رد: أمهات المؤمنين رضي الله عنهم ..
أمهات المؤمنين رضي الله عنهم ..
لموقف الثالث: قبول الإسترضاء ومن ذلك أيضاً ما ورد في حديث النعمان بن بشير قال:
" استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا عائشة ترفع صوتها عليه، فقال: يا ابنة فلانة - وهذه أساليب للعرف عجيبة في تعاملهم هي ابنته لكن في هذا الفعل لم يكن راضياً عنها فلم يرد أن ينسبها إليه وهي تفعل فعلاً لا يحبه، فقال: يا ابنة فلانه نسبها الى أمها - ثم قال: ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها، فقد أراد أبو بكر أن يتوجه لعائشة ليضربها ويعنفها ".
وقد استنبط بعض أهل العلم أنه يجوز لأبي البنت أن يربيها وأن يزجرها بحضرة زوجها، لكن انظر " فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها "، مع إن النبي صلى الله عليه وسلم، هو - إذا صح التعبير - المعتدى عليه، وهي التي رفعت عليه صوتها، ومع ذلك حال بينها وبينه.
" ثم خرج أبو بكر رضي الله عنه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يترضاها – أي يترضى عائشة ويتلطف معها - ويقول: ألم تريني حلت بين الرجل وبينك - يستشفع بالموقف الدفاعي الذي وقفه صلى الله عليه وسلم - ثم إستأذن أبوبكر مرة أخرى فسمع تضاحكهما - النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها قد أزال النبي صلى الله عليه وسلم بحسن معاملته هذا الأمر الذي كان سبب هذا الغضب فقال أبو بكر: أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما.
ما أجمل هذا الموقف! وما أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وما أحسن تأتي عائشة صلى الله عليه وسلم ولينها وانكسارها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ! ومعلوم أن الحياة الزوجية لا تخلو من المكدرات، ولكن هذه المعاملة هي التي تزيل أسباب الكدر، وإذا كانت هناك مكدرات ؛ فإن هناك مهدئات ومسكنات من هذه المعاملة الطيفه، فقد رفعت صوتها على زوجها - ولم يكن زوجها أي أحد بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقبل منها مراعاة لطبيعتها وغضاًَ للطرف عما سبب لها ذلك الغضب، ثم بعد ذلك حال بينها وبين أبيها، ثم جعل يترضّاها ويستشفع لها بما كان منه من موقف تجاهها ثم تضاحك الزوجان مرة أخرى وعاد الوئام في لحظات.
وإلا فإنه من الممكن أن يطول الأمر والخلاف ؛ فإن الكلمة تجر أختها وأحيانا الحركة تجد غيرها وتزداد الشقة والخلاف والنزاع .
الموقف الرابع: سابقني فسابقته
ومن لطيف أيضاً حسن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث هنا لعله يكون أكثر توجيهاً للأزواج والرجال أكثر منه للنساء كل هذه المواقف تربيه في سيرة عائشة والنبي صلى الله عليه وسلم لكل الجنسين، في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته ما شاء - يعني أكثر من مرة - حتى إذا أرهقني الحم سابقني فسبقني، فقال: ( يا عائشة هذه بتلك ).
موقف جميل جداً لعل الواحد منا يستكثر ما هو أقل منه ! ويرى أن ذلك خرماً لمرؤته، وجرحاً في عدالته، وإنزالاً من منزلته، فإذا ظن ذلك فليستغفر ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، ولنا فيه قدوة وأسوة حسنة ؛ فإنه كان يتطلف بهذا.
وهذا يدلنا أيضاً على عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه آخر ؛ فإنه كان يجيّش الجيوش، ويدرّس الدروس، ويربي الأجيال، ولم يشغله كل ذلك وغيره عن أن يكون مؤدياً الحق لأهله، ومراعياً لزوجته حتى في تفرقه لمسابقتها ومداعبتها وملاعبتها وغير ذلك من الأمور التي ينشغل عنها الناس اليوم، ولا يفطنون لها، ولا يتودن بها إلى أزواجهم، فتبقى الحياة كاحتكاك الحديد بالحديد ليس هناك بينهم التآلف الذي هو من حسن التود والتلطف، والذي يزيل هذا الإحتكاك، ويجعل المسائل على أحسن وجه ؛ مما يجعل الحياة الزوجية هانئة سعيدة.
