لاتهجروه...ربيع قلبي
الأيات من 9 الى 26
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا
هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا
إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا
إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا
تفسير القرطبي والجلالين : وماكان فيه من توضيح للمعاني(قبل الدخول في القصة )
القرطبي:
بعد ماتقدم اِسْتَقْبَلَ قِصَّة الْخَبَر فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ شَأْن الْفِتْيَة فَقَالَ : " أَمْ حَسِبْت أَنَّ أَصْحَاب الْكَهْف وَالرَّقِيم كَانُوا مِنْ آيَاتنَا عَجَبًا " [ الْكَهْف : 9 ] أَيْ قَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِي فِيمَا وَضَعْت عَلَى الْعِبَاد مِنْ حُجَّتِي مَا هُوَ أَعْجَب مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ اِبْن هِشَام : وَالرَّقِيم الْكِتَاب الَّذِي رُقِمَ بِخَبَرِهِمْ , وَجَمْعه رُقُم . قَالَ الْعَجَّاج : وَمُسْتَقَرّ الْمُصْحَف الْمُرَقَّم وَهَذَا الْبَيْت فِي أُرْجُوزَة لَهُ .
قال الجيلالين في تفسيره: وَالرَّقِيم" اللَّوْح الْمَكْتُوب فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَنْسَابهمْ
إذْ أَوَى الْفِتْيَة إلَى الْكَهْف" جَمْع فَتًى وَهُوَ الشَّابّ الْكَامِل خَائِفِينَ عَلَى إيمَانهمْ مِنْ قَوْمهمْ الْكُفَّار "فَقَالُوا رَبّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْك" مِنْ قِبَلك "رَحْمَة وَهَيِّئْ" أَصْلِحْ "لَنَا مِنْ أَمْرنَا رَشَدًا" هِدَايَة
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانهمْ" أَيْ أَنَمْنَاهُمْ "فِي الْكَهْف سِنِينَ عَدَدًا" مَعْدُودَة
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ" أَيْقَظْنَاهُمْ "لِنَعْلَم" عِلْم مُشَاهَدَة "أَيّ الْحِزْبَيْنِ" الْفَرِيقَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي مُدَّة لُبْثهمْ "أَحْصَى" أَفْعَل بِمَعْنَى أَضْبَط "لِمَا لَبِثُوا" لِلُبْثِهِمْ مُتَعَلِّق بِمَا بَعْده "أَمَدًا" غَايَة
"نَحْنُ نَقُصّ" نَقْرَأ "عَلَيْك نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ" بِالصِّدْقِ
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبهمْ" قَوَّيْنَاهَا عَلَى قَوْل الْحَقّ "إذْ قَامُوا" بَيْن يَدَيْ مَلِكهمْ وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ "فَقَالُوا رَبّنَا رَبّ السَّمَوَات وَالْأَرْض لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونه" أَيْ غَيْره "إلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا" أَيْ قَوْلًا ذَا شَطَط أَيْ إفْرَاط فِي الْكُفْر إنْ دَعَوْنَا إلَهًا غَيْر اللَّه فَرْضًا...
نعود لما فسره القرطبي:
لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونه: أَيْ لَمْ يُشْرِكُوا بِي كَمَا أَشْرَكْتُمْ بِي مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم .
قَالَ اِبْن هِشَام : وَالشَّطَط الْغُلُوّ وَمُجَاوَزَة الْحَقّ .
. قَالَ اِبْن إِسْحَاق : " هَؤُلَاءِ قَوْمنَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونه آلِهَة لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّن " [ الْكَهْف : 15 ] .
أَيْ بِحُجَّةٍ بَالِغَة . " فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا .
وَإِذْ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّه فَأْوُوا إِلَى الْكَهْف يَنْشُر لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ رَحْمَته وَيُهَيِّئ لَكُمْ مِنْ أَمْركُمْ مِرْفَقًا .
بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْفَاء وَبِالْعَكْسِ مَا تَرْتَفِقُونَ بِهِ مِنْ غَدَاء وَعِشَاء
وَتَرَى الشَّمْس إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَر عَنْ كَهْفهمْ ذَات الْيَمِين وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضهُمْ ذَات الشِّمَال وَهُمْ فِي فَجْوَة مِنْهُ " [ الْكَهْف : 17 ] .
: تَزَاوَر تَمِيل ; وَهُوَ مِنْ الزَّوْر .
. و " تَقْرِضهُمْ " تُجَاوِزهُمْ وَتَتْرُكهُمْ عَنْ شِمَالهَا .
