى باهتمام أناس يحبوني و يعزوني ...

أنا أرغب في العيش مع أهلي فقد سئمت الوحدة ... ألا يكفي أني حرمت منهم كل هذه السنين ؟؟

خرجت من كنفهم و أنا فتى مراهق ... مليء بالحماس و الحيوية و مقبل على الحياة ... طموح و ماض في طريق تحقيق أحلامه ...

و عدت إليهم ... و أنا رجل كئيب محبط مثقل بالهموم ... فاقد الاهتمام بأي شيء ... صقلني الزمن و شكلتني الأقدار ...

لكنهم لا زالوا يحترموني ...

بعد مدة ، عاد سامر لينضم إلينا ... لم تكن رغد معه

كنت أريد أن أسأله عنها ، و لم أجرؤ !

إنها لم تعد طفلتي ... لم يعد لي الحق في الإهتمام بها ...

" إذن فتلك السيارة الرائعة في الخارج هي لك يا سامر ! "

سألته ، فأجاب :

" نعم ! اشتريتها مؤخرا ... ما رأيك بها ؟؟ "

" مظهرها رائع ! "

" و مزاياها كذلك ! كلفتني الكثير ! "


مقارنة بسيارتي القديمة فإن أي شيء في سيارة سامر سيبدو مدهشا !
إذن ... فأحوال أخي المادية جيدة ...
كم أبدو شيئا صغيرا أمامه ... كم خذلت والدي ّ الذين كانا في الماضي ... يعظمان من شأني و يتوقعان لي مستقبلا مشرفا ...

شعور جديد تولد هذا اليوم ، يزيدني رغبة فوق رغبة في الرحيل العاجل ...

في الوقت الذي يتمتع فيه سامر بعمل جيد و دخل وفير و مستقبل مضمون ... افتقر أنا لكل شيء ...

حتى رغد ...

أصبحت له ...

 

أدوات الموضوع



الساعة الآن توقيت السعودية الرياض و الدمام و القصيم و جدة 01:58 AM.


 
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024,
vBulletin Optimisation provided by vB Optimise (Pro) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.

Search Engine Optimization by vBSEO 3.6.0