الموقف الخامس: يضع فاه على موضع فمها
ومن لطفه صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته لعائشة رضي الله عنها، وهذا حبٌّ فريد منه فهنا يعلمنا ان الحب في ظل الشرع أمر لا حرج فيه ؛ فإنه قد قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العظم فأتعرقه - أي تأكل عروق العظم ما بقي من الحم - ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي ).
تحباً وتلطفاً معها وإشعاراً لمنزلتها عنه.
الموقف السادس: يا رب سلط عليّ حية
هنا أيضاً حادثة لطيفة فيما يتعلق فيما بين الزوجات مع أزواجهن.. الرواية عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه فطارت القرعة لعائشة وحفصة معاً وكان إذا كان باليل سار مع عائشة يتحدث، فقالت حفصة: ألا تركبين اليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر – أي نتبادل تجربين هذا البعير وأنا أجرب – فقالت: بلى فركبت، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة و عليه حفصة فسلم عليها ثم سار حتى نزلوا وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وتقول: يا رب، سلّط عليّ عقرباً أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً ! ".
يعني تبدي ما كان من ندمها في هذا الشأن، فهذه مواقف يسيرة من معامله الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، وحسن أدب عائشة مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا كله يدلنا على ما ينبغي أن يكون بين الرجل وزوجته، ومن ما يتعلق بعض الإستنباطات الفقهية من عائشة رضي الله عنها ودقة علمها وهذا نوع من المواجه ؛ حتى نتقل من مرحله الى أخرى لأن هناك مواقف أخرى سيأتي ذكرها لاحقا.
الموقف السابع: يا بنية إنك لمباركة
في مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بتربان بلد بينها وبين المدينة بريد وأميال وهو بلد لا ماء به، وذلك من السحر انسلت قلادة من عنقي فوقعت، فحبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسها حتى طلع الفجر، وليس مع القوم ماء فلقيت من أبي مالله به عليم من التعنيف والتأفيف - سقط عقدها فانتظر الرسول يبحث عنه حتى طلع الفجر ولم يتحرك القوم وليس عندهم ماء - ، فأنزل الله الرخصة في التيمم، فتيمم القوم وصلّوا، قالت: يقول أبي حين جاء من الله الرخصه للمسين: والله ما علمت يا بنيه إنك المباركة ! لما جعل الله للمسلين في حبسك إياهم من البركة واليسر.
فهذا مما كان في نزول حكم التيمم ولم يكن فرض قبل ذلك، وهذا كان بركة وبسبب ما حدث لعائشة رضي الله عنها.
الموقف الثامن: يُقبّل وهو صائم
ومن ذلك أيضاً فيما يتعلق بالأحكام الفقهية المنقوله والملتصقه بسيرة عائشة، عن أبي قيس مولى عمر قال: بعثني عبد الله بن عمر إلى أم سلمة وقال: سلها أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل وهو صائم؟ فإن قالت لا ! فقل: إن عائشة تخبر الناس أنه كان يُقبّل وهو صائم ! فقالت له أم سلمة لا ! فقال لها ذلك، فقالت له: لعله أنه لم يكن يتمالك عنها حباً أما إياي فلا !
لأنها كانت رضي الله عنها كبيرة في السن، وهذا حكم أيضاً فقهي فيما يتعلق بهذا.
الموقف التاسع: تنزعي مقلتيك
ومن ذلك أيضاً ما روته بكرة بنت عقبة: أنها دخلت على عائشة وهي جالسة في معصفرة - أي لباس مزين أو فيه صفرة - فسألتها عن الحناء ؟ فقالت: شجرة طيبة وماء طهور، وسألتها عن الحفاء فقالت لها: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتضعيها له أحسن مما هما فافعلي.
وهذا من أعظم فقه عائشة بالنسبة للنساء تقول إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك أي عينيك فتصنعينها أحسن مما هما عليه فافعلي، وذلك لكي تكون أقرب وأحب الى زوجها.