. وَالْفَجْوَة : السَّعَة , وَجَمْعهَا الْفِجَاء .
ذَلِكَ مِنْ آيَات اللَّه " أَيْ فِي الْحُجَّة عَلَى مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورهمْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب مِمَّنْ أَمَرَ هَؤُلَاءِ بِمَسْأَلَتِك عَنْهُمْ فِي صِدْق نُبُوَّتك بِتَحْقِيقِ الْخَبَر عَنْهُمْ . "
وَتَحْسَبهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُود وَنُقَلِّبُهُمْ ذَات الْيَمِين وَذَات الشِّمَال وَكَلْبهمْ بَاسِط ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ " [ الْكَهْف : 18 ]
: الْوَصِيد الْبَاب . وَالْوَصِيد أَيْضًا الْفِنَاء , وَجَمْعه وَصَائِد وَوُصُد وَوُصْدَان .
" لَوْ اِطَّلَعْت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْت مِنْهُمْ فِرَارًا - إِلَى قَوْله - الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرهمْ " [ الْكَهْف : 21 ] أَهْل السُّلْطَان وَالْمُلْك مِنْهُمْ . " لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا . سَيَقُولُونَ " [ الْكَهْف : 22 ] يَعْنِي أَحْبَار الْيَهُود الَّذِينَ أَمَرُوهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهُمْ . " ثَلَاثَة رَابِعهمْ كَلْبهمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَة سَادِسهمْ كَلْبهمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَة وَثَامِنهمْ كَلْبهمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمهُمْ إِلَّا قَلِيل فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ " أَيْ لَا تُكَابِرهُمْ . " إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا " [ الْكَهْف : 22 ] فَإِنَّهُمْ لَا عِلْم لَهُمْ بِهِمْ .
" وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِل ذَلِكَ غَدًا . إِلَّا أَنْ يَشَاء اللَّه وَاذْكُرْ رَبّك إِذَا نَسِيت وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِينِي رَبِّي لِأَقْرَب مِنْ هَذَا رَشَدًا " [ الْكَهْف : 24 ] أَيْ لَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ سَأَلُوك عَنْهُ كَمَا قُلْت فِي هَذَا إِنِّي مُخْبِركُمْ غَدًا , وَاسْتَثْنِ مَشِيئَة اللَّه , وَاذْكُرْ رَبّك إِذَا نَسِيت وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِينِي رَبِّي لِخَبَرِ مَا سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ رَشَدًا , فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَنَا صَانِع فِي ذَلِكَ . (جواب السؤال)
" وَلَبِثُوا فِي كَهْفهمْ ثَلَاثمِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا " [ الْكَهْف : 25 ] أَيْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ . " قُلْ اللَّه أَعْلَم بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْب السَّمَوَات وَالْأَرْض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونه مِنْ وَلِيّ وَلَا يُشْرِك فِي حُكْمه أَحَدًا " [ الْكَهْف : 26 ] أَيْ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا سَأَلُوك عَنْهُ .
تفسير لبعض الايات في هذه القصة:
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم..... " (2)
جاء في تفسير الكشاف للزمخشري أن الرقيم :" اسم لكلبهم. وقيل لوح رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف، وقيل إن الناس رقموا حديثهم نقراً في الجبل، وقيل هو الوادي الذي فيه الكهف، وقيل الجبل وقيل قريتهم" (3) . وجاء في "التحرير والتنوير" للطاهر بن عاشور :"والرقيم: فعيل بمعنى مفعول، من الرقم وهو الكتابة. فالرقيم كتاب كان مع أصحاب الكهف في كهفهم".(4) وأورد الماوردي في "النكت والعيون" سبعة أقوال في الرقيم(5) . وجاء في تفسير البغوي :"قال سعيد بن جبير :هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصصهم -وهذا أظهر الأقاويل- ثم وضعوه على باب الكهف، وكان اللوح من رصاص، وقيل من حجارة، فعلى هذا يكون الرقيم بمعنى المرقوم، أي المكتوب، والرّقم: الكتابة" (6)
واضح مما سبق أنه لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم في معنى الرقيم شيء. ثم إن تعدد الأقوال في المسألة يدل على عدم وجود نقل نطمئن إليه. وعليه يكون من المناسب أن نرجع إلى اللغة لفهم معنى "الرقيم". والمعنى اللغوي يؤيد ما ذهب إليه الجماهير بأن الرقيم بمعنى المرقوم أي المكتوب. فهم أصحاب الشيء المكتوب. ولا يهمنا إن كانت الكتابة على حجر، أو على لوح من رصاص، كما جاء في بعض التفاسير. واضح أن القرآن يريد أن يقول لنا إن هناك شيئاً مكتوبا، وإن هناك من كتب كتابة بقيت من أجل تحقيق هدف. وهنا يثور سؤال: هل أصحاب الكهف هم أنفسهم أصحاب الرقيم؟ الجماهير من المفسرين يقولون: نعم. وهناك من يقول بل إنّ أصحاب الكهف هم غير أصحاب الرقيم. لأن أصحاب الكهف ناموا، والذين كتبوا وخلدوا الحدث هم أناس آخرون. والآية الكريمة تحتمل كما هو واضح.
الناظر فيما تركه الأقدمون من آثار يجد أنهم كانوا يخلدون الأحداث بالكتابة نقشاً على الحجارة المعدّة خصيصاً لذلك، كما فعل الفراعنة وغيرهم، وأحياناً ينقشون ذلك في الأبنية، وفوق الأبواب. وليس من المفيد هنا أن نسعى إلى معرفة الشيء الذي كتب عليه. بل ربما تكون الفائدة في معرفة مضمون الكتابة، ويبدو هذا الآن صعبا، إلا أن تأتي الأبحاث الأثرية في المستقبل بما يكشف لنا بعض أسرار هذه الكتابة، وليس هذا بعيد، فقد عهدنا في هذا العصر أن نفاجأ بين الحين والحين بالاكتشافات التاريخية التي تُجلي لنا ما يسمى "بالإعجاز التاريخي للقرآن الكريم". وما يكتب في هذه الأيام حول الاكتشافات الأثرية في الأحقاف من بلاد حضرموت يصلح مثالاً على ذلك، حيث تم اكتشاف أجزاء من "إرم" ذات العماد، وجاءت الاكتشافات مؤيدة لما ورد في القرآن الكريم.
إذا كانت معرفة مضمون الكتابة بعيدة المنال إلى الآن، فيجدر بنا أن نتدبر إشارة القرآن الكريم إلى الشيء المكتوب الذي له علاقة بأصحاب الكهف، ويشكل أهمية إلى درجة أن يكون له أصحاب :"أصحاب الرقيم". فما هو هذا الشيء المكتوب؟ ولماذا كتب؟
"فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً"(7)
(سنين عددا):أي سنين معدودة، أو سنين ذوات عدد. فهل يراد بوصف السنين أنها معدودة التقليل من عددها أم التكثير؟ هناك من العلماء من يقول بالاحتمالين، وهناك من يقول إنه للتكثير، وهناك من يقول إنه للتقلي. ونحن هنا لا نستبعد أن يكون المقصود أن السنين ال (309) كانت تعد من قبل الناس سنة سنة وهم ينتظرون عودة الفتية الذين غابوا في كهفهم المجهول.
"ثمّ بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً"
نلخص فهمنا لهذه الآية في النقاط الآتية:
ورد في بعض كتب التفسير أن الفتية كانوا ينتمون إلى أسر حاكمة لها شأن في المدينة، وهذا الأمر يجعل الحدث مهما، ومتداولاً بين الناس، وعلى أية حال يبقى هذا التفسير مجرد احتمال ولا يقوم على دليل نقلي صحيح. وأهمية هذا الحدث قد يدفع الناس إلى انتظار عودتهم، وإجراء عد للسني التي غابوها في مكان مجهول.
الاحتمال الأقوى أن نقول إن غيبتهم كانت لحكمة أرادها الله، لذا لا يبعد أن تكون هناك نبوءة لنبي كان الفتية من اتباعه، وتقول هذه النبوءة: إنّ الفتية الذين غابوا في مكان مجهول هم نائمون في كهف، وسيبعثهم الله بعد أن يناموا (309) سنوات. ومعلوم أن النبوءات تحتاج أحياناً إلى تأويل صحيح، أو تكون صريحة لا تحتاج إلى تأويل. فقول يوسف عليه السلام:" يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين"(8) هي نبوءة تحتاج إلى تأويل، وكذلك رؤيا الملك الذي رأى "سبع بقرات سمان يأكلهن سبعٌ عجاف"(9) وكذلك نبوءة قيام إسرائيل وزوالها في القرآن الكريم، (10) فهي محتملة لوجوه في التفسير، في حين نجد أن قول الله تعالى في سورة الروم :"غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين" (11) لاتحتاج إلى تأويل، فيما يتعلق بانتصار الروم بعد سنوات لا تتعدى التسع.