حادثة الإفك
هذا موقف في الحقيقة جديرٌ بأن يكون درساً مستقلاً، ولكني أدرجه في هذا الدرس ؛ لأن الحديث عن عائشة يستلزم ذكره وهو ما يتعلق بحادثة الإفك وهي حادثه طويلة، ذكرها الله تعالى في كتابه وبرأ فيها عائشة هذه الحادثة نوجزها:
أن عائشة كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بعض غزواته فلما أرادوا أن ينصرفوا كانت ذهبت لقضاء حاجتها، فجاء القوم ليحملوا هودجها على البعير، وحملوه ولم يشعروا بأنها ليست فيها ؛ لأنها كانت خفيفة الوزن في ذلك الوقت، ومضوا فلما رجعت إلى مكانها وإذا القوم قد غادروا فظلت في مكانها لم تتحرك ؛ لأنهم سيشعرون بها ويرجعون ليأخذوها، وإذا بصفوان بن معطل كان في آخر الجيش، وبعد مضي الجيش بقليل مرّ، فإذا به يرى سواداً فاقترب فإذا هو يرى عائشة رضي الله عنها، قالت: وكان قد رآني قبل أن ينزل الحجاب فاسترجع - أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون - قالت فاستيقظت على إسترجاعه فأناخ جمله،قالت: والله ما كلمني حتى بلغنا القوم، فلما بلغت عائشة رضي الله عنها القوم تكلم المنافقون ورأسهم عبد الله بن أبي بن سلول.
وخاضوا في وصم عائشة رضي الله عنها بالفاحشة مع صفوان بن معطل وكانت عائشة رضي الله عنها سليمة القلب سليمة النية، لم تسمع بذلك ولم تشعر به، ثم لما قدمت المدينة وقدم القوم المدينة خاض الناس في ذلك وأشاعوا الكلام، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أثر فيه هذا القول وقال: من يعذرني في رجل يتكلم في أهلي ؟!
وكان هناك خلاف بين الأوس والخزرج في هذا الشأن ؛ لأن عبد الله بن أُبي كان من أحد الفريقين، وكانت مسألة ومحنة عظيمة، ثم إن عائشة رضي الله عنها لم تكن قد شعرت بشيء حتى كانت في يوم من الأيام خرجت لتقضي حاجتها مع أم مسطح بن أثاثه - وكان أحد المهاجرين الذين خاضوا في هذا القول وقالوا بهذه الفرية - فلما رجعت عائشة رضي الله عنها وأم مسطح عثرت أم مسطح في حجرة، فلما عثرت قالت: تعس مسطح، فقالت عائشة رضي الله عنها - بسلامة فطرتها وحسن إسلامها -: بئس ما قلت في رجل من المهاجرين ممن شهد بدراً، تدافع عن مسطح، فقالت لها: إنك لا تعلمين ما قال فيك وعلمت بالخبر بعد ذلك.
ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: إن كنت ألممت بشيء فاستغفري الله وتوبي فسكت عائشة رضي الله عنها ولم ترد على رسول الله استعظاما لما قال لها، وظلت - كما تقول عائشة رضي الله عنها في وصف هذا - شهراً كاملا لا يرقأ لها دمع، تبكي وهي حزينة على هذا الأمر حتى أنزل الله سبحانه وتعالى براءتها من فوق سبع سموات، واستأمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك واستشار بعض أصحابه فأما بريرة فاثنت وقالت خيراً، وأما أسامه فقال كذلك، وأما علي رضي الله عنه فقال: سل الجارية فإن تسألها تصدقك الخبر، وكانت أزمة شديدة تتعلق بعرض رسول الله، ومن حكمة الله عز وجل أنه لم ينزل الوحي في ذلك سريعاً بل أبطأ شهراً كاملاً حتى أظهر الله المنافقين وبين مواقف المؤمنين.
وكان درساً عظيماً ذكره الله في سورة النور فيما يتعلق بوجوب التثبت في الأخبار، وفي حسن الظن بالمسلمين، وفي مقارنة المسلم نفسه بأخيه هل يتوقع ذلك من نفسه ؟ هل يرضى ذلك لنفسه ؟ فإن كان الجواب بالنفي ؛ فإنه ينفي ذلك عن أخيه المسلم أيضاً.
وفي ذلك أيضاً تعظيم لحرمة المسلم وعدم الإجراء عليه في عرضه أو في ماله أو في نفسه، وكان هذا الدرس العظيم مدرسة كاملة متعددة الجوانب، حتى الإمام ابن حجر رحمة الله عليه لما ذكر هذا الحديث ذكر فيه من الفوائد أكثر من ثلاثين فائدة كل فائدة من هذه الفوائد تحتاج إلى درس طويل.
|