إذن لا يبعد أن تكون النبوءة تحتاج إلى تأويل، ولذلك وجد من الناس من يقول بأنهم سيلبثون في الكهف 309 سنة، وجد من يقول بأقوال أخرى متعددة. ومهما تعددت الأقوال فإنها تبقى في دائرة قولين اثنين فقط؛ القول الذي يذكر العدد الصحيح 309، والأقوال الأخرى التي يجمعها وإن كثرت مجانبتها للصواب. وعند انبعاث الفتية من نومهم تبين أي الفريقين أدق إحصاءً لمدة لبثهم، أي أضبط عداً. وهذا يعني أنهم كانوا قد بدأوا العد من بداية اختفاء الفتية. وهناك احتمال أن تكون النبوءة جاءت بعد اختفاء الفتية بزمن، وجاءت صريحة بأن مدة لبثهم هي 309 سنة، ومن ثم كان الاختلاف في البداية، فلما بُعث الفتية تبين صحة قول الفريق الذي كان قد ضبط زمن الغياب. وعلى أساس فهمنا هذا يكون لفترة غياب الفتية فائدة للمجتع المعاصر وما بعده. فما هي هذه الفائدة؟ قد نجد الجواب فيما سيأتي إن شاء الله.
الذي حملنا على التفسير السابق هو ظاهر النص الكريم :" ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً" :أي ثم بعثناهم ليتبين أي الحزبين أحصى. على اعتبار أن "أحصى" هي فعل ماض، أو ليتبين أي الحزبين أتقن إحصاءً أي عدا، على اعتبار أن "أحصى" اسم تفضيل. ومن هنا لا وجه لافتراض أنّ القولين كانا بعد ظهور أمرهم وتجلي خارقتهم. لأن البعث كان السبب للتبيّن وليس للاختلاف.
"لنعلم أي الحزبين" :يتعلق العلم الإلهي بالأشياء قبل وجودها، وبالأشياء بعد وجودها. ونسمي العلم بالأشياء قبل وجودها (قضاءً). ونسمي العلم بالأشياء بعد وجودها (قدراً). ومن هنا يتبين أنّ المقصود ب "لنعلم" :علم الوجود، أي ليظهر على أرض الواقع أي الحزبين أدق إحصاءً لمدة لبثهم المختلف فيها قبل بعثهم فما الحكمة من اختلاف الناس في مدة لبث أصحاب الكهف؟!
"وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم، قال قائل منهم كم لبثتم، قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم" (12)
ذهب الكثير من المفسرين إلى أن قول أصحاب الكهف:"لبثنا يوماً أو بعض يوم" هو دليل على عدم وجود متغيرات في أجسامهم وملامحهم. إلا أن النص قد يشير إلى خلاف ذلك، لأنه حصل تساؤل بينهم، وهذا التساؤل بدأ بملاحظةٍ من أحدهم لشيء ما دفعه ذلك إلى أن يسألهم :"قال قائل منهم كم لبثتم" وكان الجواب السريع وقبل التحقيق "لبثنا يوماً أو بعض يوم" ولا ننسى أنهم في داخل كهف. وهذا يعني أن الإضاءة قد تكون خافتة لا تسمح بالرؤية الكاملة. ولكن الجوع الشديد، وأموراً أخرى لا بد أنهم لاحظوها بعد التساؤل وتدقيق النظر، جعلهم في حيرة وبلبلة تعجز عن تفسير هذه الأمور التي لاحظوها ولذلك قالوا :"ربكم أعلم بما لبثتم" ودفعهم الجوع الشديد إلى تجاوز هذا الموقف، ولا شك أن الحاجات العضوية وإلحاحاتها كثيراً ما تجعل الإنسان يذهل عن ملاحظة واقعه، بل لا نجد عندها لدى الإنسان أي رغبة لمناقشة أية أمور لا تلبي هذه الحاجة :"فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً" . ومن البدهي أن الحاجة العضوية لا تضغط إلى درجة تجاوز الحاجة إلى الأمن والسلامة :"وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا" . ومن الملحوظ أن الفتية لم ينسوا إيمانهم ورسالتهم، حيث يظهر تماماً تمسكهم والتزامهم بشرع الله :"أيها أزكى طعاماً إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم، ولن تفلحوا إذاً أبداً" (13) ، فهم يصرون على الطعام الحلال، ويعتبرون العودة إلى الشرك ضلالاً لا فلاح بعده.
|